أصبح موضوع التحرش مادة رائجة في وسائل الإعلام، إلاأن زاوية المعالجة دائما ما تكون متحيزة، حيث تلقي بكامل المسؤولية على الرجل، وتُظهر المرأة دائما في دور الضحية، لذلك فإن الموضوع يحتاج لدراسة موضوعية وتحليل واقعي يلقي الضوء على الجوانب المسكوت عنها في النقاش العام. أولا يجب طرح قضية التحرش في سياقها العام، بعيدا عن التوظيف الإيديولوجي الذي أضّر بالمرأة من حيث يزعم أصحابها الدفاع عنها، مما جعلنا نبتعد عن وصف العلاج، بسبب التشخيص الخاطئ لهذا الداء المزمن. ولأجل التعرف على رأي المغاربة حول الموضوع، عمدت إلى استطلاع آراء بعض الشباب، ثم أردفت بشهادات لبعض مشاهير الفن والسياسة. وهكذا، وضعت أسئلة محددة على عينة من الطلبة الجامعين، ذكورا وإناثا، وجاءت الأسئلة على الشكل التالي: 1- مفهوم التحرش؟ 2- أسباب التحرش؟ 3- هل للتحرش علاقة باللباس؟ قبل أن أعرض لأجوبة العينة المستطلعة، لا بد من أن أسجل ملاحظة، وهي أنني لم أتلق جوابا لدى الشباب المستجوبين حول مفهوم التحرش.. فقمت بتغيير السؤال: متى يبتدئ فعل التحرش، هل من مجرد التعبير بكلمة.. أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى الملاحقة..؟ وقد جاءت أجوبة عينة الشباب المستطلعة كالآتي: * أمامة: أجابت بأن التحرش يبدأ بمجرد التعبير اللفظي من طرف الرجل للمرأة، سواء كان ذلك التعبير عبارة عن كلمات إعجاب أو نحوها، كما أكدت أن التحرش له علاقة بشكل اللباس، وإن كان ذلك - كما صرحت- ليس في جميع الحالات. وقد عبرت في ختام كلامها عن استيائها من الازدحام والاختلاط بين الجنسين الذي تعرفه وسائل النقل والذي يكون عاملا محفزا للشباب للتحرش بالفتيات. * سارة: صديقة أمامة عبرت عن نفس وجهة نظر أمامة. مصعب: بالنسبة لهذا الطالب فإن التلفظ بكلمة لاستمالة فتاة هو تحرش، وأضاف بأن شكل اللباس يشجع الشباب على التحرش. * رشيد: التحرش حسب رأيه هو فعل مرتبط بطرفين ذكر وأنثى، وهو يبدأ عندما يصبح الرجل أو الشاب مزعجا، وهو في نظره غير مرتبط باللباس، بل هو راجع لانعدام التربية الجنسية. * فاطمة: اعتبرت مجرد النظرة بالعين تحرشا، وقالت إنها أخطر من الكلام، لأن التحرش بالعين غير ظاهر وبالتالي لا يراه أحد إلا المتحرش بها، وأكدت أن من أسباب التحرش هو انعدام الثقافة الجنسية، واعتبرت أن اللباس يمكن أن يكون سببا في التحرش، لكن ذلك يتوقع على الشخص المتحرش (تقصد تربيته وأخلاقه). * محمد: اعتبر أن التحدث إلى فتاة لا تعرفك يعد تحرشا، وأكد بشدة على أن اللباس يعد سببا دافعا للتحرش، إضافة إلى انعدام التربية. * إبراهيم: يتفق مع فاطمة في أن النظرة قد ترقى إلى فعل التحرش، واعتبر أن الطرفان مسؤولان عن فعل التحرش، وأن غياب التربية والأخلاق والدين لدى الطرف الذكوري يعد سببا في التحرش، ومن جهة اعتبر الطرف الأنثوي مسؤولا عن التحرش بسبب شكل اللباس، وأن الأسرة والإعلام والمجتمع يتحملون المسؤولية في انتشار الظاهرة. طبعا هذه الآراء المقدمة حول موضوع التحرش على اختلافها وتنوعها، فهي لا تقدم صورة كاملة عن وجهات النظر الرائجة في المجتمع، لكنها تقربنا من واقع الاختلاف والتباين بين الآراء، ومن وجود تضارب وغموض يحيط بالموضوع، وحتى لو أجرينا استطلاعا موسعا ليشمل عددا كبيرا من الناس، فإنه بالتأكيد لن يبتعد كثيرا عن الأفكار الأساسية التي قدمتها العينة المستجوَبة. ولكي أزيد الأمر وضوحا، أستعرض شهادات بعض نجوم الفن والسياسة حول ظاهرة التحرش، حسب ما أوردته الجريدة الإلكترونية "فبراير.