سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الملكية: أسئلة الحداثة والثقافة والإصلاحات السياسية - الجزء الثاني

الانتماء إلى العصريقرأ المتتبع المتيقظ في الأداء الاجتماعي للملك أن المغربي بإمكانه أن يكون حاضرا في عصره عقلا واتجاها اجتماعيا إيجابيا، دون أن يسلبه ذلك كيانه الوجداني الذي تؤثثه روحانية إسلامية مغربية تتعالى عن المماحكات الجدلية، وتنأى بتسامحها الأصيل عن إصدار الأحكام الأخلاقية العنيفة، بل تظل تزوده بالمسوغات الداخلية التي تجعله ينخرط في القيم الكونية بثقة وعزم وهو مقتنع أن ذلك لن يزيد شخصيته إلا قوة وتجددا وانفتاحا على العالم.ينزل الملك إلى الشاطئ من أجل أن يمارس هوايته الرياضية كباقي الناس، لكي يصعد إلى الحياة العامة من اجل أداء الصلاة وسط جموع من المواطنين،
أو قصد الاحتفال بمناسبة دينية أو وطنية أو عائلية دون أن يشكل ذلك تناقضا في مفهوم السلوك النموذج، أو نفيا لجانب من هوية الذات المغربية التي يرسخها فعليا السلوك الاجتماعي الملكي كحامل لقيم ودلالات ذات بعد ثقافي، وعمق تاريخي يغرف من الوجود النوعي للدولة المغربية التي تنغرس في تربة إفريقيا حتى الجذور الأولى، لتظل تشرئب بنظرها إلى أوروبا بحكم القرب والمثاقفة الممتدة على مدى قرون، دون أن تتنصل من قبلتها العقائدية التي تمتلك جاذبية خاصة في وجدان المغاربة منذ زمن الحضور الإسلامي في شمال إفريقيا.للملكية قصب السبق في تسريع وتيرة تحديث الممارسات الاجتماعية، وخلخلة التمثلات الثقافية للمغاربة حول المرأة، والحرية، والتعليم والعمل؛ لقد خرجت المغربيات في بداية استقلال المغرب للتظاهر في كل المدن والقرى احتفالا برؤية كريمة محمد الخامس الأميرة « للا عائشة» على الشاشة في أجمل صورة وأبهى حلة وهي ترسم معالم شخصية حديثة للمرأة المغربية التي ستعيش زمن الاستقلال . قبل هذا الحدث كان مفهوم المرأة النموذجية هي التي لا تغادر بيت زوجها إلا لماما تحمل على النعش إلى مثواها الأخير، أي مفهوم المرأة « الحاجبة» كما كانت تحدده آنذاك العادة والعرف السائدين. إنها تلك «الولية» التي لا ينبغي لها أن تتسوق، ولا أن ترى الرجال، ولا أن تتعاطى أي نشاط تجاري أو غيره. كان الأمر يتعلق بالمرأة التي تقبع أبد الدهر محتجزة في بيت الزوجية التي لن تغادرها إلا لما يحملها الموت إلى دار البقاء. لكن لما سمح المغفور له محمد الخامس بأن تخرج بناته إلى الفضاء العام كبداية لعهد جديد بالنسبة للمرأة المغربية التي كانت ملفوفة في ثوب « الولية» ، «الحاجبة «، لم تتردد بعض النساء الطليعيات من إطلاق الزغاريد والشعارات التي ستؤرخ لهذا الحدث الذي سوف يقلب نظام القيم التي تنظم وتؤطر تصور المغاربة آنذاك لأدوار المرأة ومكانتها ونوعية العمل الذي لا ينبغي لها أن تتجاوزه. شعارات ستدخل معانيها كل البيوت، بل سيتعمدن النساء الثائرات على التقاليد الخاطئة الوقوف بباب بعض النساء «الحاجبات» وهم يرددن الأنشودة التالية: «أخرجو يا لحجبات، للا عيشة في الرباط». سينتشر هذا البيت الفريد والوحيد في كل أنحاء المغرب محدثا دويا قويا، وأثرا مباشرا على وضعية المرأة التي ينبغي لها أن تخرج للعمل والإنتاج، والمشاركة إلى جانب شقيقها الرجل في بناء الوطن ومستقبل الأجيال اللاحقة.لقد كان للظهور الرمزي لكريمة محمد الخامس مفعولا سحريا، ترتب عنه رد فعل سريع ومباشر من لدن النساء اللائي تلقين هذه الالتفاتة الملكية بنوع من الذكاء المغربي السريع البداهة، لكي يحولنه إلى ثورة اجتماعية يصعب حتى تخيلها في زمن كانت فيه التقاليد التي تحد من حريات النساء بمثابة المقدس الذي لا مجال لاختراقه، أو حتى الحديث عنه. لقد فعلت الملكية بهذا السلوك ما تعجز عن تحقيقه النظريات والنضالات والتراكمات التي، وعلى الرغم من صدقها، وجدية رجالها ونسائها، فلن تقوى على استمالة قلوب وعقول البسطاء كما لاحظنا في الشعار السابق الذي صاغته نساء مغربيات لم يسبق لهن أن مررن بالمدرسة، باستثناء مدرسة الروحانية المغربية التي يتقن فنون فك شفراتها عندما تتحدث الدولة معهن بلغتها وطقوسها.هناك حدود طبعا لا يمكن المجازفة بتخطيها فيما يتعلق بالمرأة ككل، حيث ستظل زوجة الملك محتجبة عن الظهور العام تمشيا مع سلطة التقاليد وقوة الرقابة الدينية التي لا تزال غير مستعدة للقبول بصورة الزوجة المواطنة، المسؤولة عن نفسها وسلوكها وشرفها؛ من هنا يمكن فهم جدل الانغلاق والانفتاح في السلوك الاجتماعي للملوك المغاربة حسب قراءتهم الخاصة لنبض مجتمعهم، و مدى استعداده لقبول الصدمات الإيجابية التي لن يصحو منها إلا وهو معافى من بعض الممارسات التي لن تسمح له بالتقدم في تحقيق التنمية والتحرر والتوازن النفسي والاجتماعي.
