منذ توليه عرش البلاد، لم يتوان الملك عن مباشرة عملية ضخمة ومعقدة، تتجلى في استدراك التأخر الذي عانى منه المغرب على مستوى تأهيل مجاله العمراني حضاريا، والتعجيل بتحديث كل البنيات التحتية القائمة، مع إحداث أخرى على صعيد مختلف المدن المغربية والقرى و المداشر النائية. إنها شبه ثورة في مجال التجهيز والعمران والبناءات الضخمة التي وضعت البلاد على سكة تاريخ جديد. لا يمكن النظر إلى ما يتحقق على صعيد الأرض المغربية من تحولات يقودها الملك بإرادة سياسية صارمة، ورغبة واضحة في القطع مع ممارسات سابقة كانت سببا في التراخي الذي أصاب مختلف مؤسسات الدولة التي اكتفت بالهاجس الأمني، مؤجلة سؤال التنمية إلى زمن غير محدد، إلا من زاوية كونه تأسيسا لزمن سياسي جديد يتم فيه الفصل بين لحظتين تكادان تتناقضان شكلا وجوهرا، لحظة عطالة تاريخية ساد فيها الصراع على السلطة والثروة والنفوذ واحتلال المناصب والمواقع المؤثرة خدمة لمآرب عشائرية، أو طائفية أو حزبية أو قبلية، أو حتى أسرية جد ضيقة، ولحظة دينامية تنموية شاملة، جذرية، صادقة، بدون أن ترتكز إلى ارتهانات سياسية، أو أن تبرمجها أجندة قوى، أو مصالح لوبيات لها حساباتها السياسية الخاصة. إنها إرادة ملكية بامتياز، هاجسها الوحيد قطع الطريق على الردة التاريخية، والخطابات التعجيزية، والصيحات التيئيسية التي تعادي المستقبل والتقدم كفعل تنموي لا كقول وعيدي أو تبشير توباوي. نحن اليوم في خضم مسار تاريخي جديد، قلما ينتبه إليه الشاردون الذين تعودوا على أن لا يلتفتوا إلا عندما يكثر الصياح الذي تؤثثه الأقاويل المسجوعة التي تلهب الوجدان دون أن تقدم شيئا على أرض الواقع. العمل يتم في صمت وسكون مصحوب بسيطرة تامة على البرامج والأشغال، مع رقابة قريبة وضبط يومي للأوراش، ومحاسبة المسؤولين عن زلاتهم مهما علا شأنهم، أو تضخمت مناصبهم. ليس في الأفق القريب ما يجعل صاحب المنصب المهم متداعيا في كرسيه دون أن تنتابه لحظات من التوجس والارتباك عندما يرى أن الآتي والباقي لن يكون إلا لمن يعمل أكثر وبجدية أصدق وبروح وطنية دون مزايدة أو ابتزاز. لن نعدم سلبيات الموروثات التي سرعان ما تنكشف هنا وهناك، كحالات شاذة يتيمة لا تزال تحن إلى عهود البذخ السياسي الذي لم ينتج سوى الصراع العقيم، والموت السريري المؤجل لدولة عريقة، ومجتمع يقف مريضا حائرا بين تيارات كلها ثورات وانتفاضات، لكنها لم تكن سوى رذاذ انتخابي سرعان ما كان ولا زال يتبدد بخارا على رؤوس الناس المصدومين من لعبة سياسية فقدت بريقها الحيوي منذ أن تخلى السياسيون عن الفعل التنموي ليتفرغوا إلى الحرب من أجل المواقع وما تضمنه من أمن ضد الإقصاء أو الابتعاد عن الأضواء والنجومية الإعلامية. لازال الوقت مناسبا لأن ينضم الكل للسباق الجديد الذي يراهن على التخلص من الفقر والأمية والمرض والتهميش، وكل الشروط الخطيرة التي تحتضن بذور الفتن والانتفاضات، وتوفر المزيد من الدعم لكل النزعات التي تبحث عن الغموض والعجز لكي تسوقه كحجة على فشل بلاد بكل نخبها، وقيادييها، وزعمائها، ومثقفيها، وكل من تعلم في مدارسها كيفية حل المعادلات، ومقاربة الإشكالات، وتدبير الخلافات بروح عقلانية نقدية تارة، وبتسامح ديني أخلاقي تارة أخرى. تدوين القناعات إذن، ليس هناك مجال للتفكير في أن المبادرات الفردية يمكن أن تحقق انتصارا أسطوريا ضد كل هذه الآفات. هنا لا بد من