كوم": * لطيفة رأفت: التحرش هو السلوك المرضي الذي يتعرض له الصغار والكباروالذي يستبيح الأجساد. وللأسف، عادة ما يكون الصغار، وخصوصا الفتيات، في مجتمعاتنا عرضة للتحرش، مع العلم بأن كل الديانات تحرمه، لكنه يتفشى كلما تدنت التربية الجنسية وتراجعت القيم الإنسانية والأخلاقية.. * سناء عكرود: للأسف، يحز في نفسي أن أقولها لكنها الحقيقة، الرجل المغربي عموما لا يحترم المرأة في الشارع... * سهام أسيف: صدقيني، أنا لست نسوانية، ولا أريد أن أكون متعصبة للنساء، ولكن هناك ما يدفعني إلى أن أكون كذلك، فهناك نوع من النظرات المتحرشة بي التي أحس كما لو أنها تعريني وتستفزني وتجردني من ملابسي قطعة قطعة. * فاطم العياشي: عكس ما يعتقد البعض في مخيلتهم المريضة، حينما نكون مولعات بالموضة وبالتجمل والحرص على أن نكون في أجمل صورة، فليس طمعا في التحرش بنا، وإنما بحثا عن الرضا عن النفس وتحقيق الانسجام والطمأنينة الداخليين، والتناغم بين جمال الروح وجمال المظهر والجسد، اللذين لا يتنافيان مع بعضهما البعض، ولا يمكنهما أن يكونا بأي حال من الأحوال دعوة إلى التحرش. * لطيفة أحرار: لا يمكنني أن أضع تعريفا محددا للتحرش، إنه شيء مبهم، أو لنقل فضفاض، أي غير دقيق، لكن بإمكاني أن أحكي عنه، إنه يتكرر في القطار وفي الشارع وفي العمل، وفي كل هذه الفضاءات يمكن أن تتعرض فيها المرأة للتحرش... لا أنزعج من هذه التصرفات، لكن خلفياتها هي التي تزعجني أكثر... * نزهة الصقلي: التحرش قد يكون إشارة، نظرة أو عبارة، وقد يكون الخطوة الأولى للاغتصاب.. ألاحظ يوميا كيف يتم التعامل مع النساء في الشارع وفي كل الفضاءات العمومية، حيث غدا التحرش الجنسي بالنساء سلوكا عاديا يتم التطبيع والتعايش معه وكأنه قدر محتوم. * خديجة الرويسي: حينما التحقت بالمدرسة، تعرفت على معنى التحرش، لأنني تعرضت له، إنه مؤلم، يترك في الأعماق جراحا تتطلب وقتا طويلا لكي تندمل، خصوصا ذلك التحرش الشفهي الذي يحمل كل الأوصاف والعبارات المؤلمة… وإذا كانت هذه الشهادات تقدم لنا بعض صور التحرش، فإنها توضح اختلاف وجهات النظر حول موضوع التحرش، كما تؤكد على أن هناك ضبابية تحيط به، يعود بالأساس إلى عاملين: أولا اختلاف المستوى الثقافي، وثانيا الخلفية الفكرية.. وبالتالي ما يعتبر تحرشا عن البعض قد لا يبدو تحرشا عند البعض الآخر، وهو ما عبرت عنه الممثلة لطيفة أحرار حينما صرحت بأن التحرش لا يزعجها وإنما خلفياتها هي التي تزعجها.. وفين عبرت سهام أسيف عن انزعاجها من مجرد النظرة غيرالبريئة.. بعد عرض الآراء المختلفة، لا بد من الاعتراف بأن موضوع التحرش وإن كان من الموضوعات التي استُهلِكت إعلاميا، إلا أن النقاش دائما ظل محكوم بخلفيات إيديولوجية "نسوانية"، تنتصر لطرف وحيد وتحمله المسؤولية، حيث إن المقاربة العلمانية- النسوانية لا زالت تهيمن على التحليل والنقاش المتعلق بالمرأة، والتي لا تناقش بالمطلق التحرش الذي يتعرض له الرجل، لذلك فإنني من خلال هذه المقاربة سأحاول الابتعاد عن الأطروحة الاختزالية لظاهرة التحرش. قبل الخوض في التفاصيل، أود