أدوار المرأةلكن مع محمد السادس سيحدث تحول نوعي على مستوى التأسيس لمكانة المرأة، قانونيا، ورمزيا وتنمويا، عبر اعتماد مدونة الأسرة التي انتشلها من منطق المزايدات الإيديولوجية الماضوية، لكي يصبغ عليها طابع المعقولية الدولتية المسنودة بمؤسسة إمارة المؤمنين التي لا مجال للتصادم مع شرعيتها التاريخية كإطار ديني وجد لكي يحمي المغاربة من الفوضى الفقهية، والفتاوى غير المنظمة. هنا أصبح التحديث جزءا من رمزية الملك، وسلوكه اتجاه أسرته، وعقيلته بالخصوص التي منحها الدستور صفة الأميرة لكي تخرج، كزوجة للملك، من الظل السلطاني لممارسة نشاطها كامرأة مثقفة وكسيدة أولى.إنه القرار الاستراتيجي في المجال الثقافي والعقدي الذي سيؤسس لأدوار جديدة للمرأة المغربية كمناضلة في الحقل الجمعوي الذي ستنهض بمسؤوليات مكملة لوظائف الدولة الأساسية. هذا لا يعني أن كل النساء المغربيات كنا إلى حدود هذا العهد قابعات في بيوتهن في انتظار ثورة من داخل المحيط الملكي، بل لقد لعبت الأحزاب السياسية وخاصة قوى اليسار دورا في تحرير المرأة من مخلفات عهود الانحطاط التاريخي، لكي تدخل مجال المنافسة السياسية، وتلج البرلمان، وتتحمل مسؤوليات حكومية؛ لكن رغم ذلك فإنها تظل «المرأة المتحزبة» التي ليست بالضرورة هي النموذج المهيمن ثقافيا، بل هو الاستثناء الذي يرغب في أن يجد طريقه نحو التعميم والانتشار؛ لكنه كان يتعرض دوما للطعن من لدن القوى التقليدانية التي تستثمر النزعات المحافظة لدى المغاربة من أجل الترويج للمرأة «الحاجبة»، التي لن تعود للحياة مرة أخرى، بل سيطارد المهووسون طيفها المنفلت من أجل تلفيفها في أثواب داكنة بعدما أصرت على العيش الصريح في المجال العام كمواطنة لها حقوق وعليها واجبات. سيعمل الملك على حماية المرأة المتحررة من التقاليد القامعة لحقوقها الطبيعية من كل الهجمات المسنودة بتأويلات متسرعة ومنفعلة للنص المقدس، وأحيانا مستوردة من تجارب شعوب مسلمة أخرى.
لقد أسس ملك المغرب الحالي لسلوك اجتماعي حديث ومنسجم مع الصورة العقدية للأسرة المسلمة التي تعيش عصرها بروح متفتحة على العالم والمتغيرات التي تستوطنه. إنها الصورة التي ترسخ البعد المغربي في كل مستويات الفعل الاجتماعي الذي يتمظهر في المناسبات والحفلات و الأعياد.نلاحظ أن الملك يحرص على الظهور في الأزياء المغربية الذي صنعها الصانع المغربي التقليدي، كما يقدم الحدث الذي يحييه بمناسبة من المناسبات داخل تشكيلة رمزية مشبعة بالروح الحضارية المغربية التي عرفت كيف تدمج الثقافي والديني والعقلاني لتخلق منهم بينة نفسية، وسلوكا اجتماعيا متميزا عن كل بلدان العالم الإسلامي. هكذا سيمسي السلوك الملكي الاجتماعي مرجعا ثقافيا يضع الأسس العملية للجغرافية السيميولوجية التي ينبغي لكل مغربي أن يتحرك داخلها كنوع من التعرف على الذات في معناها الجمعي، والانسجام بالتالي مع التاريخ والتراث المغربي الذي ساهمت مكونات متعددة في صياغته، وتأثيثه بمحتويات قيمية وجمالية لا يمكن أن تتبدد في أية مرجعية مستوردة، أو مفروضة بقوة الإعلام، أو بغيره من وسائل الدعاية النفسية التي تروم التأثير في متخيل المغاربة الذين هم في حاجة لتحديث يمس بنيتهم السيكولوجية التي غالبا ما تقاوم التجديد، وتنتفض بسهولة ضد التغيير الذي يظهر لها كقوة مهددة لتوازنها الهش.يحضر هنا الأداء الاجتماعي للملك الراحل الحسن الثاني، رحمه الله، لكن من زاوية مغايرة، حيث كان يشتغل على رسم مسافة نقدية، من الناحية السلوكية طبعا، بين التماهي بالغرب ثقافيا، وبين ضرورة التنمية والبناء التي تقتضي محاكاة هذا الغرب الذي يصعب نسيانه بعدما أصبح جزءا من الذاكرة المغربية، وغذى لسانه هو اللسان الثاني المعتمد رسميا في كل قطاعات الدولة الإستراتيجية. فبقدر ما كان الحسن الثاني ملما بثقافة الغرب وخاصة فرنسا، مسيطرا بشكل أدبي رفيع على لسانها الذي كان يجتهد حتى في صناعة بعض مفردات معجمه، كان لا يتوانى عن تفعيل التقليد بمعناه المغربي، أي الجانب الحميمي من الذات الذي يخرج إلى العالم في المناسبات الغالية على كل المغاربة. إنه نوع من المزاوجة بين العقلانية والمعقولية في سلوك ثقافي لملك عرف كيف يقود هذه الثنائية بمهارة سياسية، ولباقة متميزة قل نظيرها بالنسبة لأغلب قادة العالم الإسلامي في زمانه.