نشأتْ عوامل كثيرة أدّت إلى تشويه صورة أبي نواس أخلاقيًّا، منها: الشعوبيّة الفارسيّة ضدّ الشاعر، والشعوبيّة العربيّة ضدّه كذلك. العصبية القَبَليّة العدنانيّة، التي عرّض أبونواس ببعض قبائلها في شِعره. الدعاية السياسيّة المأمونيّة ضدّ الأمين، صديق أبي نواس. عداء أبي نواس للمعتزلة، وللنظّام (إبراهيم بن سيّار، -231ه= 845م) تحديدًا، وإنكاره عليه رأيه في الخطيئة والتوبة. الفهم الظاهريّ لشِعر أبي نواس، مع أن بنية ذلك الشِّعر العميقة قد تبدو نقدًا اجتماعيًّا أو تعرية لواقع الحال في عصره، ولاسيما بعد مشهده ما حدث لصديقه الأمين على يدَي أخيه المأمون. والقصور في فهم طبيعة الشِّعر عمومًا هو ما جعل بعض الأصوليّين من دارسي الأدب العربيّ يُنكر الغَزَل ووصف الخمر في الشِّعر. ولمّا شُوّهت صورة أبي نواس على ذلك النحو، صارت تتقاذفه الاتّهامات والأنساب. وقد اتّهم بالشعوبيّة، مع أن ليس في شِعره ما يدلّ على شعوبيّة، وإنما فيه هجاء بعض العرب، في شِعر العرب ما هو أشدّ منه. إضافة إلى ما في شِعره من نفورٍ من الصحراء، وعادات الأعراب، وتقاليد الحياة القديمة، والقصيدة القديمة، وتغنٍّ بالحضارة وترفها، من مثل قوله(1): دَعِ الرَسمَ الَّذي دَثَرا *** يُقاسي الريحَ وَالمَطَرا أَلَم تَرَ ما بَنى كِسرى *** وَسابورٌ لِمَن غَبَرا مَنازِه بَينَ دَجلَةَ وَال *** فُراتِ تَفَيَّأَت شَجَرا بِأَرضٍ باعَدَ الرَحمَا *** نُ عَنها الطَّلحَ وَالعُشَرا وَلَم يَجعَل مَصايِدَها *** يَرابيعًا ، وَلا وَحَرا فَذاكَ العَيشُ لا سِيْدًا *** بِقَفرَتِها وَلا وَبَرا بِعازِبِ حَرَّةٍ يُلفَى *** بِها العُصفورُ مُنحَجِرا إِذا ما كُنتَ بِالأَشيا *** ءِ في الأَعرابِ مُعتَبرا فَإِنَّكَ أَيَّما رَجُلٍ *** وَرَدتَ فَلَم تَجِد صَدَرا وَمِن عَجَبٍ لِعِشقِهِمُ ال***جُفاةَ الجُلْفَ وَالصَّحَرا فَقيلَ مُرَقِّشٌ أَودَى*** وَلَم يَعجَز وَقَد قَدَرا تَعُدُّ الشِّيْحَ وَالقَيصو *** مَ والفُقهاءَ وَالسَّمُرا جَنِيَّ الآسِ وَالنِسري *** نِ وَالسوسانِ إِنْ زَهرا وَيُغنيها عَنِ المُرجا *** نِ أَن تَتَقَلَّدَ البَعَرا وَتَغدو في بَراجِدِها *** تَصيدُ الذِئبَ وَالنَّمِرا أو قوله(2): قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَسْ *** واقِفاً، ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَسْ! وماذا في هذا كلّه ممّا يدلّ على الشعوبيّة والعنصريّة؟! ولِمَ لَمْ يُتّهم (البحتري الطائي، -284ه= 898م)- مثلاً- بالشعوبيّة، وقد وَصَفَ إيوان كسرى ومجّد آثاره، وكان أكثر ممدوحيه من الأعاجم؟! ثم هو القائل(3): حِلَلٌ لم تكن كأطلال سُعدى *** في قفار من البسابس مُلْسِ ومساعٍ، لولا المحاباة منِّي، *** لم تطقها مسعاة عنْسٍ وعَبْسِ ولقد ذهب (أنيس المقدسي)(4) إلى القول: "ويزيدنا ثقةً بذلك [أي بشعوبيّة أبي نواس] أنه كان يأخذ العِلم عن أبي عُبيدة ويمدحه، ويذمّ الأصمعي"! وما في هذا دليل على شعوبيّةٍ، فضلاً عن أن يزيد الثقة بتُهمتها. فإنما علاقة أبي نواس بأبي عبيدة كعلاقة غيره به؛ طلبًا لعِلمه، ولعلاقته بهارون الرشيد. وإذا كان مَدَح أبا عبيدة، فقد هَتَره هَتْرًا مقذعًا في بعض شِعره، كقوله(5): صَلّى الإِلَهُ عَلى لوطٍ وَشيعَتِهِ *** أَبا عُبَيدَةَ قُل بِاللَهِ: آمينا! فَأَنتَ عِندي بِلا شَكٍّ بَقِيَّتُهُم *** مُنذُ احتَلَمتَ، وَقَد جاوَزتَ سَبعينا! ومع ذلك فقد وقع الشاعر بين فكّي الصراع بين أبي عُبيدة والأصمعي، وفكَّي صراع الشعوبيّة والشعوبيّة المضادّة. وإلاّ لِمَ لَمْ يُتَّهم الرشيد نفسه بالشعوبيّة لعلاقة أبي عبيدة به؟! بل لِمَ لا يُعدّ من الشعوبيّة إلاّ ذمّ العرب وانتقاد