أعادت عمليتا مومباسا في كينيا الشهر الماضي إلى الأذهان، مسألة استهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج، وخاصة في القارة الأفريقية التي يشهد التغلغل الصهيوني فيها اتساعاً ونفوذاً متزايداً. ومع أن الفاعل الحقيقي لا يزال مجهولاً، رغم البيان المنسوب إلى تنظيم القاعدة بادعاء المسؤولية عن العمليتين، إلا أن قادة "إسرائيل" سارعوا إلى اتهام الفلسطينيين والعرب عامة بالوقوف وراء العمليتين واستهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج، بل والتأثير على الانتخابات الحزبية التي تزامنت معهما، وكذلك الانتخابات العامة المقررة أواخر يناير المقبل. ومهما يكن فإن ما حدث يفتح مجدداً ملف العلاقات الإسرائيلية الإفريقية، واحتمالات توسيع المعركة مع "إسرائيل" إلى خارج الأراضي الفلسطينية. وجود متعدد الأوجه من المعروف أن الكيان الصهيوني وخاصة الجهاز الاستخباري استطاع أن يتغلغل في بعض الدول الأفريقية، علماً أن الكثير من شعوب هذه الدول كانت تقف بجانب القضايا العربية لسببين، الأول إحساس الشعوب الأفريقية عبر التاريخ مما جعل قضاياها تشبه الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين، والثاني أن نسبة كبيرة من الأفارقة تدين بالولاء إلى الرابط الديني الإسلامي المشترك مع معظم الشعوب العربية، وهذان الأمران كانا من أهم نقاط الالتقاء بين الأفارقة والشعوب الباحثة عن الحرية، إضافة إلى أن العرب دعموا الكثير من قضايا التحرر الوطني في أفريقيا. ومع هذا فإن الكثير من الحكومات الأفريقية ساعدت الكيان الصهيوني على التدخل حتى في شؤونها الخاصة، وإذا كانت"إسرائيل" لم تلق المساعدة في تدخلاتها، فإنها تلجأ إلى العمل السري داخل بعض البلدان الأفريقية. لعل تاريخ هذه التدخلات يعود بشكل واضح إلى عام 1903 حينما اقترحت بريطانيا على زعيم الصهيونية "تيودور هرتزل" توطين اليهود في جزء من الأراضي الأوغندية التي تقع اليوم تحت السيادة الكينية، علماً أن أعداد اليهود هناك قليلة نسبياً فلم تكن تتجاوز العشرين عائلة في نيروبي عام 1913، وارتفع عددها إلى الخمسين عائلة بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن "إسرائيل" استطاعت أن تقيم علاقات دبلوماسية مع كينيا عام 1996 بعد استقلال الأخيرة بثلاث سنوات، وهذه العلاقات أتت عن طريقين، الأول بمساعدة الولاياتالمتحدة، والثاني بدعم الكيان الصهيوني لبعض الحكومات الأفريقية ومساعدة بعض القوى الانفصالية في الكثير من الدول. الواقع أن الكيان الصهيوني يرتبط بعلاقات متميزة مع الحكومة الكينية، ونتيجة لهذه العلاقات فقد قدمت كينيا مساعدات لوجستية لإسرائيل في عملية "عنتيبي" في العاصمة الأوغندية حينما حاولت القوات الخاصة الإسرائيلية الإفراج عن الرهائن في الطائرة التي اختطفها فلسطينيون عام 1976، وكانت هذه المساعدات على قدر كبير من الأهمية حيث قدمت السلطات الكينية مركز الانطلاق والمعلومات، وحتى المساعدة في قواتها، وبقيت كينيا على علاقات مع "إسرائيل" حينما قطعت 30دولة أفريقية علاقاتها بتل أبيب تضامنا مع مصر والقضية الفلسطينية في حرب أكتوبر. وتوجت "إسرائيل" مشروعها التجسسي في أفريقيا بوضع القمر "عاموس 1" فوق مدار القمر العربي "عربسات 2" في أجواء كينيا، مما يساعد تل أبيب في التجسس على الاتصالات العربية من جهة والأفريقية من جهة أخرى، ولم تقتصر العلاقات الإسرائيلية على كينيا، بل تدخل الموساد في الكثير من الدول الإفريقية، إما بطريقة مباشرة وبمعرفة حكومات الدول، أو بطريقة سرية إن لم توافق تلك الدول. ففي عام 1971 قبض على المرتزق الألماني (رودلف شتايزر)، الذي اعترف أن "إسرائيل" كانت تدرب بعض المتمردين الأفارقة وتمدهم بالأسلحة، وأن بعض الكليات العسكرية الصهيونية كانت تدرب سراً الكثير من الضباط لقيادة بعض الفصائل المتمردة ومن هذه المدارس مدرسة "وينجي كابول"، وفي أوغندا كان هناك أحد كبار الضباط من جهاز الموساد للإشراف على