سيترك الحسن الثاني بناته و أبناءه أحرارا لكي ينتجون صورة جيل الشباب بالنسبة لمرحلة ما بعد الاستقلال، سيستمر في التقليد الذي أرساه محمد الخامس رحمه الله، أي عدم إلزام بناته بأية رمزية عقدية، أو علامة مذهبية، تاركا لهن الفرصة لكي ينسجن سيرتهن في انسجام تام مع المعطيات السوسيولوجية والتاريخية للواقع الثقافي المغربي. وهكذا سيحاصر بموقفه الأبوي الحضاري هذا كل انحراف اجتماعي باسم المعتقد نحو التلبس بمذهبية محددة؛ ولعل هذا ما حسم النقاش مبكرا مع السلفية الوهابية من زاوية أن المغرب قد أنتج نموذجه الحضاري منذ تعاقب دوله التي نسجت خيطا رفيعا بين التحديث والتقليد دون خصام بينهما، أو حرب تأويلية، أو تسييس لن ينتج سوى الكوارث والنقاشات العقيمة التي تؤجل البحث في الأسئلة الحرجة .أدوار الملكية
من هنا لن يظل من البديهي، إذن، الإشارة دوما إلى أن الملكية كانت تميل إلى إعادة إنتاج التقليد على حساب التحديث الذي كان يتشكل كهندسة إقونية من أداء ملوكها، كما كان الانغلاق ينفلت من ردهات النزعات الخاصة لبعضهم، وهي حالات نادرة بالقياس إلى الظرفية التاريخية التي كانت تطبع المغرب بصفته البلد المهدد باستمرار من لدن خصوم مسيرته التنموية، الذين لم يكفوا عن التدخل في شؤونه السياسية، إما من أجل الحد من اندفاعه الحضاري، أو تأخير انطلاقته الفكرية، آو وضعه تحت الوصاية السياسية كما فعلت وثيقة الحماية في بداية القرن العشرين.عمل الحسن الثاني على تحديث القطاع الفلاحي، وذلك بتشييد السدود التي لا تزال تضمن للمغاربة أمنهم الغذائي واستقلالهم المائي، وفي نفس الوقت خلق من هذا الإنجاز مناسبة تاريخية لكي يقفز بجانب من العالم القروي من الزراعة التي ظلت تراهن كليا على رحمة السماء، إلى تعبئة موارد تقنية جديدة ساهمت في انتقال المغرب إلى بلد فلاحي متطور، مصدر عالمي للفواكه والخضراوات التي تنافس في جودتها منتوجات بعض الدول الأوروبية؛ في هذا الوقت كان اليسار يشتغل على الثقافة كواجهة لممارسة الصراع مع نظامه السياسي؛ لكن رغم ذلك ظل المغرب يسير متوازنا بين دولة تمارس البناء التحتي لتأمين الغذاء للمغاربة، ونخب يسارية كانت تؤمن المغاربة بثقافة نقدية ضد الردة السلفية التي بدأت بوادرها تعلو المشهد الثقافي العام مع نهاية السبعينات من القرن الماضي.ما ميز الأداء السياسي للحسن الثاني كرئيس دولة، هو انخراطه القوي في النقاشات الفكرية والمذهبية التي كانت تعتمل في بلاده وفي المحيط الإسلامي والدولي لعصره، حيث لم يكن يتوانى عن الإدلاء بمقاربته النظرية حيال المنظومات الفكرية والعقدية التي كانت مهيمنة على المشهد الإيديولوجي العام آنذاك، وخاصة مع انتصار الثورة الإيرانية التي حملت يوتوبيا جديدة للعالم الإسلامي مستمدة من تأويل شيعي للعقيدة الإسلامية، مما حمله على التموقف من هذا الصعود القوي للتيار الشيعي الذي سيؤثر حتما على المواقع التي يحتلها الاتجاه الماركسي في بعض البلدان الإسلامية، إلى جانب تحريك وتقوية شعارات الحركة الإسلامية التي ستجد في هذه الثورة المسوغ الملموس للتأكيد على شعار أن «الإسلام هو الحل».رغم ذلك لم يكن الحسن الثاني مقتنعا بتقوية التقليد ضد التحديث، مذهبيا، حيث سيظل حريصا على مراقبة هذا التوازن، سياسيا، كلما طرأت ظرفية تفرض قراءة جديدة للعقيدة في علاقتها بأدوار الدولة وإمارة المؤمنين. يمكن أن نتفق مع الاتجاه الذي يرى أنه لولا الدعم السياسي الكبير الذي تلقاه الإسلاميون من لدن خدام المخزن في عهد الحسن الثاني لما تحولوا إلى قوة سياسية ضاربة ببلادنا، وذلك لتقليم أظافر اليسار الماركسي الذي هيمن تاريخيا على الجامعات والمعاهد والمدارس و الثانويات خلال مرحلة السبعينات إلي حدود نهاية الثمانينات. لكن