هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مساهمات الأندلسيين والمغاربة في الحروب الصليبية في مصر والشام
نشر في السند يوم 13 - 10 - 2010

في الحديث عن المساهمات الأندلسية والمغربية في المعارك ضد الصليبيين في الشام ومصر، لابد من القول بادئ ذي بدء، إن الذين اشتركوا في هذه المعارك من الأندلسيين والمغاربة، كانوا مقيمين في مصر والشام، ولم يكونوا قد قدموا من الأندلس والمغرب لهذا الهدف كما قد يتراءى للبعض لأول وهلة. وهنا يمكن أن يُطرح السؤال التالي، هل كان في المشرق ولا سيما في الشام ومصر في فترة الحروب الصليبية مغاربة وأندلسيون مقيمون بصورة دائمة؟
للجواب عن هذا السؤال، لابد من القول، أن نسبة كبيرة إلى حد ما من الأندلسيين والمغاربة هاجرت إلى المشرق وصورة خاصة إلى مصر والشام، واستقرت حيث طاب لها الاستقرار والحياة. فما سبب هجرة هؤلاء من الأندلس والمغرب؟، وما هي العوامل التي شغلت دوراً فعالاً في اجتذاب واستقطاب هؤلاء المغاربة والأندلسيين إلى الشام ومصر؟
يمكن تقسيم وبحث هذه الأسباب والعوامل إلى قسمين، نبحث في القسم الأول وبشكل موجز الأسباب القاهرة، التي أجبرت عدداً كبيراً من الناس على مغادرة الأندلس، حيث توجهوا إلى المغرب والمشرق في وقت واحد، ثم بعد ذلك كان بعض من وصل منهم إلى المغرب، يتركها لأسباب اقتصادية ويتوجه إلى بلدان المشرق العربي وهكذا حتى نهاية القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي. ونبحث في القسم الثاني العوامل الجاذبة، التي شجعت هؤلاء المهاجرين على الإقامة في أرض الشام ومصر وبقية أجزاء الوطن العربي الكبير.
فمنذ نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي/ وقبل ذلك بقليل بدأت تظهر على الساحة العربية في الأندلس عوامل جديدة، اتسمت في معظمها بالسلبية شبه المطلقة، ويقصد بهذه العوامل مجموعة الاضطرابات والتبدلات السياسية، التي حدثت على الصعيد الداخلي في الأندلس، وأيضاً تلك الأخطار التي أحدقت بالأندلس وسكانها من جراء الهجمات الإسبانية الفاعلة. فالاضطرابات الداخلية وعوامل عدم الاستقرار، أضحت عناوين مزعجة للعرب المسلمين في الجناح الغربي من ديار العرب والإسلام، ولا سيما خلال الفترة التي تلت نهاية العقد التاسع من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. فقبل هذه الفترة على سبيل المثال لم تكن الأندلس قد عانت من مثل هذه الاضطرابات، التي اتسمت بالقلق والتأثير على السكان، مما أدى إلى ظهور مجموعة كبيرة من الناس، لم يكن أمامها من خيار سوى الرحيل عن أرض الوطن إلى غير رجعة. فقد سقطت دول الطوائف نهائياً في الأندلس، وقامت على أنقاضها دولة المرابطين من سنة 485-541ه/ 1092-1146م، وخلفتها دولة الموحدين التي حكمت فترة لا بأس بها استمرت من سنة 541- 668ه/ 1146-1270م.