الانتقال لفحص مفهوم العمل الوطني الذي يستقطب كل القوى الغيورة على مصالح المغرب ومكتسباته السياسية والاجتماعية التي لن يتنازل عنها المغاربة مهما تنطعت الخطابات المعادية للحريات الفردية والجماعية؛ إنه العمل الوطني المسؤول الذي سيكون منتجا للديناميات التنموية التي تؤسس فعلا لمسار حياتي على الأرض كشرط عملي لا محيد عنه لكي يتطور الفعل الاجتماعي، وينضج التمثل الثقافي الذي قد يتحول إلى عائق يقلب، سلبيا، النتائج المتوخاة من هذه المبادرات التنموية التي قد يتم تقديمها من لدن الذين يعادون التحديث إلى مجرد «إكسسوارات» لمسرحية سينقضي زمنها بعدما ينهي الممثلون أدوارهم، لكي يتم طي قطع الديكور وإطفاء مصابيح الإنارة، لتعود الخشبة إلى حالها الأول، فارغة، عارية، بدون ملامح، إلا من بقايا روائح العابرين لمجالها، الذين تركوا كلاما ضائعا في فضاء قاعة مغلقة، وطيف حركات منسحبة على ركح متحرك على الدوام في اتجاهات متعددة، بل و أحيانا متناقضة. إنها أمنية اللاشعورية تغمر قلوب الذين يراهنون على الفشل والأخطاء والممارسات المشينة لكي يتاجروا باليأس، ويسوقوه داخليا وخارجيا في شكل خطاب يمتدح الموت والخراب والفناء وكل ما يزرع الاستسلام في نفوس البسطاء من الناس. كيف يمكن إذن ترسيخ هذه التحولات التي تمس البنيات التحتية لبلادنا إلى تحولات موازية على صعيد الوعي بالتغيير، والانتصار لطلبه كحاجة حيوية لا مناص من الانصهار في بوثقتها، من أجل اللحاق بالمجتمعات التي كانت إلى الأمس القريب أقل منا درجة من حيث الموقع الإنتاجي، وحجم النشاط التجاري، و مكانة الدولة في صيرورة الأحداث العالمية التي طبعت القرن العشرين. بل كيف يمكن استثمار، ثقافيا، التحديث الذي يقوده الملك على صعيد تأهيل المدن والقرى، لكي نخلق منه حالة صدمة فكرية تفرض القراءة المتيقظة والإدراك العميق لدلالات التحديث على صعيد الوعي الاجتماعي الذي بدون مسايرته لهذا المسار قد يترك الفضاء العام مرتعا متوحشا تسكنه الكائنات الفكرية التي تعانق القديم لكي تمرن الناس على نبذ التحولات العمرانية بشكل غير مباشر وغير صريح، حيث ستقدمها للوعي الشقي السائد في صورة الأجواء التي ستحتضن سلوكا اجتماعيا يبدو، في صورته الشكلية الأولية، بعيدا نوعيا عن المألوف من سيرة الأولين كما تقدمها التمثلات المبثوثة بين صفحات الأسفار العتيقة. المفارقة الصادمة التي تطبع المشهد الثقافي الحالي ببلادنا تكاد تكون صاعقة لوجدان المثقف غير المقيد بأجندة سياسية محددة، باستثناء عشقه لكل عمل يصب في تحريك دواليب المجتمع وضخ دماء جديدة في شرايين وعيه الاجتماعي، وتصليب دور الدولة كقائدة للتنمية المنشودة في المرحلة الحالية؛ تتجلى معالم هذه المفارقة في اختلال التوازن بين التحديث الذي يمس البنيات التحتية والوعي الذي يكتسح العقول ويهيمن على النفوس كهواء غريب عن طبيعة الأهداف المتوخاة من هذا التحديث الذي يعتبر هو القاعدة المادية الحقيقية للتحديث الفكري الذي سيدفع في اتجاه تحريك أنظمة القيم والمعايير، والعادات التي تحتمي بالنزعات التوجسية من كل جديد غير مألوف في البنية النفسية الموروثة. أي هناك تفاوت بين الأرض التي تهتز لتحتضن التجهيزات التي ستدخل المجال العمراني إلى زمن العصرنة، وبين السلوك الاجتماعي الذي تغلب عليه مظاهر الماضوية والحنين إلى نموذج متخيل في خطابات الرفض لكل حركة تسير نحو