الحلقة الأولى محمد بنسعيد أيت إيدر، ليس اسما عابرا في التاريخ الوطني المغربي، عاش حياته ماخرا عباب بحر السياسة في المغرب واكتوى بتقلباته وخبر مفاجآته. شابا جاء من شتوكة آيت باها، بلاد الفقيه والعلامة المختار السوسي، ومنها إلى مراكش، حيث سينسج هناك مصير شاب حيوي حر ومتوثب لمغرب الاستقلال. بدأ معركة الحصول على الاستقلال مع رفاقه في قيادة المقاومة وجيش التحرير، ولم تنته المعركة مع مغرب ما بعد الاستقلال. خبير في مسالك السياسة في البلاد، ويعرف جيدا مداخلها ومخارجها، طموحه الوطني الصميمي، كان دافعه القوي للقاء مع أجيال السياسة في المغرب. أسس رفقة شباب يساريين منظمة 23 مارس، وكان الحلقة الجامعة للخلافات، ومصهر التجربة الحقيقي، وعاد من المنفى في 1981 ليؤسس مع رفاقه منظمة العمل الديمقراطي الشعبي في 1983، لتبدأ فصول جديدة من حياة اليسار الجديد في المغرب. يعاود المناضل و"الرفيق" محمد بنسعيد في "عاشها ويرويها" الوقوف على محطات أساسية من حياته كرجل وطني وكقائد من قيادات جيش التحرير، ويقدم إضاءات حول أكثر من سبعة عقود من العمل السياسي لرجل نزيه وسياسي مخضرم وأحد أوجه النظافة السياسية القليلة في البلاد. ---------------------- سؤال: نود أن تحدثنا عن البدايات الأولى، ومناخ مغرب العشرينيات من القرن الماضي، الذي ولدت فيه؟ جواب: ولدت في سنة 1925 بقرية تينمنصور، في فترة ما تزال القوات الاستعمارية تواجه بمقاومة شديدة من مجاهدي جنوب المغرب، وبجباله في الجنوب الشرقي من البلاد، وبمناطق لخصاص وأيت باعمران، تكبدت فيها جيوش الاحتلال ومرتزقته من المغاربة خسارات ثقيلة. أذكر، في هذه المرحلة، وأنا في سن مبكرة، أنني كنت أشاهد أفواجا من جيوش الاحتلال تمر أمام قرية تينمنصور، في صفوف طويلة، عبر عربات تجرها البغال، متجهة نحو الجنوب، وأحيانا كانت تنصب خيامها للاستراحة أو لقضاء الليل بها، فالمنطقة آنذاك لم تكن بها طرق معبدة ولا شاحنات النقل. ويثير انتباهنا كأطفال عديد من النفايات من علب السردين ولفافات من التبغ، وهي أشياء حديثة من الصناعة لا نفهم أصولها، وتثير فضولنا للبحث عنها. كما عشت جزءا مهما من السياسة، التي كانت تنهجها الإدارة الفرنسية تجاه أبناء المنطقة، الذين كانوا يشعرون بثقل الاحتلال، الذي فرض عليهم، منذ البداية، الخدمة الإجبارية، والعمل في أوراش شق الطرق، وبناء مكاتب لمصالح إدارية، والثكنات العسكرية لتثبيت سيطرتها المباشرة على السكان، وشرعت أيضا نوعا من الضرائب على الفلاحين تدعى "الترتيب"، وقع إلغاؤها في عهد حكومة عبدالله إبراهيم. وأذكر أيضا أن والدي، رحمه الله، كان لا يقضي كثيرا من أوقاته في القرية، إذ كان يتنقل بشكل مستمر، في أسفار إلى كل من مراكش، وشمال المغرب، إلى الصحراء الجنوبية وأيت باعمران، كانت تفرضها عليه مهامه التجارية، في البيع والشراء في الجمال والخيل والبغال، فهذه التجارة تعتبر مناسبة في ربط علاقات متنوعة مع زملاء له في المهنة، ولقد تموقعت أسرتي في فضاء من العلاقات الواسعة حتى أصبحت "دار أيت إيدر" بقرية "تينمنصور" مركزا معروفا بنشاطه التجاري والاجتماعي، وملتقى معروفا لدى عديد من شرائح المجتمع القروي. في هذا الجو العائلي والقروي، عشت جزءا مهما من طفولتي كتلميذ بالمسيد، حفظت فيه القرآن الكريم، بقراءات ثلاث، بعدها