هناك أخطاء إستراتيجية اقترفها اليسار الراديكالي، من جهته، في تقييمه للأحداث التي تلت الثورة الإيرانية، وتحول شيعة لبنان من الحزب الشيوعي إلى ميليشيات شيعية منظمة ضمن رؤيا شيعية للكون وللصراع مع إسرائيل وللثورة دون تطليق التكتيك الثوري للحركات اليسارية التي انحدر منها حزب الله ومنظمة أمل الشيعية. يسارنا المتجذر ظل يراوح نفس المقولات ونفس المفاهيم على الرغم من اهتزاز الأرض من تحت أقدامه بفعل ضربات خيارات روحية ومذهبية صاعدة من العمق الديني، تارة، ومن العماء الأسطوري، تارة أخرى، لمجتمعات إسلامية فوت عليها حكامها أغلبية مواعيدها مع التاريخ، من تنمية وتحرر و ديمقراطية. لهذا لن يصبح التحديث الإيديولوجي ممكنا، مادام اليسار يصر على تجاهل التحول النوعي الذي عرفته الإيديولوجية في العالم الإسلامي على ضوء ما حملته الثورة الإيرانية من مستجدات عقدية وثقافية وتاريخية كانت في حكم السبات الفكري الراكد.إنه التقصير الذي لن يمس أدوار الملكية بالمغرب التي عرفت كيف تحافظ على إستراتيجية المراقبة المنهجية للحقل الإيديولوجي من خلال تنظيم الاشتغال في الحقل الديني، و إعادة هيكلة بنياته لكي يستوعب التحولات العقدية والخيارات السياسية الجديدة، مما سيؤهلها لكي تتحول فعليا إلى مرجعية تشريعية لضبط تحركات التحديث والتقليد معا، وهو ما سمح للمغرب بأن ينخرط في برنامج اليسار المتحالف مع وطنية تقليدية لأجل تحرير الدولة من أية تداعيات محتملة تجعلها تنحاز لخدمة قوى على حساب أخرى. انخراط ليس استراتيجيا، بل مرحليا، في انتظار ما ستؤول إليه التطورات المحيطة بها جهويا ودوليا. لم تتخل الملكية أبدا، ولن تتخلى نهائيا، عن الرصيد الروحي للمغاربة، بل حافظت عليه وظلت تستعمله كلما استشعرت خطرا إيديولوجيا داهما لشرعيتها الروحية. من هنا يمكن فهم لماذا التحالف مع اليسار التقليدي ضمن تحالف أكبر تهيمن عليه السلفية الوطنية البورجوازية التي يقودها حزب الاستقلال بعقلية في شكلها ليبرالية، لكن في عمقها تظل ذات نزوعات براغماتية لا تتردد عن استثمار العقيدة من أجل كبح طموح الاتحاد الاشتراكي، ومنعه من أية مغامرة لتجذير الخطاب الحداثي، وهو ما يضمن للملكية وضعا إيديولوجيا مريحا يجعلها تقود التوازن بخلفية سياسية يحكمها الحفاظ على التغيير ضمن سقف محدد لا يهدد البنيان بالانهيار أو الانحراف نحو زاوية نظر ضيقة الخلفية.لقد ظل الحسن الثاني يرفض التموقف الإيديولوجي السافر في الصراع الدولي بين المعسكرين المتصارعين، حيث أدار مواقفه بحرفية سياسية عالية جعلته في مأمن من الانهيارات التي ستتلو سقوط المعسكر الاشتراكي الذي سيزكي بعض أطروحات المنظومة الإسلامية المعارضة والتي كانت تجد تأليفها الفكري في الخطاب الإصلاحي لحركة الإخوان المسلمين، وعنفها الثوري في خطابات الدعاة المحسوبين على التيار الوهابي المدعوم بأموال النفط الخليجي؛ كما سيعمل هذا السقوط على تلميع صورة الدول الإسلامية التي لم تنحاز بالواضح للمعسكر الماركسي الذي انهارت أذياله المنعزلة عن ثقافة شعبها بأفغانستان على يد «المجاهدين» الذين كانوا مدعومين من لدن النظام السعودي ماديا ومن أمريكا تقنيا تدريبا. ستخرج الملكية المغربية إذن من الصراع القطبي للحرب الباردة غانمة من سياسة عدم الانحياز التي نهجها الحسن الثاني رحمه الله، لعدة عقود، على الرغم من الأحداث القوية التي كادت تعصف بنظامه من انقلابات وانتفاضات لن يخبو أثرها إلا بعد تحالف العرش مع قوى من اليسار التقليدي المسنود من طرف الوطنية ذات الرمزية التاريخية، والمنتجة لخطاب ثقافي يغرف من سلفية متفتحة لزعيمها التاريخي المرحوم علال الفاسي، وذلك على الرغم من معاداتها لثقافة المقاومة التي كانت تنغرس في الجغرافية الأمازيغية بالمغرب؛ إنه منحى آخر جد معقد في علاقة الملكية في بداية الاستقلال بجيش التحرير وحزب الاستقلال وبعض زعماء القبائل الأمازيغية الذين ساهموا في تخليص الملكية المغربية من هيمنة كادت تكون حقيقية لحزب الاستقلال على كل المنظومة السياسية ببلادنا مع ما يرافقها من وضع اليد على مواقع وثروات.السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل يمكن النظر لعصر الحسن الثاني كمشتل تاريخي ساهم في تأهيل التقليد الذي سوف يمنح الشرعية التاريخية للحركة الأصولية لكي تنتشر، وتكتسح المشهد الثقافي ببلادنا من خلال رموزها الإيقونية التي لها علاقة بزي النساء، وتراجع العادات التي ورثها المغاربة عن المرحلة الفرنسية، أم سيترك الملك الراحل المشهد الثقافي ببلادنا مفتوحا على كل الاحتمالات مع ميله الغامض لنزعة أنوارية غير مغامرة، أي نوع من التحديث الفكري الذي لا ينبغي له أن يكون بمثابة ثورة ثقافية قد تعصف بجوانب روحية لها علاقة برمزية العرش و كاريزميته وشرعيته التي سمحت له بأن يسود ويحكم، كحكم وضابط لمختلف الصراعات المتعددة المشارب والاتجاهات والمترسخة في نزعات قبلية وقومية ومذهبية.لقد كان الحسن الثاني ملكا مغربيا متجذرا في التربة الثقافية المغربية حتى النخاع، كان عاشقا لكل تراثها الأدبي، المكتوب والشفاهي، مواكبا لكل فنونها وإبداعات رجالها، كاشفا عن حس جمالي راقي، متذوقا للإيقاعات الموسيقية المغربية بكل ألوانها « عروبية ، أمازيغية، جبلية، صحراوية، أندلسية»، داعما للمسرح الملحمي الذي يحتفي بالتاريخ وبالإنجازات السياسية للدولة والشعب، لم يكن يتضايق من مساحة الفن الذي شكل مادة أولية لتحديث فكري سيتزايد أثره مع بروزالكتابات النقدية والإبداعات الفكرية التي ستعمل على التنظير لهذه المرحلة التي احتضنت فنانين تشكيلين كبار ومسرحيين مرموقين ونصوص إبداعية متميزة وأسماء وازنة صنعت مجدا مغربيا في عواصم عربية وأخرى أجنبية. خطاب اليسارفي زمن الحسن الثاني رحمه الله، ورغم نوعية الأندية المسرحية الهاوية التي كانت تحت هيمنة اليسار، فقد ترك لها الفرصة لكي تنضج وتراكم تجارب إبداعية من خلال مهرجاناتها السنوية؛ كما عرفت الأندية السينمائية انتشارا متقدما وهي التي كانت شغوفة بسينما السوفيات والثورة والحزب الشيوعي الفرنسي قبل أن تتحول إلى منابر لاحتضان خطاب إيديولوجي صريح سيكون مقدمة لقمعها واعتقال روادها على إثر أحداث 1984 .تطليق اليسار لكل مبادرات الدولة، وتسفيهه لكل خطاباتها، وتقاليدها العريقة، بل والدعوة جهارا لنبذ شرعيتها والحلم بثورة اشتراكية على النمط السوفياتي، هو الذي قوى شوكة التقليد ودفع بالتالي الملكية لأن تغرف من ذخيرتها التراثية للحد من جموح يسار كان شغوفا بعدالة مثالية، وانعدام الطبقات والانتصار للطبقة العاملة والمحرومين والمهمشين والفلاحين الفقراء، وكل القوى التي كان يراهن عليها الخطاب الماركسي في أدبياته الشهيرة؛ وذلك في مقابل النظر إلى كل القوى التي كانت تنادي بالخصوصية والأنوية المغربية نظرة احتقار وتخوين، بل ونفي من منطق الصراع الذي ينبغي أن يكون طبقيا فقط وبمرجعية ماركسية تطمح لأن تتحول إلى سوسيولوجية تفسيرية لكل الظواهر الاجتماعية والسياسية على الرغم من تباين سياقاتها التاريخية والحضارية.لقد كانت حتى القوى السياسية الوطنية والتقدمية محط نقد جذري لخطاب هذا اليسار الذي تفاعل وجدانيا بالخطاب الماركسي، الذي سيحد من رؤيته لذاته وتاريخه وثقافاته ولغاته ونوعية تطلعات سكانه وروحانياتهم، التي أحيانا، ما كانت تتعرض لمقاربة نقدية جد مغالية في تقديس المفاهيم النظرية على حساب نبض الحياة الذي يسري في دماء الشعوب التي ستنقلب ضد هذا الخطاب بعد انتصار الثورة الإيرانية، وتحرير أفغانستان، وسقوط جدار برلين كمحطة نهائية في هذه التحولات العظمى التي ستطبع نهاية القرن العشرين. رغم كل التحولات التي ستزعزع القناعات القديمة لدى مختلف النخب العاملة في الحقل الإيديولوجي والتي ستهز أيضا الخرائط الجيو سياسية الموروثة عن مرحلة الاستعمار، فسيظل الملك الراحل قريبا جدا من المثقفين والعلماء ورواد الفكر والمعرفة بكل صنوفها، بحيث سيقوم بتأسيس أكاديمية المملكة التي ستضم في رحابها نخبة من المفكرين والمبدعين الذين سيتولون التفكير بطريقة مغايرة في الإشكاليات المطروحة على العالم وهو يخرج زاحفا من حروب باردة كادت تعصف به؛ بل سيعين على رأس وزارة الثقافة أحد رموز الفكر الفلسفي العالمي» الحبيب سيناصر»، وهو خيار واضح على أن التحديث الفكري بمنهجية مغايرة لا زال ممكنا في مغرب نهاية الحرب الباردة.