المستقبل. إذن هناك حركية غير متناسبة بين ما يجري على الأرض من إنجازات تعصرن بإصرار المجال العمراني، وطبيعة السلوكات التي تسير في أغلبها نحو التماهي بنماذج روحية وفكرية مستوحاة من خطابات أخرى لها علاقة بتجارب دول مغايرة لنا في كل المرجعيات التاريخية والحضارية واللغوية والفلسفية. ملك المغرب يكتب فكره بممارسة عملية ، يدون قناعاته بأفعال ملموسة، تنبت هنا وهناك في شكل إنجازات، أحيانا، تصدم المواطن البسيط الذي لم يألف أن يرى بلاده تسير نحو التنمية بهذا الإيقاع السريع والثابت والهادئ لأنه تعود على سماع الضجيج السياسي الكثير الأصداء الذي يغيب فيه الإنجاز المادي المقنع. المتتبع للمسارات التي يشتغل عليها ملك البلاد سيكتشف أن هناك إشارات تؤسس لمصالحة المغربي مع نفسه وإنسانيته وقيمه التي كانت دوما متجاوبة مع العصرنة على الرغم من الظهور الباهت بين الفينة والأخرى لبعض الأصوات النشاز التي كانت تعلو لهيبا بلاغيا، لكي تخبو متواضعة الجناح مع انبثاق صدقية وفعالية المنجزات الحضارية التي كانت دوما تأتي لتحل معضلة إنسانية، أي مفيدة لحياة الإنسان بغض النظر عن معتقده و جنسيته و عرقه و لغته. أي منتوجات حضارية كونية. لقد كانت مدونة الأسرة خير إنجاز ثقافي أسس لتقاليد الحسم مع الصراع الفكري الذي لا ينبغي له أن ينفلت من ذلك التصالح المغربي العميق بين ثنائية لا تتنافر حدودها في اتجاه تمزيق لحمة المجتمع أو إضعاف مؤسساته التقليدية التي ورثت سر تذويب الخلافات التي تستند إلى مرجعيات روحية لا يمكن أبدا احتكارها من لدن أي طرف سياسي، مهما بلغت تمثيليته السياسية للمواطنين على صعيد المؤسسات النيابية القائمة. هناك قواعد ومنهجية مؤسسية لا مجال للتفكير في القفز على صلاحيتها لدفع البلاد نحو اعتناق اتجاه معين بشكل متطرف، أو تطليق الإتجاه المقابل الذي ينبغي حفظ حقه في البقاء والتأثير لخلق التوازن وتنظيم التطور بشكل يضمن الصحة النفسية للمواطنين، والسلامة السياسية للجسد الاجتماعي المغربي ككل. من هنا بات من الأكيد التفكير في إخراج التصالح المضمر بين المغربي والتحديث إلى مجال النقاش الوطني المكشوف. لكن من هي النخب التي بإمكانها الاشتغال على هذا المستوى الحر من الفكر والقيم التي ظلت تتحرك في شبه سكرة روحية خافتة بدون أن تثير ضجيجا إشكاليا، أو أن تحدث خلخلة فعلية للوجدان الذي ألف السكوت عن أمور هي بحاجة اليوم لأن تقال بلغة العلم والمعرفة وليس بلغة الإعلام والشجارات الفجة التي تقتات من السجلات الرمزية العامة. الملك يبني، يدشن، يعطي الانطلاقة لمشاريع متعددة ، يتحرك في كل الاتجاهات، لكي يكتب وسط الغبار والحقول وبين الأحجار،، ومن أعلى مرتفعات البلاد ومن بين الشعاب والهضاب، مشروعه الديمقراطي التحديثي الذي لن يصبح ممكنا ومقبولا ومنتصرا إلا لما يستفيد منه الناس، ويقطفوا ثماره التي ستنعكس إيجابا على نمط حياتهم، وتجعلهم مقتنعين بأن العيش في عالم اليوم بكل منجزاته العلمية والتكنولوجية والترفيهية قد أصبح في متناول أيديهم، وأن الانخراط في العمل الحر والمبادرات المتحررة من كل وصاية قد غذى هو المدخل الوحيد لكي يجدوا لهم مكانا في العولمة التي ليس لها تاريخ أو هوية أو حدود. التحديث بهذا المعنى ليس شعارا يرفع في الساحات العامة، وفي الفضاءات الجامعية والأوساط الإعلامية، بل إنه استثمار في البناء والتشييد والتأسيس للمدينة