وهذا التبدل في الدول كان يترافق بتبدل عقائدي، الأمر الذي أثر على فئة ليست قليلة من الشعب الأندلسي، وكونت طبقة معارضة للحكم في عهد المرابطين والموحدين على حدٍ سواء. وهذه التبدلات العقائدية لم تتخذ شكلاً واحداً فقد تبلورت في اتجاهين رئيسين، الأول ظهر بالولاء السياسي من قبل فئة من الأندلسيين لبعض دول الطوائف. وهذا ما ظهرت نتائجه غداة سيطرة المرابطين على الأندلس.. الاتجاه الثاني ظهر من خلال التبدل على صعيد العقيدة الدينية نفسها عندما سقطت دولة المرابطين على أيدي الموحدين، فبينما كانت حركة المرابطين حركة فقهية مالكية مثلها الأعلى تطبيق الشرع الإسلامي وفق أحكام المذهب المالكي، كانت حركة الموحدين تجمع كل تيارات الفكر الإسلامي المعاصر"(1)" .
وهكذا فبعد أن سيطر المرابطون على الأندلس، ظهر في المجتمع الأندلسي فئة من الناس، تدين بالولاء السياسي للحكم البائد، الذي تمثل بحكام الطوائف وكذا الحال بالنسبة للمرابطين، عندما ظهر لهم مؤيدون، لم يتمكنوا بتأثير ولائهم من الاستمرار في ظل الدولة الموحدية. وقد شكل هؤلاء المعارضون مجموعة تضررت مصالحها العامة أكثر من غيرها. يضاف إلى كل ذلك أن عوامل الاستقرار في الأندلس منذ زوال الخلافة الأموية، لم تكن مدعاة للثقة والاطمئنان بشكل كامل، بحيث يمكن القول إن عوامل الاستقرار، كانت هشة الأسس والبنيان، بفعل الحروب التي كانت شبه مستمرة بين الدول والمعارضة في عهد المرابطين والموحدين على حد سواء. والأمثلة كثيرة في مجال التأثر من جراء تعاقب الدول وتبدلها على الساحة الأندلسية، أذكر منها على سبيل المثال والد أبي بكر بن العربي، الذي كان أحد الرجال الأقطاب المعروفين في إشبيلية، والذي غادرها على أثر سقوط دول الطوائف خوفاً من المرابطين"(2)". وعند سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين، كان من الطبيعي نزوح من ينتمون للأسرة الحاكمة سابقاً، كما هو حال أمين الربوة، الذي تحدث عنه الرحالة الأندلسي ابن جبير عند زيارته لمدينة دمشق في أواخر القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، بصورة وكأنه يشعر بمسؤولية الحاكم تجاه رعاياه، فيحاول تدبير أمور القادمين من الأندلسيين، الذين أصبحوا بدون أرض ولا مأوى فيقول: "والأمين فيها أي الربوة من بقية المرابطين ومن أعيانهم يعرف بأبي الربيع سليمان بن إبراهيم بن مالك، وله مكانة من السلطان ووجوه الدولة، وله في الشهر خمسة دنانير حاشا فائدة الربوة، وهو متسم بالخير ومرتسم به، وهو متعلق بسبب من أسباب البر في إيواء أهل المغرب من الغرباء المنقطعين بهذه الجهات، يسبب لهم وجوه المعايش من إمامة في مسجد أو سكن بمدرسة، تجري عليه فيه النفقة، أو التزام زاوية من زوايا المسجد الجامع، يجبى إليه فيها رزقه، أو حضور في قراءة سبع، أو سدانة مشهد من المشاهد المباركة يكون فيه، ويجري عليه بما يقوم به من أوقافه، إلى غير ذلك من الوجوه المعاشية على هذه السبيل المباركة مما يطول شرحه""(3)".
ولعل أوضح مثال على الحالة السياسية وتبدل الدول، هو ما جاء على لسان الوهراني بعد سقوط دولة المرابطين بقوله: "لما تعذرت مآربي واضطربت مغاربي ألقيت حبلي على غاربي، وجعلت مذهبات الشعر بضاعتي ومن أخلاق الأدب رضاعتي..."(4)" وقد عبر الوهراني عن كرهه الشديد للموحدين من خلال جوابه على سؤال حول رأيه في عبد المؤمن بن علي الموحدي وأولاده وسيرته ببلاده فقال: "مؤيد من السماء، خواض للدماء، مسلط على من فوق الماء، حكم سيفه في المعمم، وأعمه في رقاب الأمم... ولو أن للعلم لساناً والورقةإنساناً لتألمت وتظلمت ولأنشدتك في الملا قول الشيخ أبي العلا:
جلوا صارماً وتلوا باطلاً *** وقالوا صدقنا فقلنا نعم
ولكن السكوت على هذا أرجح ومسالمة الأفاعي أنجح"(5)".