لقد عمل الملك الراحل بشكل صريح على الحد من اندفاعات الدعاة الجدد، حيث كان يحذر من فشل كل محاولة تهدف ثني المغاربة عن التمسك بمكاسبهم الحضارية، وعاداتهم الحياتية التي يطبعها الانسجام بين العصرنة والتقليد. لقد كان يقصد، رحمه الله، مظاهر التحديث الاجتماعي التي ورثها المغرب عن احتكاكه الثقافي بأوروبا وبالفكر الفرنسي الأنواري على الخصوص.لكن التطورات اللاحقة التي حصلت في الحقل الديني الذي بدأ يتحول تدريجيا إلى مجال لممارسة المنافسة السياسية بين النظام و فرقاء جدد؛ سيقود الحسن الثاني رحمه الله إلى مأسسة مواقفه الدينية من خلال إعادة بناء مؤسسة إمارة المؤمنين عبر منهجية «الدروس الحسنية «، التي ستكرس صورة ملك مغربي يسهر على حماية «الملة والدين»، بل وسيتم البدء في الإعلان عن مرتكزات الملكية المغربية التاريخية من خلال تبني «المالكية» كفقه وأحكام
شرعية، و»الأشعرية» كعقيدة وسطية بين العقل والنقل والتصوف السني للإمام «الجنيد» كطريقة للمعرفة الإحسانية التي لا يتناقض فيها العقل والنقل والحدس أو المعرفة «اللدنية»، في ارتباط بالمعرفة الإنسانية التي تؤسس لها الفلسفة والعلوم الإنسانية. إنها صيغة شمولية وتركيبية لتقديم الملكية المغربية كوريثة تاريخية للتجربة الحضارية الأندلسية التي ساد فيه التسامح الديني والتعايش الاجتماعي بين الملل والنحل والقوميات المتعددة.
أمير المؤمنينإنها الإنجازات التي ستضفي على الملكية المغربية صفة الإمارة الدينية من جديد، بدل بقائها مجرد إطار سياسي لدولة مدنية بدستور حداثي يستند إلى مرجعية فكرية يتوافق فيها التشريع الإسلامي بالقوانين الوضعية المستمدة من التجربة الدستورية الفرنسية، خاصة قانون الحريات العامة الذي كرس التعديدية السياسية، وصان المغرب من فاشية توتاليتارية كانت موضة عصرها في زمن الاستقلال، أي بدل اختصارها في دولة عصرية يسهل الانقضاض عليها من لدن الخطاب الأصولي المرتكز إلى مفاهيم شرعية مستمدة من فقه ، وابن تيميمة، وابن الجوزية، وانتهاء بمحمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية كاتجاه سلفي معاصر؛ إنها مرجعيات الاتجاهات الإسلاماوية التي ستحرض العامة على الحلم بخلافة إسلامية لا وجود لها سوى في خيال روادها. ألم يعمل الحسن الثاني، بهذا التحصين لنظامه السياسي والرمزي، على حماية المغرب من أي انحراف عقدي، أو تطرف إيديولوجي، أو غلو روحي؛ سيكون إنجازه هذا إذن بمثابة نوع من تحديث الحقل الديني بما يضمن للملكية الاستمرار في لعب دور الحكم والقائد، والموجه للقيم، والضابط للمعايير التي لا ينبغي لها أن تصادم تقاليد المغاربة، وأعرافهم، وبنياتهم النفسية التي تحب الاحتفال والفن والجمال والغناء والسفر خارج كل الحدود، دون أي إحساس بالتمزق الوجداني، أو شعور بالاغتراب عن الذات. إنه نوع من التحديث الذي سينبثق من داخل التقليد نفسه، بحيث سيصبح الجديد بمثابة السلوك النابع من الأصول التي ستجعله خاليا من كل غرابة أو تهديد. إنها منهجية مغربية في تحديث التقليد أو تأصيل التحديث، قد يقع عليها إجماع، كما قد تكون مدخلا لمناظرات فكرية متعددة، وموضوعا لمقاربات أخرى قد تكشف عن حدودها أو تهافتها الممكن.الثابت في الأداء السياسي للملكية المغربية هو حرصها على عدم الارتماء المباشر والصريح في معسكرات نظامية، تجنبا لأن يجر عليها التموقف الجامد تصنيفا مذهبيا، أو تنميطا إيديولوجيا، قد يحد من دورها التاريخي، وحاجتها دوما لهامش روحي، وراحة ثقافية تمكنها من استرجاع المبادرة من لدن الخطابات المعارضة لوجودها، أو لسياساتها بقصد البقاء حية، وفاعلة سياسيا بموقع ريادي، وخطاب غير منخرط بشكل صريح في معاداة الدول التي تختلف عنها مذهبيا وخيارا سياسيا.
