• الحفاظ على النظام يستلزم الكثير من الجنود . • والحفاظ على الجنود يستلزم الكثير من المال . • والمال يأتى من الشعب الذى يجب أن يكون غنياً . • ولكى يصبح الشعب غنياً لابد من قوانين عادلة . • وإذا تعطل أى منهم الأربعة ( الجنود – المال – الشعب الغنى – العدالة ) تعطلت الدولة . هذه مقولة لشاعر تركى فى القرن الثالث عشر ، أعتقد أنها تنطبق على حالتنا الراهنة ، وربما تنذر بما يمكن أن تؤول إليه فى القريب العاجل ، لأن المال الذى يجب أن يأتى من الشعب قد اشترط الشاعر أن يكون شعباً غنياً ، والشعب فى حالتنا شديد الفقر فى غالبيته والقادرين فيه لن يقدموا أموالهم للنظام الذى كان سبباً مباشراً فى تراكم الأموال لديهم ، والحكومة لا ولن تجد غير الفقراء لتحصل منهم على المال الذى يحتاجه الجنود اللازمين لحفظ النظام .. والقوانين غير العادلة والتمييز وعدم المساواة لن يسمحوا بأن يكون الفقراء أغنياء ، لأنها لا تسمح فقط إلا بأن يكون الأغنياء أكثر غنى .. لذلك لا يوجد حل وفقاً لمنظور الشاعر التركى الذى لو كان موجوداً بيننا اليوم لغير مقولته إلى : • الحفاظ على النظام يستلزم الديمقراطية . • والديمقراطية تضمن حقوق الإنسان ، ومعايير العمل العادل ، والمساواة ، والعدالة . • وكلهم عوامل تدفع الجمع إلى زيادة الإنتاجية والإبداع والتفوق والتميز . • ليكون الجميع أغنياء فى دولة أكثر غنى . والسؤال هنا هل يمكن أن تقتنع الدولة بأن حماية النظام لن تكون بكثرة الجنود ؟ وحتى ولو كانت بكثرتهم ، فإن الشعب الفقير لن تجد الحكومة معه المال الذى يحتاج إليه الجنود .. ففى القريب العاجل سيصل الغالبية من الناس إلى مستوى الحديدة التى اقترب منها العديد من شرائح الطبقة الوسطى التى كانت كل شرائحها العليا والوسطى والدنيا بعيدة عنها تماماً ، والآن قد وصلت إليها الشرائح الدنيا منها ، وربما بدأت تقترب منها بعض فئات الشرائح الوسطى ، والحديدة لا تباع وحتى لو بيعت فإن ثمنها لا يكفى ما يحتاجه الجنود لحماية النظام ، فلا حماية للنظام إلا بالديمقراطية . والنظام يقول الديمقراطية لا تنتج خبزاً ، ولا تبنى مسكناً ، ولا تقدم ملبساً ، فهى لن تسد رمق الجائع ، ولن تستر العار ، ولن تحمى فاقد السكن ، الذى يقدم كل هؤلاء هو العمل وزيادة الإنتاجية ، لذلك ليست الديمقراطية هى الحل ، ولكن الإنتاجية هى الحل .. وأن الشعوب الغنية لم تحمى نظامها بالديمقراطية ، وإنما كانت حمايته بالعمل وزيادة الإنتاجية ، ولم تحتاج فيها الحكومة إلى الكثير من الجنود الذين يحتاجون الكثير من المال لحماية النظام ، ولكن وجهت فيها الأموال التى يحتاجها الجنود لحماية النظام إلى تدعيم التنمية وزيادة الإنتاجية . وعلى الرغم من أن هذه المقولات قد تبدوا ربما مقبولة شكلاً إلا أنها غير مقبولة موضوعاً ، ومن وجهة نظرى فإنها لا مقبولة شكلاً ولا موضوعاً ، فهى باطل يراد به باطل، لأن الإنتاجية تتوقف على الأداء ، والأداء يتوقف على القدرة ، والرغبة ، والإرادة . والقدرة تتوقف على الصلاحية ، والصلاحية تتوقف على القدرات العقلية والجسمية، والقدرات العقلية تتوقف على التعليم ، والقدرات الجسمية تتوقف على الصحة الذين معا (التعليم والصحة) يمثلان أساس بناء القدرة لدى الفرد ، هما فى الغالب مسئولية الدولة التى يجب أن يتوفر لديها المال ، والذى لن يتوفر بالقدر الكافى لبناء قدرات الأفراد عند الحد المناسب لأداء فعال يؤدى إلى إنتاجية عالية ومتزايدة ، إلا إذا كان الشعب غنياً ، ولو كان الشعب غنياً سيشارك الدولة ويدعمها فى بناء قدرات أبناءه بالتعليم والصحة عند أعلى مستوياتهم .. وبالتالى كانت العودة إلى الشعب الغنى الذى لن يكون غنياً إلا بالقوانين العادلة التى تتيح تكافؤ الفرص والمساواة وعدم التمييز والاحتكام المطلق لمعيار الكفاءة ، وكلها أمور لا تتحقق إلا بالديمقراطية ، أو تكون الديمقراطية هى أكثر السبل إليها .. هذا من زاوية القدرة أول وأهم العناصر التى يتوقف عليها الأداء الذى هو أساس الإنتاجية . أما عن العنصر الثانى وهو الرغبة والتى تعنى بالإقدام على العمل والأداء أو الفعل نتيجة التصور المسبق للمنفعة والإشباع الذى سيحصل عليه الفرد نتيجة هذا