من هذه الأمثلة يظهر بوضوح مدى تأثير الولاء السياسي، وعدم قدرة أصحابه على مسايرة التطورات الجديدة أو القبول بالأمر الواقع. وبعد أن تسلم الموحدون مقاليد الحكم في الأندلس والمغرب، حدث الشىء نفسه، وكان لا يقل في حال من الأحوال عن الذي حدث من جراء التبدل السياسي، ذلك لأن الموحدين اختلفوا عن المرابطين على صعيد العقيدة الدينية. فقد نظر الموحدون إلى الذين خالفوهم على صعيد العقائد والمباديء نظرة معادية، اتسمت بالحقد والكراهية، فعاملوهم بقسوة بالغة مما أثار لدى البعض منهم موجة من الذعر والخوف، وصلت إلى درجة قريبة من الجنون والخبل، كما حدث لأبي الوليد محمد بن عبد الله بن فيرة القرطبي، الذي وصف المقري أحواله في كتاب نفح الطيب بقوله: "وخرج في الفتنة بعدما علا ذكره في قرطبة، وأقام بالإسكندرية خوفاً من بني عبد المؤمن بن علي ثم قال، كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الإسكندرية ثم سافر إلى مصر، وأقام بها مدة ثم قال: فوالله ما مصر والإسكندرية بمتباعدتين، ثم سافر إلى الصعيد، وحدث بقوص بالموطأ ثم قال: والله ما يصلون إلى مصر ويتأخرون عن هذه البلاد، فمضى إلى مكة وأقام بها ثم قال: ويصلون إلى هذه البلاد ولا يحجون، ما أنا إلا هربت منه إليه، ثم دخل اليمن، فلما رآها قال: هذه أرض لا يتركها بنو عبد المؤمن، فتوجه إلى الهند حيث أدركته منيته بها سنة 551ه/1147م وقيل مات باليمن"(6)".
ولم تكن هذه العوامل التي ذكرناها حتى الآن، والتي يمكن أن نسميها عوامل الطرد الداخلية، لم تكن تقاس بتلك العوامل الخارجية، التي حصلت بفعل التقدم الإسباني الجاد والمنظم باتجاه معاقل العرب المسلمين في الأندلس، والاستيلاء عليها واحداً تلو الآخر وبشكل نهائي فلم تأت سنة 659ه/1261م حتى وقعت جميع المدن الأندلسية تقريباً تحت وطأة الاحتلال الإسباني، فقد استولى الإسبان على لوشة وماردة وبطليوس وقرطبة وشاطبة وبلنسية ومرسية وإشبيلية وعلى شلب وطلبيرة. وهكذا لم يبق بيد العرب المسلمين غير غرناطة وضواحيها تحت حكم بني الأحمر. وليت الأمر توقف على الاحتلال فحسب، بل تبعته إجراءات قاسية، حيث فرضت على كل من آثر البقاء من العرب المسلمين في مدنهم شروطاً بلغت حداً من الإهانة والشراسة، لا يطاق بأي حال من الأحوال، فقد أجبروا على وضع إشارة على ثيابهم تميزهم عن غيرهم من السكان، وأنه لا يجوز لمسلم أن يستخدم مسيحياً على الإطلاق، ومن يخالف هذا الأمر تصادر أملاكه، ومن يفر منهم إلى بلاد المسلمين، يُعد أسيراً في حال القبض عليه، وبالتالي يصبح ملكاً لمن قبض عليه من الإسبان إلى غير ذلك من إجراءات ظالمة وغير إنسانية"(7)".
