سعت إسرائيل دائماً إلى أن تكون صورة الضحية ملتصقة بها. وحاربت من أجل أن تبقى هذه الصورة واضحة وواصمة في الوقت ذاته الآخرين المخالفين باللاسامية.. وكانت إسرائيل بما تمتلك من وسائل إعلامية وتأثير على وسائل الإعلام دائماً تعمل على إظهار صورة الفلسطيني على أنه "إرهابي" و "قاتل". وانقلبت هذه الصورة فأصبحت صورة إسرائيل الضحية غير مقبولة. وباتت تزاحم صورة القتل الإسرائيلية بإظهار هذا الإجرام الإسرائيلي بوجهه البشع الواقعي.. ولعل الصور الأولى من العدوان الإسرائيلي على غزة (2008- 2009)، وما قبلها وما تلاها من مجازر بشعة بحق الفلسطينيين قد أظهرت ما تمتعت به آلة القتل الإسرائيلية من تلذذ بقتل الأبرياء والعزل من المدنيين... وما الحصار الظالم المفروض على أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة منذ أربع سنوات، إلا دليلا على هذه الحرب لاخضاع الفلسطيني و"كي وعيه"، وجعله يستسلم للشروط الإسرائيلية.. وهذا الحصار لم بفت من عضد الفلسطينيين الذين صمدوا وقاوموا وصمدوا ضد العدوان، واستطاعوا بصبرهم وصمودهم أن يجعلوا العالم كله متضامناً معهم، وإن كان ذلك بمستويات مختلفة... وظهرت إسرائيل بمهاجمتها "أسطول الحرية" بصورة منمطة من صور إرهاب الدولة، وأكثرها انتهاكاً لأبسط معايير حقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنساني ولأبسط قواعد الأعراف الدولية والإنسانية ولشرائع الأديان السماوية وغير السماوية، وقيم المجتمع الإنساني. واستطاعت إسرائيل حتى العام 1967، أن تُبقي صورتها "الإيجابية" لدى الرأي العام الغربي. فقد كان يعيش هؤلاء الشعور بالذنب إزاء المحرقة (الهولوكوست) التي كانت تلقي بظلالها بقوة على أوروبا والولاياتالمتحدة، فقد كانت صورة الإسرائيليين بوصفهم ضحايا لا تزال راسخة. وكانت ثمة قلة وعي للجرائم والآلام التي تعرّض إليها الفلسطينيون في العام 1948، وكان ينظر إلى إسرائيل على أنها الضحية التي دافعت عن نفسها ضد الجيوش العربية التي أرادت «رميها في البحر». جرى تصوير الإسرائيليين الأوائل في أذهان الرأي العام الغربي على أنهم مسالمون وديمقراطيون أقاموا ديمقراطية نادرة في الشرق الأوسط وزرعوا الصحارى وبنوا الجامعات الخ... بيد أن حرب العام 1967 كانت نقطة تحوّل. فقد غيّر انتصار إسرائيل الصاعق صورتها على الصعيد الدولي من الضحية إلى القاهر. وبانتصارها، أصبحت إسرائيل قوة استعمارية محتلة، لا سيما في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع مرور السنين تم استبدال صورة الإسرائيلي المستضعف بصورة الجندي الإسرائيلي على ظهر دبابة يواجه المدنيين والنساء والأطفال في أرض محتلة. وماذا بعد انقلاب الصورة؟! عالج الباحث الفلسطيني أنطوان شلحت، في كتاب بعنوان: "في صورة إسرائيل"، صورة إسرائيل على إثر مستجدات سنة 2000، فبعد سنة 2000 زادت إسرائيل، من جرعة اكتراثها في كل ما يرتبط بمجالي صورتها وإعلامها السياسي. ومع أن من الصعب الجزم بمسألة انعدام الاكتراث الرسمي والإعلامي بتلميع صورة إسرائيل، قبل الانتفاضة الثانية، فإن ما يجدر ملاحظته هو أن هذا الموضوع لم يحتل مرتبة متقدمة في سلم الأولويات الإسرائيلية خلال الأعوام الأولى التي أعقبت قيامها. الفضائيات العربية وفي مقدمتها الجزيرة والعربية، ورغم الإختلاف في أسلوب وتوجيه الفضائيتين، فقد سحبتا البساط من تحت أقدام الإعلام الإسرائيلي، وأصبحت اجتياحات المدن والتنكيل بالفلسطينيين تُنقل بالبث المباشر. ولم يحتج الفلسطينيون إلى سنوات طوال، لنفض الغبار عن روايتهم وتكذيب روايات أخرى سوقت للعالم، كما كان الحال في العام 1948. ونشر مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية "كير" تقريراً يتضمن عدة تقارير صحفية واستطلاعات رأي نشرت من قبل جهات متفرقة في أمريكا، يتحدث بعضها عن اعتراف المسؤولين الإسرائيليين المتزايد بالمشكلة، وسعيهم لإعادة بناء جهود إسرائيل لتحسين صورتها لدى شعوب الدول الأجنبية بما في ذلك الشعب الأمريكي، وذلك بالتعاون مع بعض خبراء العلاقات العامة الأمريكيين المساندين لإسرائيل. فعلى سبيل المثال كشفت وكالة الأنباء اليهودية "JTA" عن انتشار شعور بأن "إسرائيل تخسر معركة التأثير على العقول والقلوب الأمريكية" في دوائر بعض قيادات المنظمات الأمريكية الموالية لإسرائيل، وقالت الوكالة: إسرائيل التي نجحت في الحفاظ على تأييد