-1- إذا كان الاجتزاء المضلّل حين يحدث في النثر غير الأدبيّ يُظهر النص ذا معنى غير مقصود، وذلك لإخراجه من سياقه، فإن إمكانيّة ذلك في الأدب أكثر ورودًا، وعواقبه أبلغ تعقيدًا، وهو في الشِّعر أشدّ غموضًا والتباسًا ومراوغة وطول نَفَس. وعندئذٍ فمِن الدارج أن تنتهي بنا قراءاتنا المبتسرة في الأدب، أو غير الراشدة، إلى إحدى نتيجتين: - إمّا الحُكم الجاهز برداءة النصّ، أو عبثيّته، حينما لا نفهمه، لأننا متعلّمون ومثقّفون- والأدب كما وَقَر في الأذهان محض ثقافة عامّة، بإمكان أيّ متعلّم أو مثقّف أن يتعاطى معه، وأن يَحكم على جيّده ورديئة، بل أن يصنّف الأدباء في طبقات- فلِمَ لا نفهم النصّ، أو لا نستسيغه؟! العيب في النصّ، إذن، لا فينا! - أو أن نفهمه جدًّا، كما فهمنا أبيات نزار قبّاني حول النهود والحلمات وجلود النساء، لكننا لا نفرّق بين قصيدة شاعر وتصريحٍ صحفيّ أو نشرة أخبار. فالشعراء يقولون ما يفعلون. ثم إن البيت- كما ألفنا من شوارد العرب- وحدة واحدة، لا من قصيدة متكاملة. والبيت ينقل إلينا تجربة مباشرة، وحقيقيّة، عن سيرة الشاعر، فحين يقول الشاعر إنه "فصّل من جلد النساء عباءة"، فهو يعني ما يقول، وهو يعبّر عن تجربة واقعيّة، ليخبرنا، كي نعرف ماذا فعل بالنساء.. أخزاه الله! كما أخبرنا قديمًا امرؤ القيس، وأكّد ذلك الشُّرّاح، كيف ضاجع الحامل والمرضِع، فيما كان يشرح بدوره هذه التفاصيل المخجلة من الحكاية لمعشوقةٍ أخرى اسمها فاطمة، كي يستدرجها هي الأخرى إلى مثل ذلك المصير معه! انتهى.. لسنا في حاجة إلى غير هذا في القراءة والاستقراء والفهم والتفسير! وذاك هو الشِّعر والأدب، فلنمتشق سهام الإدانة، لنصطاد الشعراء ونُزهق أرواح الكتّاب! -2- والحُكم على الشاعر من خلال قراءة سطحيّة مباشرة لشظايا من شِعره مسلكٌ قديم في الثقافة العربيّة. ولنأخذ نموذجًا على هذا من (أبي نواس، الحسن بن هانئ، -198ه= 814م)(1). فهل حقًّا كان شِعره صورة مباشرة عن سلوكه وحياته، كما فَقِه الناس؟ أم هو إلى ذلك، أو قبل ذلك، أو ربما بعكس ذلك، نَقْدٌ لمجتمعه وعصره، وتعريةٌ لمخازيهما، بلهجة صادقة لا منافقة، حتى لو مَثَّل الشاعر بنفسه وحكى عن تجربته؟ تُرى أهو جادٌّ، ويعني ما يقول، ويصف ما يفعل، أم هو ساخر؟ أ وليس هو القائل: اِسقِني حَتّى تَراني *** أَحسَبُ الدِّيكَ حِمارا؟! لا شكّ في أن الرجل كان غارقًا في ما الناس فيه غارقون في القرن الثاني للهجرة، لكنّ شِعره لا يسوّغ لنا- بقراءته قراءة مستكنهة- استنتاج أنه كان مؤمنًا بحياةٍ كتلك، بل لعلّه كان يندب، بصفةٍ غير مباشرة، ذاك التردّي الذي يحيط به(2). وهنا يمكننا بقراءة جديدة أن نقف على حقيقة أبي نواس، وعلى عوامل تشويه صورته، وما يلابس تلك الصورة النمطيّة ممّا يبعث على التشكّك في صحّتها، ومن ثَمَّ الوقوف على قضايا الشاعر الجوهريّة التي عبّر عنها من خلال شِعره. وهو ما يستدعي التعريج على نقدٍ منهجيٍّ لبعض الدراسات التي قامت حول شِعره، مستندةً إلى ما رُسّخ من صورته، وما حَمَلَه ظاهر خطابه الشِّعريّ. ولعل من عوامل تشويه صورة أبي نواس أخلاقيًّا، ما يأتي: 1- الشعوبيّة الفارسيّة ضدّ الشاعر، والشعوبيّة العربيّة ضدّه كذلك. فالفُرس هم أخوال (المأمون)، وقد كان الشاعر صديق: الأمين بن الرشيد، عربيِّ الأب والخؤولة، الذي كان يكنى بأُمّه العربيّة، نكاية فيه: ابن زبيدة! كما كان أبو نواس جليس الفضل بن الربيع، وزير الأمين، ذي