وبتأثير هذه العوامل مجتمعة أصبحت الهجرة جماعية أكثر من أي وقت مضى، وهذا ما يظهر بجلاء من خلال تتبع الأندلسيين، الذين وفدوا إلى المغرب، أو الذين وفدوا إلى المشرق العربي، وذلك في الفترة التي تبدأ من نهاية الثلث الأول من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي. ففي هذه الفترة كثرت أعدادهم بشكل لافت للنظر، لا يمكن مقارنته بما حدث في الفترة السابقة، وبخاصة على صعيد بلاد الشام ومصر موضوع هذا البحث.
ومهما يكن الأمر، فقد أدت هذه العوامل إلى نتيجة واحدة، تجلت بضياع الجزء الأكبر من أرض العرب والإسلام في الأندلس، وبالتالي تشريد وإجبار أعداد كبيرة من الأندلسيين على النزوج عن أرضهم إلى بلدان عربية وإسلامية متعددة، ولا سيما مدن وحواضر المشرق وبخاصة مصر والشام. وعندما اقتصر حكم العرب في الأندلس على غرناطة وضواحيها، فإن من التجأ إليها أو من كان فيها من العرب، لم يكونوا في مجموعهم ينعمون بالاستقرار الحقيقي الكامل، إنما غلب القلق وعدم الإستقرار على حياتهم العامة، بسبب الحروب التي لم تنقطع تقريباً بينهم وبين الإسبان، وكانت نتائجها تتراوح بين حالة المد والجزر حتى سقوطها في السنوات الأخيرة من القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، لذلك فقد كان النزوح منها مستمراً بتأثير هذه العوامل.
وفي مقابل هذه العوامل السلبية القاهرة، التي حدثت على الساحة الأندلسية بشكل خاص، كانت عوامل مشجعة وإيجابية في كل بلدان المشرق العربي، ساعدت المهاجرين المغاربة والأندلسيين على الإقامة والعيش بأمان واطمئنان، مثلهم في ذلك مثل السكان الأصليين. فقد توجه المهاجرون الأندلسيون والمغاربة إلى جميع بلدان المشرق العربي لكن هجرتهم كانت أنشط وأكبر باتجاه مصر والشام، لأن جميع العوامل الطبيعية والسياسية والإقتصادية والثقافية وربما النفسية، كانت أكثر ملاءمة وتوافقاً لسكن وإقامة هؤلاء المهاجرين في ربوع هذه البلاد الطيبة. وسبب ذلك على سبيل المثال، أن مصر كانت تقع على طريقهم الرئيسة إلى الحج، هذا بالإضافة إلى غنى وتوفر الموارد المختلفة، التي تمكن من حرية الاختيار في السكن والإقامة في أية بقعة من بقاعها، يضاف إلى هذا أن مصر أصبحت منذ أوائل النصف الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي مستقر إقامة السلطان والخليفة والحاشية من الحكام ورجال الدولة، فغدت مصدر كل أمر وسلطة، ويمكن القول أنها شغلت هذه المكانة منذ وصول صلاح الدين الأيوبي إلى الحكم خلال القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، مما جعلها مأوى، يأوي إليها الأندلسيون بشكل مميز وملحوظ خلال هذه الفترة. وكذلك الأمر بالنسبة لبلاد الشام، التي كانت ملائمة لإقامة الأندلسيين والمغاربة من جميع النواحي، ولا سيما الطبيعية والاقتصادية، التي تجسدت بتوفر سبل العيش، إضافة إلى معاملة الأهلين، هذه المعاملة التي تميز بها الشاميون وأهل المشرق بشكل عام، لكن الشام كانت أكثر تميزاً وملاءمة إلى حد كبير بالاعتماد على بعض الملاحظات، التي ذكرها بعض زوار مصر والشام من أمثال ابن سعيد المغربي الذي قال عندما كان في صدد المقارنة بين مصر