النخب السياسية الأمريكية لسياساتها باتت تواجه مشكلة في التواصل مع الشعب الأمريكي، اعترف بها المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم، وبات محتماً عليهم التعامل معها بجدية. وأشارت الوكالة إلى استطلاع أجرته منظمة مشروع إسرائيل (The Israel Project) في شهر تشرين ثاني /نوفمبر 2003، إلى ميل الأمريكيين بشكل متزايد لما يسمى لمساواة الأخلاقية بين الاعتداءات الإسرائيلية والفلسطينية.. وعن أسباب تراجع قدرة إسرائيل في التأثير على عقول وقلوب الشعب الأمريكي ترى خبيرة العلاقات العامة "جانيفر لازلو مزراحي" -التي أسست في آذار /مارس 2003 منظمة "مشروع إسرائيل" لمواجهة تراجع صورة إسرائيل في الإعلام الأمريكي- أن ذلك يعود إلى عدة أسباب؛ على رأسها التغطية المكثفة للإعلام الأمريكي للانتفاضة الفلسطينية؛ مما أشعر الأمريكيين بالإرهاق من دائرة العنف التي لا تنتهي، وزاد من رغبتهم في وقوف أمريكا على الحياد، وأن إسرائيل فشلت في تنويع وتجديد رسالتها الإعلامية، وأنها كررت نفسها كثيراً بشكل جعل الإعلام الأمريكي ينظر إليها على أنها الطرف "المعتدي والقامع". وقد اعترف "داني أيلون" -سفير إسرائيل في الولاياتالمتحدة- في تصريح لجريدة "جروزاليم بوست" في الرابع من كانون أول/ ديسمبر 2004 بأن إسرائيل تواجه مشكلة في شرح سياساتها بالجامعات الأمريكية وفي أوساط الأفارقة الأمريكيين حيث تنشط الجماعات المساندة لفلسطين بشكل أكبر، وقال: "إسرائيل سعت لمواجهة المشكلة من خلال الاستعانة باليهود السود في القيام بزيارات توعية لجماعات الأفارقة الأمريكيين، كما نشطت السفارة الإسرائيلية في التواصل مع أعضاء الكونجرس الأفارقة الأمريكيين". وجهاً لوجه صدر عن دار نشر( (Puf كتاب جديد بالفرنسية، للكاتب بيير أندريه تاجييف (فيلسوف وخبير سياسي، ومدير أبحاث في المركز القومي للبحث العلمي بفرنسا)، وهو أحد المتعصبين لإسرائيل، ينتقد فيه دور الدعاية الإعلامية، مفترضاً أنها تشوه صورة إسرائيل منذ قتل "محمد الدرة" وحتى حرب غزة، محللاً أصول الخطاب الدعائي الجديد لأعداء إسرائيل وتطوره من 2000 إلى 2010، في محاولة منه لتفسير كيف انتشرت ما سماها الحملة الإعلامية المناهضة لليهود على مستوى العالم. وأجرت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ثلاث تحقيقات في إخفاقها الإعلامي بترويج رواية الإدعاءات حول مجزرة أسطول الحرية، إذ ترى المؤسسة ومن ثم الرأي العام الإسرائيلي أن الفشل الإسرائيلي لم يكن في سقوط شهداء أتراك بل في عدم تقديم الرواية الإسرائيلية وترويجها بشكل فوري بعد حصول المجزرة، إضافة لفشل العملية العسكرية، ليس لسقوط قتلى، بل بتعريض الجنود الإسرائيليين للخطر وعدم تزويدهم بالأسلحة اللازمة. وتوضح التحقيقات أن صورة إسرائيل في الإعلام العالمي كانت سيئة خلال الساعات الأولى بعد وقوع المجزرة، وأن الساحة الإعلامية "تركت – أهملت" لمنظمي الأسطول ولقناة الجزيرة، مدعية أن ماكينة الدعاية الإسرائيلية تعمل ببطء للتأكد من المعلومات التي ستنشرها لتحظى بثقة الرأي العام، وحفاظاً على سلامة الجنود. ولجهة مخالفة هذه النتيجة التي تُوُصّل لها ولتبيان مدى محاولة إسرائيل التلاعب بالإعلام نورد ما يؤكد تضرر صورة إسرائيل الإعلامية ليس من جراء "أسطول الحرية" فقط إنما من عدوانها على غزة أيضاً. فقد أعدّت صحيفة "هآرتس" العبرية (15/1/2009)، تقريراً شاملاً حول نتائج الحرب على غزة، وعنونت التقرير بأن الحرب سببت للدولة العبرية أضرارًا كبيرة للغاية في الرأي العام العالمي وفي صفوف الدبلوماسيين العاملين في تل أبيب. وذكرت جريدة "القدس العربي" أن "هآرتس" نقلت عن سفير لإحدى الدول الأوروبية، الذي يعتبر من أهم أصدقاء إسرائيل قوله: "إنّ العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة عملية وحشية للغاية، والإسرائيليون لا يفهمون مدى الضرر الذي ألحقته العملية بالدولة العبرية في العالم". وأكد أن الضرر الذي تسبب لإسرائيل لن يكون قصير المدى، بل سيستمر لعدة سنوات، وتساءل: "هل هذه إسرائيل التي تريدونها؟". وأخيراً، صورة إسرائيل اليوم لم تعد هي نفسها الصورة السابقة، بل باتت صورة الجلاد الذي يتلذذ بقتل الأطفال والمدنيين. وهذا يضع أمامنا فرصة وواجباًُ من أجل التوحد والعمل الجاد للإبقاء على هذه الصورة أمام الجميع لئلا ينسى البعض جرائمها ويدعونا للنسيان!!