على ضوء هذا الثابت الاستراتيجي ستصبح الملكية المغربية أكثر قدرة على بلورة مفهومها الخاص للتحديث دون أن يكون بالضرورة تلقينا خارجيا، أو تقليدا لنماذج جاهزة مهيمنة سياسيا وفاعلة دوليا؛ تحديث لن يرى النور دفعة واحدة كما حدث في تونس البورقيبية، بل تحديث متفاوض حوله باستمرار، ولعل هذا الاختيار هو الذي كان سببا في حرمان بلدنا من ثورته الثقافية التي مهد لها اليسار التقليدي المتمثل في الاتحاد الاشتراكي عبر عدة عقود من العمل المؤسس والمضني على مستوى واجهة النضال الثقافي. أحيانا يمكن أن تتحول الأدوات المستعملة في ضبط الحقل الديني والمجال التقليدي عائقا يحد من فعالية الأداء، ومن توسيع نوافذ الانفتاح؛ إنها الظاهرة التي ستطبع علاقة الملكية المغربية بالفقهاء ورجال الدين والعلماء الذين لهم تأثير بالغ في وجدان العوام. قد يبدو أن هناك ولاء تاما من لدن هذه النخب للعرش ورمزيته الدينية، لكن هناك مصالح ومآرب ومواقع لا يمكن دوسها تحت يافطة التغيير الذي تفرضه الظروف التاريخية، وحاجيات التنظيم السياسي للدولة المغربية في علاقتها بالمجتمع، وبالأحزاب وبأسئلة الديمقراطية والحريات العامة والفردية. التحالف مع اليسار من أجل بناء الانتقال الديمقراطي سيتعرض لوخز من لدن هذه النخب التي تعتقد دوما أنها الوريثة المؤهلة لخدمة الدين والسلطان في علاقته بالعامة والرعية، أي الدعوة الصريحة لعدم تخطي الحدود الحمراء في التعاطي مع ملف المرأة والأسرة باعتباره من المجالات التي ينبغي أن يشملها الإصلاح، حتى يتم تأهيلها قانونيا لكي تستطيع مواكبة المستجدات العصرية والتعقيدات الاجتماعية بشكل عام.لن يكون من المفاجئ إذن أن تتحرك هذه النخب، في شبه تحالف محتشم مع بعض خطباء الحركة الإسلامية المحسوبة على التيار المعتدل، ضد المجيء التاريخي لليسار إلى دفة الحكم في شخص عبد الرحمان اليوسفي الذي يحمل كارزمية وطنية، وشرعية نضالية وحقوقية لا يمكن النيل منها بأي وسيلة ديماغوجية، حتى ولو باللجوء إلى المناورات الدنيئة التي كانت تستهدف مدى إخلاصه للعرش، وذلك لما كانت بعض المصادر تعمل على تحريك ملفات مخابراتية تظهر المجاهد اليوسفي «كرجل مؤامرات»، و»كعدو للملكية» و»مناوئ لشرعيتها» وبعيد عن التقليد الذي يعادي مفاهيم التقدمية والديمقراطية بدعوى أنها مفاهيم غربية لا يمكن لها أن تنطبق على الوضع الاجتماعي للمجتمع المغربي الذي ينبغي أن يقوده أهل «الحل والعقد».ستكون الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية هي المعركة الفاصلة بين توجهين إيديولوجيين في المشهد السياسي المغربي المعاصر، واحد تقدمي حداثي يتحمس لإحداث قطيعة مع التصورات والتشريعات القديمة التي لا تمنح للمرأة المغربية المكانة التي تستحقها بالنظر لما حققته من تقدم وتطور أهلها لأن تخرج من الحجر والوصاية لتصبح مواطنة كاملة الحقوق والواجبات، وتيار محافظ يراهن على التقاليد المغربية التي تميل نحو الخوف من التحديث والإصلاحات التشريعية من أجل كبح عجلة التطوير والتغيير الذي قد يعصف بمواقع هذه النخب ومصالحها المادية بالخصوص.اليسار في شخص اليوسفي مارس دوره المنتظر لما حان موعده مع التاريخ، وتحمل نتائج فعله والتزامه التاريخي مع الشعب المغربي، كما كان حريصا على تدشين مرحلة جديدة في علاقة الملكية المغربية بالأحزاب المعارضة التي سيصوت أغلبها بالإيجاب على دستور 1996 . إنها بداية لعهد جديد سيعمل محمد السادس على استكمال بناء أعمدته بمؤسسات جديدة ستمكن المغرب من تجميع قواه لمواجهة خطر الإرهاب الذي سيفرض على الملكية تموقفا واضحا من ظاهرة الغلو الديني، وحسما نهائيا مع الممارسات السلفية التي ستنتقل إلى تكفير الدولة بعدما كفرت المجتمع ونخبه الثقافية والسياسية، وذلك بمنهجية جديدة تختلف عن أداء الملك الراحل الحسن الثاني.