والشام، وقد نقل ذلك المقري في كتاب نفح الطيب يقول عن المصريين: "وسائر الفقراء لا يتعرضون إليهم بالقبض للأسطول، إلا المغاربة، فذلك وقف عليهم لمعرفتهم بمعاناة البحر، وقد عم ذلك من يعرف معاناة البحر منهم ومن لا يعرف، وهم في القدوم عليها بين حالين: إن كان المغربي غنياً طولب بالزكاة، وضيقت عليه السعاة، وإن كان مجرداً فقيراً حمل إلى السجن حتى يحين وقت الأسطول"(8)" وعلى الرغم من وجود مثل هذه المشاكل، فلم تكن تشكل عقبة يمكن الوقوف عندها في هذه المسألة. وقد توفرت في مصر والشام بشكل عام عوامل مشجعة غاية التشجيع منها النواحي الطبيعية، التي يقصد بها أحوال المناخ والطقس السائدة في هذه البلاد، حيث وجد تشابه بين عدة مناطق أندلسية وأخرى مشرقية في الشام ومصر، مما جعل الاستقرار سهلاً ومستطاعاً بالنسبة للأندلسيين القادمين إليهما، فدلل على ذلك أن الفاتحين العرب للأندلس، أخذوا هذا العامل بعين الاعتبار، فنزل كل جندي مشرقي في المنطقة التي تلائمه من حيث مناخها وطبيعتها"(9)".
إضافة إلى النواحي الطبيعية، فهناك العوامل الدينية، التي شغلت بعداً هاماً في مسألة استقرار الأندلسيين والمغاربة في المشرق بشكل عام، ومصر وبلاد الشام بشكل خاص، فقد وردت في كتب الصحاح وغيرها عدة أحاديث نبوية نوَّهت بمكانة وأهمية بلاد الشام على مختلف الصعد وفي شتى الميادين"(10)" وبصورة خاصة عن مدينة دمشق وبيت المقدس والخليل وغيرها من الحواضر الأخرى، التي لا يمكن ذكرها في هذا المكان لكثرتها وتشعبها ودقتها على مناح معينة في هذه المدن"".
كما شغلت العوامل السياسية في مصر وبلاد الشام دوراً فعالاً في هذا المجال، فقد كانت برمتها تسير لصالح النازحين الأندلسيين والمغاربة منذ انحسار الحكم الفاطمي خلال الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي وبخاصة في المدن التي لم تقع تحت الاحتلال الصليبي كدمشق والقاهرة وغيرهما. وتبلورت الملامح الأولى لهذه العوامل في ظل حكم البوريين في مدينة دمشق، الذي استمر حتى نهاية النصف الأول من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، وفي ظل حكم الزنكيين قبل ظهور نور الدين زنكي في مدن المنطقة الوسطى والشمالية، والشمالية الشرقية التي يجب أن تكون حسب نظرة ومفهوم الأندلسيين والمغاربة شرعية بسبب شرعية حكامها. وكذلك الأمر في زمن صلاح الدين الأيوبي في مصر في مرحلة ظهوره الأولى هناك، الأمر الذي جعل الأندلسيين والمغاربة يقصدون الشام ويستقرون فيها دون خوف أو حرج. فوجدوا فيها بيئة صالحة ومناسبة، تشبه إلى حدٍ كبير تلك البيئة التي عاشوا فيها، والتي تشدّد على التمسك بالسنة والشرع، وعدم اللجوء إلى الجدل في الأمور الدينية. ومما يعكس هذه الصورة وحال هذه البيئة ما يرويه المؤرخ الدمشقي المعاصر ابن القلانسي في حوادث سنة 543ه/1149م بقوله :" في رجب من هذه السنة أذن لمن يتعاطى الوعظ بالتكلم في الجامع المعمور بدمشق على جاري العادة والرسم فبدأ من اختلافهم في أحوالهم وأعراضهم، والخوض فيما لا حاجة إليه من المذاهب، ما أوجب صرفهم عن هذه الحال، وإبطال الوعظ لما يتوجه معه من الفساد مطمح سفهاء الأوغاد "(".