لم يبق أمامي سوى الانتقال إلى مدرسة سيدي محمد الشيشاوي بالقبيلة، لتعلم اللغة العربية والنحو والفقه، لكن المدة لم تكن طويلة، ورغبة مني في تطوير معلوماتي والاطلاع على فضاءات أخرى، وللتحرر نسبيا من الوسط العائلي وطقوسه، تحولت إلى مدرسة "أبو عبدالله" في محيط مدينة تيزنيت، وموقعها مجاور لحدود المنطقة "الإسبانية". بهذه المدرسة، تشكلت اللبنات الأولى لشخصيتي عندما بدأ الاهتمام بما يجري حولي في المغرب وفي العالم الخارجي، وسمحت لي ظروفي المادية بفتح علاقات إنسانية متنوعة، ومع وجوه من المواطنين وأعيان المنطقة بآيت إبراهيم، ولمست خلالها التصرفات المهينة من طرف ضباط الشؤون الأهلية الفرنسيين مع السكان المغاربة، كما تصلني أصداء أخرى من المناطق الخاضعة للاحتلال الإسباني. من هذه المدرسة، كنت أتابع أخبار الحرب العالمية الثانية، وانعكاساتها القاسية على أغلب السكان المغاربة، في ما اشتهر بأيام "البون"، وما نتج عنها من جفاف ومجاعة وانتشار الأوبئة، التي راكمت جثث الأموات في القرى والمدن، دون أن تجد من يدفنها، ورغم فظاعة الحياة الصعبة، فإن الطلبة كانوا يتابعون أخبار الحرب، وإن كانت وسائل الاتصال مقتصرة على الأخبار الشفوية في غياب الصحافة والراديو. وكنت، بفضل تنوع اتصالاتي، أجد المصادر المهمة للمعلومات الجديدة عن الحرب، فهناك أخبار خاصة تصلني من مدينة إيفني يغلب عليها دعايات المحور، التي يرددها النظام الفرانكوي والموجهة ضد فرنسا. اللقاء مع الفقيه محمد المختار السوسي سؤال: انتقلت بعد ذلك إلى مراكش، حيث استكملت دراستك الجامعية، كيف عشت هذه المرحلة من حياتك؟ جواب: انتقلت إلى مدينة مراكش في مرحلة عرفت بلادنا انفراجا سياسيا، بعد الحرب العالمية الثانية، قرر فيها المقيم العام الفرنسي إريك لابون إطلاق سراح المعتقلين المحجتزين في السجون أو في المنافي البعيدة عن وطنهم، عاد فيها كل من علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال، ومحمد بلحسن الوزاني زعيم حزب الشورى والاستقلال، وأحمد بلافريج من منافيهم، كما أن العالم الجليل محمد المختار السوسي سمح له بمغادرة مكان إقامته الجبرية بقرية "إليغ"، التي دامت قرابة تسع سنوات، قضاها العلامة في البحث والدراسة لكشف ما تخزنه سوس العالمة، وقد لبيت دعوته بالذهاب إلى مدينة مراكش لمتابعة دراساتي العلمية، عند زيارته لمدرسة "أبو عبدالله"، وهذه فرصة ثمينة أخرجتني من مناطق معزولة إلى الفضاءات المفتوحة على المدن الحضرية والعالم الخارجي. مدرسة الرميلة فتح الأستاذ العلامة من أجلنا مدرسة خاصة في زاوية طائفة الدرقاوي بالرميلة، في مدينة مراكش، تقتصر مهمتها على تنفيذ برنامج دراسي مكثف ومستعجل لمجموعة من الطلبة، من أصول ريفية، تشكل مرحلة انتقالية يتعلمون فيها ما يضمن لهم الالتحاق بكلية بنيوسف، في مستوى متقدم، وأوصلني الاختيار إلى السنة الرابعة من الثانوي، إلى جانب متابعة برنامج الكلية العادية، فإنني ملزم بحضور دروس إضافية يعطيها الفقيه المختار السوسي في أوقات اختيارية، تتعلق بتفسير القرآن الكريم والحديث النبوي، والأدب العربي، كانت تحدد لها أوقات خاصة، ويشارك في دروسه هذه أفواج من الطلبة من كلية بنيوسف وخارجها لما لها من أهمية وللطريقة المرحة، التي يلقن بها الأستاذ السوسي دروسه الأدبية للطلبة الشباب.