تدخلات الملكيةبعدما التحق جزء من اليسار المغربي بممارسة الحكم انطلاقا من منهجية التناوب التوافقي على الرغم من علاته ونواقصه، ستدار المعارك السياسية والأمنية بين الدولة بقيادة ملك المغرب الجديد في تحالف استراتيجي مع أحزاب الكتلة الديمقراطية وأحزاب الوسط الليبرالي من جهة، وضد خطر التيارات الدينية المتطرفة من جهة أخرى. لن يمارس الملك الجديد ازدواجية في خطابه السياسي، أو تقية في مواقفه الفكرية والحضارية، بل سيكون اشد وضوحا، وأكثر إصرارا على اجثتات الخطابات التي تشرع للعنف بالدين، وحتى تلك التي تحرض ضد الملكية بتأويل فقهي سلفي، أحيانا، وصوفي، أحيانا أخرى، انطلاقا من تأويل ميتافيزيقي لمفهوم الخلافة ونظام الحكم في الإسلام، وهو ما كانت ولا تزال تدعو له حركة العدل والإحسان.ملك المغرب الجديد لن يستعمل العنف الأمني المتوحش في مواجهة العنف المنفلت من خطابات دعاة السلفية الجهادية، بل سيستثمر الأدوات الأمنية باعتدال وانضباط لكل الشروط القانونية والمساطر الإدارية في الاعتقال والمتابعة، والعرض على أنظار العدالة التي كانت تعمل بشكل مفتوح وواضح قام الإعلام المغربي بتغطية وقائع أدائها بالصوت والصورة والكتابة؛ تارة نقدا وتشجيعا، وتارة مؤاخذة وتأكيدا. سيعيش المغرب تحديثا على مستوى اشتغال الآلة الأمنية وذلك مقارنة بزمن السبعينات الذي كان فيه الاعتقال يشبه الموت. لم يكن أسلوب الدولة إذن هو الانتقام من جهة أفزعها التطور الذي حققه المغرب بعد انتقال العرش بشكل سلس من الملك الراحل إلى خلفه الجديد، بل اعتمدت منطق المؤسسات في تصريف القانون والرد بعقلانية سياسية ناضجة على عنف أعمى، وذلك بتفعيل مسؤول وموزون للقضاء الذي سيتولى مهمة متابعة أو تبرئة كل من تورط من قريب أو من بعيد في العمليات الإرهابية التي كان هدفها بالدرجة الأولى هو تليين العهد الجديد ودفعه لكي يقدم تنازلات لصالح التيار المحافظ في المشهد السياسي، مع تهديده بضرورة فك ارتباطه باليسار والتيار الوطني السلفي المتفتح حتى يتأتى له توجيه المغرب نحو إرضاء استراتيجيات بعض الدول الإسلامية التي لا تريد أن ترى دولا مثل المغرب وتونس تقطعان أشواطا مهمة في مسار التحديث والتنمية في انسجام تام مع المقدسات الدينية، والعادات الثقافية، رغم وجود فارق نوعي و تباين سياسي وتاريخي، طبعا، بين التجربتين المغربية والتونسية.رفض التحديث السياسي بالعنف الديني سيدفع الملكية المغربية لأن تعلن موقفها الحازم من كل النزعات التي تستثمر العاطفة الدينية والمشاكل القومية للشعوب الإسلامية وعلى رأسها قضية فلسطين من اجل احتجاز الفعل السياسي للدولة المغربية، وجعله بالتالي يساير خيارات معادية للقانون الدولي والشرعية الدولية. ستنحاز الملكية المغربية بشكل واضح للمجتمع الدولي مع الاحتفاظ بمواقفها القومية اتجاه حقوق الشعب الفلسطيني، والاستمرار في دعم حقه العادل في إقامة دولته المستقلة على أرض فلسطين ضمن الاتفاقات التي وافقت عليها منظمة التحرير الفلسطينية تحت القيادة التاريخية للزعيم الراحل عرفات.لن تساير الملكية منطق الابتزاز، بل ستعمل على فك ارتباطها بالمطلق بكل الغموض الذي شاب علاقتها بالجماعات الإسلامية، لكي تؤسس لممارسة سياسية عقدية جديدة ستضع المغرب ضمن هوية روحانية ما فتئ المؤرخون والأنتربولوجيون يؤكدون عليها كرافعة وجدانية لصيانة البلد من كل الأهواء الكلامية التي تنهال عليه من الشرق، أوحتى من بعض العواصم الغربية التي استقرت بها بعض الوجوه الدعوية التي ستعمل جاهدة للتأثير في التقاليد العقدية والطقسية لجاليتنا، وذلك برغبة تحويلها إلى قوة معادية للتقدم والتحديث بدعوى التصدي لمنع الدولة عن الاستمرار في خياراتها التحديثية تحت ذريعة حماية أرض الإسلام المغربية من أن تحتضن ميلاد «مجتمع ديمقراطي»الذي قد يضع في»اعتقادها» حدا لطموحات كل الذين يراهنون على المعتقد من أجل بلوغ السلطة أو تقويض الدور الديني للملكية المغربية. ستنهج الملكية المغربية سياسة اجتماعية تجد أصولها الروحية في الممارسة الإحسانية الصوفية التي تمثل أنضج وجه للإيمان المغربي كما تجلى تدريجيا لدى المغاربة منذ تفاعلهم الأول مع الإسلام كحدث سماوي سيغير جذريا العادات التعبدية والطقسية لدى المغاربة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.