تقاليدهم، ولو من طرفٍ خفيّ، فيما تجد في شِعر العرب من الذمّ الصريح للعجم، أصلاً وفصلاً، أضعاف أضعاف ذلك؟! أ وليست هذه هي الشعوبيّة بعينها؟! أمّا ما يورده (ابن عبد ربّه)(6) فيما قال إنه من شِعر أبي نواس على "مذهب الشعوبيّة"، وهو: وجاورتُ قوماً ليس بَيْني وبَيْنهم *** أَوَاصرُ إلاّ دَعْوةٌ وظُنونُ إذا ما دَعا باسمي العريفُ أجبتُه *** إلى دَعْوةٍ ممّا عليَّ تَهُونُ لأزْد عُمَان بالمُهلّب نَزْوةٌ *** إذا افتخر الأقوامُ ثُمَّ تَلِينُ وبَكْرٌ تَرى أن النُبوّة أُنْزِلت *** على مِسْمَع في البَطْن وهو جَنِينُ! وقالت تَمِيم: لا نَرى أن واحدًا *** كأحْنَفِنا حتى المماتِ يَكُونُ! فلا لُمْتُ قَيْسًا بعدها في قُتيبةٍ *** إذا افتخروا إنّ الفَخار فُنونُ! فلا يمكن حمله على الشعوبيّة، وإنما غاية ما يمكن أن يُقال فيه إنه سخرية من مفاخرات القبائل العربيّة، إذ نَقَلَت عصبيّاتها ومفاخراتها من الجزيرة إلى البصرة، التي نشأ فيها الشاعر. ومعروف ما أحدثه ذلك هناك من منافرات وصراعٍ قَبَليّ مرير. ومقدّمة هذه الأبيات تكشف مرماها، وهي(7): أَلا كُلِّ بَصرِيٍّ يَرى أَنَّما العُلى *** مُكَمَّهَةٌ سُحقٌ لَهُنَّ جَرينُ فَإِن تغرِسوا نَخلاً فَإِنَّ غِراسَنا *** ضِرابٌ وَطَعنٌ في النُحورِ سَخينُ وَإِن أَكُ بَصرِيًّا فَإِنَّ مُهاجَري *** دِمَشقُ ، وَلَكِنَّ الحَديثَ شُجونُ مُجاوِرُ قَومٍ لَيسَ بَيني وَبَينَهُم *** أَواصِرُ إِلاّ دَعوَةٌ وَظُنونُ... وقد أورد ابن عبدربّه ما أورد تحت عنوان "قول الشعوبيّة وهم أهل التسوية"، أي القائلين بأن الناس سواسية، احتجاجًا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "المُؤمنون إخْوة تَتكافأ دِماؤُهم وَيسْعَى بذمّتهم أدناهم، وهمُ يدٌ على مَن سواهم". وقوله في حِجة الوَداعِ- وهي خُطبته التي ودّع فيها أمّته وخَتَم بها نُبوّته-: "أيها الناس، إنّ اللهّ أذهب عنكم نخْوة الجاهليّة وفَخْرها بالآباء، كلّكم لآدم وآدم من تُراب، ليس لعربيّ على عَجَمي فَضْلٌ إلاّ بالتَّقْوى." وهذا مُوافق لقَوْل الله تعالى: "إنّ أكرمَكم عِنْد الله أتْقاكم". وقد كانت حُجة هؤلاء كما ترى عقلانيّة، وتستند إلى براهين الواقع والدِّين. ثم أوردَ ردَّ (ابن قتيبة) العجيب على من يسمّيهم بالشعوبيّة، الذاهب إلى أن المَعنى في القرآن وكلام الرسول إنما هو "أنَ الناس كلَّهم مِن المؤمنين سَواء في طريقِ الأحكام والمنزلةِ عند الله عزّ وجلّ والدَّار الآخرة".(8) فأسقط بذلك حجّته؛ لأن ليست لديه حجّة من الأساس، وإنما هي العصبيّة المطلقة للعرب، وإن ناقضت مبادئ العقل والإسلام؛ لأنه إذا كان المقصود بتساوي العرب والعجم عند الله فقط، وفي الدار الآخرة، كما زعم، فأين أفضليّة العرب على العجم في الدار الأولى، ليكون لهم عليهم الفخر؟! أهي في العِلم، أم في الفلسفة، أم في الصناعة، أم في الحضارة، أم في ماذا؟! إنْ هي، إذن، إلاّ جدليّات فارغة، كانت بين القبائل العربيّة في مفاخراتها الجاهليّة، ثم أضحت بين العرب وغيرهم من الشعوب في الإسلام. [وللحديث بقيّة] (1) (1982)، ديوان أبي نواس، تح. أحمد عبد المجيد الغزالي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 557- 558. (2) م.ن، 134. (3) البحتري، (1977)، ديوان البحتري، تح. حسن كامل الصيرفي (القاهرة: دار المعارف)، 1155. (4) (1979)، أمراء الشعر العربي في العصر العبّاسي، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 107. (5) ديوان أبي نواس، 531. (6) انظر: (1983)، العقد الفريد، تح. أحمد أمين وآخرَين (بيروت: دار الكتاب العربي)، 3: 408. (7) ديوان أبي نواس، 546. (8) انظر: ابن عبد ربّه، 3: 403- 417.