الحديثة التي ستكون هي المأوى الذي سيحتضن خطاب الفكر حول الحداثة كمشروع له ما يبرره على الأرض قبل أن يكون مجرد حلم مخيف للذين يفضلون الاحتماء بأساطير الذات وما تختزنه من صور عن ماضي ولى بدون رجعة. الانتماء إلى العصر يقرأ المتتبع المتيقظ في الأداء الاجتماعي للملك أن المغربي بإمكانه أن يكون حاضرا في عصره عقلا واتجاها اجتماعيا إيجابيا، دون أن يسلبه ذلك كيانه الوجداني الذي تؤثثه روحانية إسلامية مغربية تتعالى عن المماحكات الجدلية، وتنأى بتسامحها الأصيل عن إصدار الأحكام الأخلاقية العنيفة، بل تظل تزوده بالمسوغات الداخلية التي تجعله ينخرط في القيم الكونية بثقة وعزم وهو مقتنع أن ذلك لن يزيد شخصيته إلا قوة وتجددا وانفتاحا على العالم. ينزل الملك إلى الشاطئ من أجل أن يمارس هوايته الرياضية كباقي الناس، لكي يصعد إلى الحياة العامة من اجل أداء الصلاة وسط جموع من المواطنين، أو قصد الاحتفال بمناسبة دينية أو وطنية أو عائلية دون أن يشكل ذلك تناقضا في مفهوم السلوك النموذج، أو نفيا لجانب من هوية الذات المغربية التي يرسخها فعليا السلوك الاجتماعي الملكي كحامل لقيم ودلالات ذات بعد ثقافي، وعمق تاريخي يغرف من الوجود النوعي للدولة المغربية التي تنغرس في تربة إفريقيا حتى الجذور الأولى، لتظل تشرئب بنظرها إلى أوروبا بحكم القرب والمثاقفة الممتدة على مدى قرون، دون أن تتنصل من قبلتها العقائدية التي تمتلك جاذبية خاصة في وجدان المغاربة منذ زمن الحضور الإسلامي في شمال إفريقيا. للملكية قصب السبق في تسريع وتيرة تحديث الممارسات الاجتماعية، وخلخلة التمثلات الثقافية للمغاربة حول المرأة، والحرية، والتعليم والعمل؛ لقد خرجت المغربيات في بداية استقلال المغرب للتظاهر في كل المدن والقرى احتفالا برؤية كريمة محمد الخامس الأميرة « للا عائشة» على الشاشة في أجمل صورة وأبهى حلة وهي ترسم معالم شخصية حديثة للمرأة المغربية التي ستعيش زمن الاستقلال . قبل هذا الحدث كان مفهوم المرأة النموذجية هي التي لا تغادر بيت زوجها إلا لماما تحمل على النعش إلى مثواها الأخير، أي مفهوم المرأة « الحاجبة» كما كانت تحدده آنذاك العادة والعرف السائدين. إنها تلك «الولية» التي لا ينبغي لها أن تتسوق، ولا أن ترى الرجال، ولا أن تتعاطى أي نشاط تجاري أو غيره. كان الأمر يتعلق بالمرأة التي تقبع أبد الدهر محتجزة في بيت الزوجية التي لن تغادرها إلا لما يحملها الموت إلى دار البقاء. لكن لما سمح المغفور له محمد الخامس بأن تخرج بناته إلى الفضاء العام كبداية لعهد جديد بالنسبة للمرأة المغربية التي كانت ملفوفة في ثوب « الولية» ، «الحاجبة «، لم تتردد بعض النساء الطليعيات من إطلاق الزغاريد والشعارات التي ستؤرخ لهذا الحدث الذي سوف يقلب نظام القيم التي تنظم وتؤطر تصور المغاربة آنذاك لأدوار المرأة ومكانتها ونوعية العمل الذي لا ينبغي لها أن تتجاوزه. شعارات ستدخل معانيها كل البيوت، بل سيتعمدن النساء الثائرات على التقاليد الخاطئة الوقوف بباب بعض النساء «الحاجبات» وهم يرددن الأنشودة التالية: «أخرجو يا لحجبات، للا عيشة في الرباط». سينتشر هذا البيت الفريد والوحيد في كل أنحاء المغرب محدثا دويا قويا، وأثرا مباشرا على وضعية المرأة التي ينبغي لها أن تخرج للعمل والإنتاج، والمشاركة إلى جانب شقيقها الرجل في بناء الوطن ومستقبل الأجيال اللاحقة. لقد كان للظهور الرمزي