التدخل الصهيوني في أفريقيا، ومع كل هذا لم تكتف بهذه الأشكال من التدخلات، بل إن "إسرائيل" عملت على بث الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، وكثيراً ما أشعلت الحروب الطائفية، ومن هذه التدخلات ما لعبته تل أبيب من بث الفتنة في نيجيريا، ودعم القوات الانفصالية التي تدعو إلى انفصال إقليم "بيافرا"، ووصلت الوقاحة لأن يقوم وزير الخارجية الصهيوني السابق (أبا ايبان) بزيارة الإقليم الانفصالي النيجيري علناً. تدخلات سافرة إن الكثير من الشعوب الأفريقية غير راضية عن التدخلات الإسرائيلية وحتى الأميركية، خاصة أن بعض الدول تضم نسبة مرتفعة من المسلمين في تعداد سكانها، وكلنا يتذكر المظاهرات الضخمة التي حصلت في نيجيريا ضد ما تقوم به القوات الصهيونية تجاه الفلسطينيين، أما في كينيا فان التدخلات الإسرائيلية تشكل عبئاً ثقيلاً على المسلمين الذين تبلغ نسبتهم هناك حوالي الربع من تعداد السكان البالغ 30 مليون. والذكريات السيئة عن هذه التدخلات تعود بشكل خاص إلى التحقيقات بدخول بيوت المسلمين وتفتيشها بشكل عشوائي مع الاعتقالات الكثيرة التي حصلت من قبل عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي المتواجدين في كينيا، والذين اشتبهوا بالكثير من المسلمين هناك، الذين يخشون في المرحلة الحالية من تدخل جديد للموساد ومكتب التحقيق الفيدرالي الأميركي، مما يبشر باعتقالات كبيرة تطال المسلمين، خاصة أن التنظيمات الإسلامية مازالت المتهم الأول. كما أن التنظيمات التي تستهدف مصالح الولاياتالمتحدة و"إسرائيل" في أفريقيا كثيرة جداً، فإضافة إلى الحادثتين الأخيرتين وحادثتي تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا، فإن التحذيرات التي تتلقاها المصالح الأميركية والإسرائيلية لا تزال قائمة، بل إنها موجودة أصلاً وتزايدت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومنها ما حصل في أكتوبر عام 2001 عندما أخلي مبنى السفارة الإسرائيلية في لاغوس العاصمة التجارية لنيجيريا إثر احتمال تعرض السفارة إلى هجوم. وما حصل مؤخراً في فندق "بارادايس" وإطلاق صاروخين على طائرة تابعة لشركة "أركيا" الإسرائيلية يؤكد حقيقة هذه التهديدات، وهذه الصورة تعطي انطباعين واضحين، الأول: أن أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية المتواجدة بشكل كبير في إفريقيا لم تستطع حماية مصالحها في قارة متوترة بشكل كبير، وتعاني من المجاعة والفقر في القطاع الأوسع من بلادها وسكانها، مع ضعف التنمية الواضح الذي يؤثر على علاقات الدول الإفريقية، خاصة مع الغرب الذي مازال المتهم الأول بنهب الخيرات الإفريقية وحتى انتشار مرض الإيدز. أما الانطباع الثاني فهو أن استهداف المصالح الأميركية والإسرائيلية غالباً ما يتم على أيدي أفارقة، مع الاحتمال الكبير أن يكون التمويل أجنبياً، بمعنى أن الشعوب الأفريقية التي تعاني من الاستعمار الحديث المتمثل في العولمة الأميركية التي مازالت مع الغرب عموماً تشكل العدو الأول بالنسبة للشعب الأفريقي، وهذا العدو بطبيعة الحال ليس عدواً وهمياً، بل إن الحقائق الاقتصادية تشير إلى النهب المتواصل للثروات الإفريقية الذي تقوم به الولاياتالمتحدة والدول الغربية وحتى "إسرائيل". مرحلة جديدة لكن، هل من مصلحة الفلسطينيين العودة إلى العمليات خارج حدود فلسطين في هذه المرحلة؟ وما هي الأبعاد الجديدة التي يمكن أن تفرضها عمليتا مومباسا؟ تاريخياً لم تكن العمليات التي كان يمارسها الفلسطينيون ضد الأهداف "الإسرائيلية" تأخذ تلك المناقشات الحادة التي تديرها وسائل الإعلام العالمية، خاصة في الوقت الحالي من توصيف هذه العمليات من ناحية الإرهاب أو النضال المشروع، فاليوم تشكل العمليات الاستشهادية أو الهجمات الفدائية موضوع جدل كبير مع حملة الولاياتالمتحدة في مكافحة الإرهاب، لذلك فإن العملية المزدوجة بتفجير الفندق وإطلاق الصاروخين على الطائرة الإسرائيلية شكلت محوراً جديداً للجدل السياسي حول الصراع العربي الصهيوني، ومع اعتبار أن قيادات التنظيمات الفلسطينية اتخذت قراراً بأن تكون عملياتها موجهة ضد الإسرائيليين، وتحديداً في فلسطينالمحتلة كاملة، فإن بعض هذه التنظيمات قد اتخذت قراراً جزئياً بأن العمليات يجب أن تتركز داخل الأراضي المحتلة عام 1967، وهذه المؤشرات كلها تدل على أن استهداف المصالح الإسرائيلية خارج الكيان الصهيوني ليس وارداً في حسابات التنظيمات الفلسطينية إلى الآن. أما رؤية الكيان الصهيوني بعد عمليتي مومباسا، فقد بدت من خلال تلويح شارون بأن الفلسطينيين متورطون بما يحصل للأهداف الإسرائيلية خارج الكيان الصهيوني، وهذا ما يفسر حديث الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية (رعنان غيسين) حين قال: الحرب الإرهابية التي أطلقها الفلسطينيون علينا لا تترك لنا سوى القضاء عليهم قبل أن يقضوا علينا، وهذا التصريح كان مباشرة بعد العمليتين في كينيا، وهو اتهام مباشر للفلسطينيين، بل إن شارون ذاته الذي وجد الفرصة مناسبة لكي يزج بنفسه في محاربة تنظيم "القاعدة" بعد اتهامه بالعملية، لم ينس بدوره أن يتهم العرب جميعهم حين قال: "لقد حدد الإرهاب العربي هدفاً جيداً هو التأثير على حملتنا الانتخابية التمهيدية لحزب الليكود". ويبدو أن اتهامات شارون جاءت لتطرح رؤيته بطريقة مباشرة وتورط العرب في عمليتي كينيا، وهذا الأمر بالنسبة إلى الحسابات الإسرائيلية يؤدي إلى غرضين: الأول تأكيد الحملة التي تشنها الولاياتالمتحدة على العرب والمسلمين وتدعمها "إسرائيل"، والثاني محاولة تبرير المجازر الصهيونية اليومية التي قام بها الإرهابي شارون أو سيقوم بها لاحقاً. وإذا كانت المعادلة تقوم على مستوى العين بالعين والسن بالسن، فإن المفارقة تبدو واضحة فيما يتعلق باستهداف كل طرف للآخر، فمن المعروف أن الأيدي الصهيونية ملوثة بدماء الشهداء الفلسطينيين خارج دائرة الصراع، وقائمة أسماء الشهداء الذين اغتالهم الموساد كبيرة جداً، من يوسف النجار إلى كمال عدوان إلى غسان كنفاني، وبعدهم خليل الوزير أبو جهاد وصلاح خلف أبو إياد، وحتى الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي ومؤسسها فتحي الشقاقي، ومحاولة اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس والقائمة تطول وتطول خاصة بالنسبة إلى الاغتيالات التي حصلت خارج فلسطين. تساؤلات ومحاذير إن هذه الاغتيالات وغيرها الكثير من سلسلة الإرهاب الصهيوني لم تكن تلقى اعتراضاً عالمياً كبيراً، في حين إن أي عملية نضالية فلسطينية سيثار حولها الكثير من الجدل والكثير من الاعتراضات العالمية، بل إن ممارسة أي مجزرة صهيونية أصبحت واقعاً، حتى وإن كان العمل الفدائي عملاً نضالياً، فإن الموضوع سيتحول إلى أبرياء وأشقياء. وعلى هذه الصورة فإن معادلة انتقال العمل الفدائي خارج حدود فلسطين ليس وارداً بالنسبة إلى أي تنظيم فلسطيني في هذه المرحلة بالذات لأنه سيفتح على الفلسطينيين باباً جديداً من الصعب اغلاقه، بالمقابل فإن استهداف المصالح الإسرائيلية من غير الفلسطينيين سيجعل حكومة شارون تقع في مأزق مزدوج، الأول مأزق داخلي يتمثل في العمليات الفلسطينية داخل الكيان الصهيوني وحركة الانتفاضة، والثاني مأزق جديد، أو لنقل أعيد إحياؤه خارج الكيان، مما سيعجل بانهيار حكومة شارون سريعاً، خاصة أن الجهة المنفذة مازالت واقعياً مجهولة، رغم الاتهام المباشر لأسامة بن لادن وجماعته، بل ورغم اعتراف الجماعة بذلك في بياناتها. ومهما تكن الجهة المنفذة فإن تل أبيب ستجد فرصة جديدة لاتهام العرب بأنهم وراء تلك العملية، وبشكل خاص الفلسطينيين، وقد تتهم بشكل خاص تلك التنظيمات ذات الاتجاه الإسلامي كحركتي "حماس" و"الجهاد". ومع كل هذا فليس من المستبعد أن يكون للكيان الصهيوني يد طويلة في كل هذه الأعمال، وليس هذا من منطلق اتهام العدو بل إن الأيام ستكشف كما كشفت سابقاً. بقلم: محمد أحمد يوسف كاتب فلسطيني مقيم بدمشق عن صحيفة البيان الإماراتية 14 دجنبر 2002