وخلال الفترة التالية، أي الفترة الزنكية النورية والأيوبية والمملوكية غدت الظروف أكثر إيجابية ووضوحاً، ففي الوقت الذي كانت فيه الأندلس تسير على طريق الإنهيار، وتعاني من اضطرابات سياسية حادة ومؤلمة، كانت مصر والشام قد قطعت شوطاً بعيداً على طريق الوحدة والوئام، الأمر الذي ساعد النازحين الأندلسيين على إيجاد المأوى البديل، وعندما حدثت تطورات بالغة الأهمية على الصعيدين السياسي والمذهبي، كانت في مجموعها لصالحهم"(13)".
لذلك فقد قدَّم نور الدين زنكي كل التسهيلات للأندلسيين القادمين من الأندلس والمغرب، وأحسن وفادتهم، وأنزلهم أحسن المنازل، وفضلهم في كثير من الأحيان على السكان الأصليين كما قال عن ذلك ابن جبير الأندلسي: "ومن مناقب نور الدين رحمه الله تعالى، أنه كان عيَّن للمغاربة الغرباء الملتزمين زاوية المالكية بالمسجد الجامع المبارك أوقافاً كثيرة منها طاحونتان وسبعة بساتين وأرض بيضاء وحمام ودكانان للعطارين، وأخبرني أحد المغاربة، أن هذا الوقف المغربي، يغلّ إذا كان النظر فيه جيداً خمسمئة دينار..."(14)".
وكما حدث في زمن نور الدين، حدث مثله في عهد صلاح الدين ومن جاء بعده من الأيوبيين والمماليك، نضرب على ذلك مثلاً مما قاله الرحالة ابن بطوطة عند زيارته للمشرق العربي وبالذات لمدينة دمشق: ".. كان بدمشق فاصل من كتاب الملك الناصر (دينكز) يسمى عماد الدين القيصراني، من عادته أنه متى سمع أن مغربياً وصل إلى دمشق بحث عنه وأضافه وأحسن إليه، فإن عرف عنه الدين والفضل أمره بملازمته وكان يلازمه منهم جماعة، وعلى هذه الطريقة علاء الدين بن غانم وجماعة غيره"(15)".
أما العوامل الأخرى الاقتصادية والعلمية، فقد توافقت هي الأخرى مع مصالح الأندلسيين وتوجهاتهم وتطلعاتهم العامة، لأن الشام ومصر كانت من البلدان الغنية على هذين الصعيدين، مما ساعد الأندلسيين والمغاربة على إيجاد أعمال مناسبة، سواء كان ذلك في الزراعة أو الصناعة أو التجارة، وكذلك الأمر في الميدان العلمي، حيث كانت مراكز العلم من مدارس وكتاتيب وزوايا وخوانق متوفرة بشكل لا مثيل له في العصور الوسطى، ولا سيما في المدن الكبرى كدمشق والقاهرة وحلب وبيت المقدس. وقد صور ابن جبير ذلك تصويراً واقعياً رائعاً بقوله: "وكل من وفقه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم إن أحب ضيعة من الضياع، فيكون فيها طيب العيش ناعم البال، وينهال الخير عليه من أهل الضيعة، ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء ومتى سئم المقام خرج إلى ضيعة أخرى..."(16)" ويتابع قوله: "...فهذا الشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل أيها المجتهد بسلام، وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والأولاد، ولو لم يكن بهذه البلاد الشرقية كلها، إلا مبادرة أهلها لإكرام الغرباء وإيثار الفقراء ولا سيما أهل باديتها، فإنك تجد من يبادر إلى كرم الضيف عجباً، كفى بذلك شرفاً لهم "(17)" وبالجملة فقد ساعدت جميع العوامل السابقة الذكر الأندلسيين والمغاربة وأثَّرت بهم بشكل جعلهم يقبلون على بلدان المشرق وبخاصة مصر