أن أحدد المعنى اللغوي للتحرش، فهو يعني: التّعَرُّض، يقال: تحرش به أو بها: أي تعرّض له أو لها، والكلمة أصبحت تستخدم في الإعلام للدلالة على اعتراض الرجل للمرأة بالنظرة أو الكلام أو نحوه.. بل وحُصرت حصرًا في الحالات التي تتعرض فيها المرأة فقط إلى المضايقات. هناك تحرش مسكوت عنه، وهو تحرش بعض النساء بالرجال، والذي يتخذ عدة مظاهر، بدءا باللباس العاري والمثير، إلى النظرة والكلمة وحركات الجسد، وقد يصل الأمر إلى الملاحقة.. وهذا الأمر أصبح معروفا لدى الجميع، لكن هذاالجانب لايتم التطرق له في وسائل الإعلام، لأننا نعيش في زمن "الهيمنة النسوانية". هناك حالات كثيرة تكون فيها المرأة أو الفتاة متحرشة بالرجل، لكن طبيعة المرأة تجعلها تميل إلى أساليب ماكرة للتحرش لا تثير انتباه من حولها.. وأعرف حالات كثيرة تعرضت للتحرش.. لكن ما يجعلها غير ظاهرة، هي أن عقلية بعض الرجال تجعله يعتقد أن تحرش المرأة به مصدر فخر، ولذلك فإما أنه يبدي تجاوبا معها أو يتصنع اللامبالاة.. لنكن صرحاء، هل ما نشاهده من عُري فاضح في كل مكان، والتنافس الهستيري بين الفتيات على إبراز مفاتنهن للرجال... أليس هذا تشجيع للرجال على التحرش؟ ألا تعلم الفتاة أو المرأة أنها حينما تخرج عن الحياء والحشمة، فهي تعرض نفسها للتحرش؟ الشيء المثير للسخرية، هو أن "النسوانيات" (وهم النساء و"الذكور" الذين يشيطنوا الرجل ويقدسوا المرأة)، يدافعن عن حرية النساء في التعري، باسم الموضة أو الحرية الشخصية.. دون اعتبار لتأثير ذلك على الرجل، فيما يبدو أنهن لا واعيات بأن تلك المشاهد المخلة بالحياء تؤذي الرجال، وخاصة الذين هم ضد التحرش بالنساء.. نؤكد على أن ظاهرة التحرش، يتحمل مسؤوليتها الرجل والمرأة على حد سواء، من جهة الفتاة التي تخرج من بيتها مستعملة جميع أنواع المثيرات للرجل، من لباس كاشف لتفاصيل جسمها، وعطور نفاذة، ومساحيق فاقعة وحركات متمايلة.. ومن جهة أخرى، فإن الرجل الذي لا يحترم المرأة كما يحترم إحدى قريباته، هو إنسان عديم الأخلاق والتربية، وإن ممارسته لفعل التحرش إهانة له قبل أن يكون إهانة للمرأة.. والتحرش سواء كان صادرا عن الرجل أو المرأة، هو انحراف سلوكي، إذا أردنا محاربته لا يكفي إصدار قانون يجرمه ويعاقب عليه، بل لا بد من تحمل الطرفين للمسؤولية، من خلال حرص المرأة على ارتداء لباس يحفظ كرامتها، ويبعدها عن النظرات الطائشة والعبارات الخادشة.. و بذلك تكون قد حصنت نفسها ضد كل تحرش، دون حاجة إلى تدخل القانون. أما ما تقوم به النسوانيات من إلقاء اللوم على طرف دون آخر، فهو لن يزيد المشكل إلا تفاقما، خاصة مع إصرار هذه النخب على تغييب المقاربة الدينية للظاهرة، والتي يمكنها أن تقدم علاجا ناجعا من دون مضاعفات جانبية.. لو قمنا بحملة تحسيس واسعة النطاق، عبر وسائل الإعلام المختلفة، للتوعية بأهمية التربية الدينية في ضبط سلوك الأفراد داخل المجتمع، واستحضار الأدلة الشرعية التي تدعو لاحترام المرأة وصون كرامتها.. فإن ذلك من شأنه أن يكون عاملا محفزا على التزام الجميع بضوابط أخلاقية، ترسخ دعائم الاحترام المتبادل بين الجنسين، وهذا ليس كلام مثالي، وإنما ثابت في الواقع، حيث نجد الأشخاص الملتزمين دينيا رجالا ونساء، لا يحصل بينهم تحرش كقاعدة عامة، وإذا حصل فهو استثناء لا يقاس عليه...