شهد التاريخ العديد من الثورات الشعبية العفوية أو العشوائية، التي اتسمت في شكلها وأدائها بكثير من الفوضى. بعض هذه الثورات حققت نتائج إيجابية وغيرت مجرى تاريخ الشعوب، ربما أكثر من الثورات المنظمة والموجهة وفق خطط معدة مسبقا، إلا أنها في النهاية لم تحقق للشعوب ما تحلم به، وذلك لأنها كانت دائما بسبب عفويتها وعدم تنظيمها، عرضة لمصير واحد، وهو صعود قوى مضادة أو رجعية على صهوة هذه الثورات، وتوجيهها وجهات أخرى عكسية إينا ميخائيلوفنا ومثال واضح على ذلك الثورة الفرنسية عام 9871، التي اندفعت بها البورجوازية الفرنسية المتأثرة بأفكار مونتسكيو وفولتير وروسو المثالية، ضد سيطرة حكم النبلاء الفاسدين، معتبرة نفسها ممثلة لطبقات الشعب الفرنسي المطحونة والفقيرة. ورغم نجاح هذه الثورة في إسقاط الباستيل وتغيير تاريخ فرنسا، وربما العالم كله، إلا أنها لم تحقق آمال الشعب الفرنسي، والنظام الجمهوري الذي وضعته لم يدم ثلاثة أعوام، وانهار أمام تحالف الجيش مع البورجوازية لتأسيس نظام إمبراطوري نابوليوني، أكثر دكتاتورية وقمعية من النظام الملكي الذي أسقطته الثورة. وهذه النتيجة كانت دائما مصير الثورات الشعبية العشوائية، التي تقوم بمنطلقات وشعارات مثالية وتنتهي بنتائج مأساوية. هذه المقدمة ليست عرضا تاريخيا، بل هي ما نراه يحدث أمامنا الآن على الساحة في الشرق الأوسط، من ثورات شعبية عارمة ضد أنظمة استبدادية قابعة في السلطة لسنوات وعقود طويلة، هذه الثورات التي يؤكد الكثيرون على أنها شعبية نقية، وخالية من أي دسائس وخطط وتوجيهات من جهات أجنبية، على الأقل حتى الآن، حيث أنه ليس من المستبعد أن يغري الأمر جهات أجنبية لاستخدام هذا المد الثوري، لإشعال الحماس الشعبي وتوجيه الجموع الشعبية بأيادٍ خفية لتحقيق مصالح أجنبية. وهذا أمر وارد، ليس فقط في الدول العربية أو في الشرق الأوسط، بل في مناطق ودول أخرى صغيرة وكبيرة أيضا، وقد سمعنا الكثير عن توقعات بوصول هذا المد الثوري الشعبي إلى دول مثل روسيا والصين والهند، وحتى دول غربية في أوروبا وفي الأميركتين. ومن المعروف عن دولة مثل روسيا، خبرتها وزخمها التاريخي بالعديد من الثورات والانقلابات، سواء قبل الحقبة السوفيتية أو بعدها، وربما من منطلق هذه الخبرة جاء التحذير الذي أطلقه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أثناء زيارته لبريطانيا في الأسبوع الأخير من فبراير المنصرم، حين قال «نحن في روسيا لدينا خبرة عالية بالثورات، ونعلم جيدا ما يحدث بعد هذه الثورات». وحذر لافروف في حديثه بشدة من الانجراف وراء تأييد هذه الثورات ودعم الأنظمة التي تأتي بها، مطالبا بالتريث والحذر الشديد في دعم أي نظام أو قوى جديدة تتولد عن هذه الثورات. الحقيقة أننا لا نشكك في نقاء ووطنية هذه الثورات ومن يقومون بها من جموع شعبية مدفوعة تحت ضغوط القهر والقمع والفساد والفقر وغيرها، ولكن ما نخشاه هو أن هناك جهات كثيرة تترصد وتحاول استغلال نقاء وعفوية ومشاعر الجموع الثائرة، وتوجيهها في اتجاهات أخرى عكسية ومضادة تماما لمصالح الشعوب والأوطان. وهذا الأسلوب هو الذي تمارسه واشنطن بالتحديد الآن مع هذه الثورات، وهو ما فعلته في تونس ومصر وليبيا. ونتساءل هنا عن الحراك الشعبي الدائر في دول أخرى، مثل اليمن والجزائر والبحرين وغيرها، لماذا لا تبادر واشنطن من الآن إلى تأييده ودعمه؟ وماذا تنتظر؟ وهناك أنظمة أخرى حاكمة في دول أخرى، وتصفها جهات كثيرة في الغرب وواشنطن بالقمعية والدكتاتورية والفساد وخرق حقوق الإنسان وانعدام الديمقراطية، ورغم هذا تدعم أوروبا وواشنطن هذه الأنظمة، وتمدها بالسلاح والمال لتساعدها في قمع شعوبها، طالما لم تثُر هذه الشعوب بعد. مشكلة هذه الثورات الشعبية العشوائية، أنها قد تستطيع بالفعل أن تطيح برأس النظام، لكنها قد لا تستطيع الإطاحة بالنظام نفسه. ومهما حققت هذه الثورات الشعبية من نتائج، فإنها لا تبلغ الإنجاز الكبير، وهو التغيير الحقيقي في المجتمع، لأنها تفتقر إلى الخطط والاستراتيجيات والمؤسسات الثورية التنظيمية، التي تدير الأمور في وقت الفوضى الثورية. الثورات الشعبية العشوائية في الشرق الأوسط محل دراسات وتحليلات كثيرة في الغرب وواشنطن الآن، ومن ضمن ما قيل عنها ونشرته صحيفة «واشنطن بوست» في افتتاحيتها، علي لسان خبراء ومستشارين استراتيجيين مقربين من البيت الأبيض الأميركي، أن هذه بالفعل هي «الفوضى الخلاقة» التي كانت تبحث عنها إدارة الرئيس بوش الابن في الشرق الأوسط وأفغانستان ولم تصل إليها، وتقول الصحيفة الأميركية «لقد أتت هذه الفوضى الخلاقة الجديدة إلينا على طبق من ذهب، فهل نلتقطها أم نضيعها من أيدينا؟». واشنطن بوست، التي هي لسان حال المحافظين الجدد في أميركا، تشير في افتتاحيتها إلى نقطة هامة للغاية، وهي أن الجموع الشعبية الثائرة في الشرق الأوسط، لا تهاجم السياسة الأميركية في المنطقة، على عكس ما هو متوقع باعتبار أن واشنطن كانت تدعم هذه الأنظمة الحاكمة المستبدة وتعتبرها أنظمة معتدلة، بينما الأنظمة المستبدة هي التي تنتقد السياسة الأميركية وتتهمها بأنها وراء الحراك الشعبي ضدها، رغم أن هذه الأنظمة كانت الأقرب لواشنطن. فهل تستفيد أميركا من هذا الأمر وتنتهز الفرصة لامتطاء هذه الثورات وتوجيهها حيثما تريد؟ ربما هذا هو الذي تحذر منه موسكو الآن