العصبيّة العربيّة. ومعروف تاريخيًّا ما دار بين المأمون والأمين من صراعٍ سياسيٍّ ودعائيٍّ، أودى بالأخير لحساب الأوّل. فهو تشويهٌ استُهدف به الأمين من بعض الوجوه، كانت وسيلته أبا نواس. ثم جاءت الشعوبيّة المضادّة، العربيّة ضِدّ الفرس، من حيث كان أبو نواس خوزيًّا، فارسيَّ الأصل، على بعض الأقوال. فتناوشته الشعوبيّتان، كلّ واحدة من جهة. وهكذا تلعب العصبيّة العِرقيّة والسياسيّة والدينيّة في الثقافة وأعلامها. والعجيب أن يبقى لدى الدارسين المحدثين تسليمٌ بذلك التنابز القديم بالولاءات القوميّة أو الدينيّة من أجل التصفيات السياسيّة، كتُهمة الشعوبيّة أو الزندقة. وهذا ما نجده لدى طه حسين(3)- مثلاً- في ذهابه إلى أن أبا نواس كان على "مذهب تفضيل الفُرس على العرب، مذهب الشعوبيّة المشهور". وكأنه بقوله هذا ما زال يتحدّث بلسان العصر العباسيّ الأوّل وأهله! 2- العصبية القَبَليّة العدنانيّة (أسد وتميم وقيس)، التي عرّض بها أبونواس في شِعره، فيما كان يعتزي بأنه الحَكَمي اليَماني، في مثل قوله: وَقالَ: "أَمِن تَميمٍ؟" قُلتُ: "كَلاّ *** وَلَكِنّي مِنَ الحَيِّ اليَماني"(4) أو قوله: يبكي على طللِ الماضين من أسَدٍ *** لا دَرَّ دَرُّك، قل لي: مَن بنو أسدِ؟ وَمَن تَميمٌ، وَمَن قَيسٌ، وَإِخوَتُهُم؟ *** لَيسَ الأَعاريبُ عِندَ اللَهِ مِن أَحَدِ!(5) مع أن أبا نواس لم يكُ موقفه من العدنانيين عامًّا، ولم يهجُ إلاّ أشخاصًا، أو عرّض بأحياء معيّنة. وإلاّ فله هجاء في بعض اليمانيّة أيضًا ومَدْح في النزاريّة، كما في هجائه هاشم بن حديج الكِنديّ، ومدحه القلمّس الكنانيّ(6): يا هاشِمُ اِبن حُدَيجٍ لَو عَدَدتَ أَبًا *** مِثلَ القَلَمَّسِ لَم يَعلَق بِكَ الدَنَسُ إِذْ صَبَّحَ المَلِكَ النُعمانَ وافِدُهُ *** وَمِن قُضاعةَ أَسرَى عِندَهُ حُبُسُ وكذلك حال الشعراء في تذبذب عواطفهم وولاءاتهم، حين يرضون أو حين يسخطون، وما أبو نواس منهم ببِدْع. ثم جاءت العصبيّة المضادّة، حينما أخذ القحطانيّون يتبرّؤون من انتماء أبي نواس إليهم، كما فعل ابن منظور الأنصاريّ اليمنيّ في كتابه "أخبار أبي نواس". ولعلّ ما في شِعر أبي نواس من تناقض في ولائه للقبائل اليمنيّة والعدنانيّة- إنْ صحّ أن هناك تناقضًا- ما هو إلاّ صدًى للصراع القَبَليّ بين هذين القسمين من العرب، مثلما أن مرواحة شِعره بين القديم والمحدث جاء صدًى آخر للصراع بين هذين التيارين في العصر العبّاسيّ؛ فكان يُرضي أصحاب القديم بطرديّاته ونحوها من شِعر البادية، ويُرضي الآخرين بخمريّاته وغلمانيّاته. أمّا طبيعة اللغة، من حيث هي، فهي تُوظَّف لديه حسب الموضوع، من حضريّ وبدويّ. ولذلك فإن شِعره- إذا قُرئ قراءة نقديّة معمّقة، بحيث لا يُبتسر الحُكم عليه من خلال صورته المشوّهة وسيرته المحكيّة- هو أصدق شاهد على شخصيّته وشخصيّة عصره، بكلّ تقلّباته وصراع تيّاراته. 3- الدعاية السياسيّة المأمونيّة ضدّ الأمين. فمع أن الأمين- في ما نُقل- كان قد مَنَعَ أبا نواس عن ذكر الخمر وهدّده بالسجن، إلاّ أن أخاه المأمون قد ظلّ يعيّره بصُحبة أبي نواس. وتذكر الروايات في ذلك أنه "لمّا خلع المأمونُ أخاه محمّد بن زُبيده [الأمين]، ووجّه بطاهر بن الحسين لمحاربته، كان يعملُ كُتبًا بعيوبِ أخيه، تُقْرأ على المنابر بخراسان؛ فكان ممّا عابه به أنْ قال: إنه استخلص رجلاً شاعرًا ماجِنًا كافرًا، يقال له الحسن بن هانئ...". [وللحديث بقيّة]