لكريمة محمد الخامس مفعولا سحريا، ترتب عنه رد فعل سريع ومباشر من لدن النساء اللائي تلقين هذه الالتفاتة الملكية بنوع من الذكاء المغربي السريع البداهة، لكي يحولنه إلى ثورة اجتماعية يصعب حتى تخيلها في زمن كانت فيه التقاليد التي تحد من حريات النساء بمثابة المقدس الذي لا مجال لاختراقه، أو حتى الحديث عنه. لقد فعلت الملكية بهذا السلوك ما تعجز عن تحقيقه النظريات والنضالات والتراكمات التي، وعلى الرغم من صدقها، وجدية رجالها ونسائها، فلن تقوى على استمالة قلوب وعقول البسطاء كما لاحظنا في الشعار السابق الذي صاغته نساء مغربيات لم يسبق لهن أن مررن بالمدرسة، باستثناء مدرسة الروحانية المغربية التي يتقن فنون فك شفراتها عندما تتحدث الدولة معهن بلغتها وطقوسها. هناك حدود طبعا لا يمكن المجازفة بتخطيها فيما يتعلق بالمرأة ككل، حيث ستظل زوجة الملك محتجبة عن الظهور العام تمشيا مع سلطة التقاليد وقوة الرقابة الدينية التي لا تزال غير مستعدة للقبول بصورة الزوجة المواطنة، المسؤولة عن نفسها وسلوكها وشرفها؛ من هنا يمكن فهم جدل الانغلاق والانفتاح في السلوك الاجتماعي للملوك المغاربة حسب قراءتهم الخاصة لنبض مجتمعهم، و مدى استعداده لقبول الصدمات الإيجابية التي لن يصحو منها إلا وهو معافى من بعض الممارسات التي لن تسمح له بالتقدم في تحقيق التنمية والتحرر والتوازن النفسي والاجتماعي. أدوار المرأة لكن مع محمد السادس سيحدث تحول نوعي على مستوى التأسيس لمكانة المرأة، قانونيا، ورمزيا وتنمويا، عبر اعتماد مدونة الأسرة التي انتشلها من منطق المزايدات الإيديولوجية الماضوية، لكي يصبغ عليها طابع المعقولية الدولتية المسنودة بمؤسسة إمارة المؤمنين التي لا مجال للتصادم مع شرعيتها التاريخية كإطار ديني وجد لكي يحمي المغاربة من الفوضى الفقهية، والفتاوى غير المنظمة. هنا أصبح التحديث جزءا من رمزية الملك، وسلوكه اتجاه أسرته، وعقيلته بالخصوص التي منحها الدستور صفة الأميرة لكي تخرج، كزوجة للملك، من الظل السلطاني لممارسة نشاطها كامرأة مثقفة وكسيدة أولى. إنه القرار الاستراتيجي في المجال الثقافي والعقدي الذي سيؤسس لأدوار جديدة للمرأة المغربية كمناضلة في الحقل الجمعوي الذي ستنهض بمسؤوليات مكملة لوظائف الدولة الأساسية. هذا لا يعني أن كل النساء المغربيات كنا إلى حدود هذا العهد قابعات في بيوتهن في انتظار ثورة من داخل المحيط الملكي، بل لقد لعبت الأحزاب السياسية وخاصة قوى اليسار دورا في تحرير المرأة من مخلفات عهود الانحطاط التاريخي، لكي تدخل مجال المنافسة السياسية، وتلج البرلمان، وتتحمل مسؤوليات حكومية؛ لكن رغم ذلك فإنها تظل «المرأة المتحزبة» التي ليست بالضرورة هي النموذج المهيمن ثقافيا، بل هو الاستثناء الذي يرغب في أن يجد طريقه نحو التعميم والانتشار؛ لكنه كان يتعرض دوما للطعن من لدن القوى التقليدانية التي تستثمر النزعات المحافظة لدى المغاربة من أجل الترويج للمرأة «الحاجبة»، التي لن تعود للحياة مرة أخرى، بل سيطارد المهووسون طيفها المنفلت من أجل تلفيفها في أثواب داكنة بعدما أصرت على العيش الصريح في المجال العام كمواطنة لها حقوق وعليها واجبات. سيعمل الملك على حماية المرأة المتحررة من التقاليد القامعة لحقوقها الطبيعية من كل الهجمات المسنودة بتأويلات متسرعة ومنفعلة للنص المقدس، وأحيانا مستوردة من تجارب شعوب مسلمة أخرى. (يتبع)