والشام وبصورة مستمرة. وقد عملوا خلال وجودهم في المشرق في شتى مجالات الحياة العامة دون استثناء مثلهم في ذلك مثل بقية سكان المنطقة الأصليين. وانطلاقاً من ذلك فلم يكونوا بعيدين عن المعارك التي خاضها العرب المسلمون ضد الصليبيين وغيرهم. ومسألة اشتراكهم في الحرب وبخاصة ضد الصليبيين ، تبدو من المسائل الصعبة جداً ولا سيما أنهم كانوا في حروب شبه دائمة مع المسيحيين قبل أن تنشب الحروب الصليبية في المشرق"(18)". لكن المؤرخين لم يشيروا إلى هذا الاشتراك بشكل مباشر بمعنى لم يتحدثوا عن مجموعة معينة منهم شاركت بشكل مستقل عن الجيش الشامي وكل ما كتبوه حول هذا الموضوع، اقتصر على ذكر حوادث فردية باستثناء واحدة سنأتي على ذكرها في السطور التالية، والتي سيظهر من خلالها، أن الأندلسيين والمغاربة، اشتركوا بمجموعات كبيرة إلى حد ما، ومشاركتهم ضد الصليبيين في الحرب ومن بعدهم التتار، لم تكن على صورة واحدة فحسب، بل قام بعضهم بتقديم المال لتجهيز عدد من المقاتلين إلى غير ذلك. ولعل أشهر الحوادث المعروفة عن الأندلسيين والمغاربة في هذا الميدان، تعود إلى النصف الأول من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي فعندما حاول الصليبيون احتلال مدينة دمشق سنة 543ه/1149م اجتمع أهلها لتدارس الطرق والأساليب الناجعة، من أجل الدفاع عن مدينتهم، فكان يوسف بن دوباس المغربي العندلاوي أشدهم حماساً واستعداداً لخوض الحرب، من أجل أن تبقى دمشق عزيزة نظيفة من دنس المعتدين، وذلك على الرغم من تقدمه في السن. وقد اندفع للقتال غير عابىء بالنصيحة، التي قدمها له حاكم دمشق معين الدين أنر بعدم الاشتراك في الحرب. وكان رده رائعاً جسد من خلاله العزم والتصميم، عندما خاطب حاكم دمشق قائلاً: "قد بعت واشترى فوالله لا أقيله ولا أستقيله وتلا الآية الكريمة: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" وقد ظل يقاتل رحمه الله، حتى استشهد بأرض النيرب بالقرب من الربوة، وحمل جثمانه الطاهر إلى مقبرة باب الصغير حيث دفن"(19)".
ويلقب بأبي الحجاج المغربي، قدم الشام وسكن بلدة بانياس في محافظة القنيطرة العربية السورية مدة، ثم انتقل إلى دمشق واستوطنها ودرّس بها على مذهب الإمام مالك بن أنس، وحدَّث بكتاب الموطأ وغيره، وقد وصف بأنه شيخ حسن المفاكهة، حلو المناظرة، كريم النفس، قوي القلب، صاحب كرامات.
وقد قيلت فيه أشعار كثيرة نختار منها ما قاله ابن الحكم الأندلسي:
بشطِّ نهر داريّا *** أمور ما تواتينا
أتانا مائتا ألف *** عديداً أو يزيدونا
ورايات وصلبان *** على مسجد خاتونا
فقلنا إذ رأيناهم *** وقد جاءوا يريدونا
وشيخاً فندلاوياً *** فقيهاً يعضد الدينا
ولكن غادروا القسيس *** تحت الأرض مدفونا"(20)"
ويعد الفندلاوي من الشخصيات المغربية، التي طار ذكرها، وخلد على صعيد مدينة دمشق، فقد ذكر الذهبي من مؤرخي القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، أن قبره على عهده، كان مايزال يقصد بالزيارة والتبرك على الرغم من مضي أكثر من مئتي عام على وفاته"(21)".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.