الأداء أو الفعل ، فغالباً ما يتوقف هذا التصور الذى يحدد الرغبة على مجموعة من العوامل من أهمها : العدالة بين الجهد الذى سيتم بذله ، والعائد المتوقع من العمل . وكلما تعمقت الديمقراطية كان شيوع العدالة ليس فقط من خلال القوانين ولكن كنمط معتاد فى السلوك والتفكير . امتلاك القدرات الحقيقة على إنجاز العمل ( الأداء ) المطلوب . فالقدرة أحد محفزات الرغبة ، وهى كما سبق تتوقف على البناء الصحيح للقدرات العقلية والجسمية التى تحتاج إلى المال الذى لابد وأن يأتى من شعب غنى . الرضا الإيجابى ، والذى يقابله الرضا السلبى ، الذى يحبط القدرة ، والرضا السلبى هو القبول عن عجز وإذعان مصحوباً بعدم الرغبة فى المشاركة ، والإحساس بالتهميش والعزلة ، وهو عكس الرضا الإيجابى الذى يعنى بالقبول عن اقتناع مصحوباً بالرغبة الصادقة فى المشاركة ، والإحساس والشعور بالانتماء . وبالتالى فإن وقوع الفرد فى دائرة الرضا السلبى نتيجة إحساس وشعور عام بالإحباط سواء لأسباب داخلية فى مكان العمل أو فى المجتمع ككل ، أو إحساسه بافتقاد الطموح أو اليأس نتيجة عدم المساواة وعدم الاحتكام لمعيار الكفاءة ، أو شيوع الفساد ، وهروب الفاسدين من الحساب العادل ، كلها أمور تفقد الإنسان ليس فقط الرغبة فى الأداء، ولكن ربما الرغبة فى الحياة ذاتها . لذلك من الواضح أن العوامل الثلاث السابقة التى تتوقف عليها الرغبة ، تتوقف هى أيضاً على مدى توفر الديمقراطية ، من حيث ضمان الديمقراطية لحقوق الإنسان ، ومعايير العمل العادل ، والاحتكام لمعيار الكفاءة ، فافتقاد الديمقراطية يؤدى إلى انحسار الرغبة نتيجة انتشار الفساد ، وشيوع حالة الرضا السلبى وحالة العجز المكتسب . وهنا قد يثار من قبل العديد من كتبة ومفكرى السلطة ، وهل انخفض الأداء فى الدول الذى كنا نسبقها منذ ثلاثة عقود وأصبحت تسبقنا بأكثر من عشرة عقود ، رغم أن الكثير منها لا يطبق قواعد الديمقراطية على الأقل مثل الصين أبرز النماذج على تسارع التنمية والتحول من شعب فقير إلى شعب غنى وحكومة أغنى . والرد هو أن الصين تطبق بكل وضوح الاحتكام المطلق لمعيار الكفاءة كأساس للمساواة والعدل ، والأهم قيام الدولة بدور فاعل وحقيقى فى بناء القدرات العقلية والجسمية عند المستوى الذى يحقق أعلى إنتاجية والأكثر أهمية أن الانضباط لا استثناء فيه ، والفساد ليس عند الحدود التى لا تؤدى إلى شيوع الإحباط والرضا السلبى والعجز المكتسب ، حيث لا أحد فوق القانون ، وكلها خطوات حادة فى الطريق نحو الديمقراطية . أما عن العنصر الثالث فى الأداء وهو الإرادة التى تدعم القدرة والرغبة وتحفزهما، والتى تتمثل فى الإصرار الذى يولد الجدية التى تدفع بالأداء نحو السرعة والدقة ، فإنها (الإرادة) لا تتولد إلا من الطموح الذى يتمثل فى مشروع حياتى يكون فيه الأداء المطلوب خطوة فى تنفيذه ، والطموح المشروع والحقيقى والفاعل لا يتولد ولا يكون كنمط حياتى ، وأساسى فى التفكير إلا فى مناخ ومجتمع يمتنع فيه وجود الرضا السلبى ، والعجز المكتسب الذى هو الشعور المسبق بعدم القدرة على التحكم فى نتائج العمل أو الأداء نتيجة فساد البيئة ، ولا يكون فيه معيار التقدم للأفراد إلا الاحتكام للكفاءة فى ظل قوانين عادلة لا تسمح إلا بأن يصنع الفرد مكانته بذاته ، وبجهده وكفاحه ، وأن يحقق تفوقه استناداً إلى قواعد عادلة لا تسمح بالاختراق أو الاستثناء ، وأن يرى مشروعه الحياتى حقيقة واقعة أمامه بجهده وبمشاركة الآخرين معه دون أن يسلب حقوقهم ... وكل ذلك وأكثر لا سبيل إليه إلا بالديمقراطية . فالديمقراطية ضرورة اقتصادية قبل أن تكون ضرورة سياسية ، لأنها السبيل الأنسب لإيجاد الرغبة وتدعيم الإرادة لدى الأفراد للاتفاق الجاد على إقامة مجتمع ينعدم فيه الرضا السلبى ، والعجز المكتسب ، ويسوده العدل والمساواة ، ويتحول فيه المواطن من المستفيد السلبى إلى المواطن المشارك الإيجابى وكلها عوامل أساسية فى تشكيل البيئة الدافعة للإنتاجية ... فلا ثروة لشعب لا بديل أمامه إلا الرضا السلبى (القبول عن عجز). ولأن حماية النظام تحتاج إلى الكثير من الجنود ، والجنود الكثيرة تحتاج المال ، والمال يأتى من الشعب الغنى ، والشعب الغنى لا ولن يصبح غنياً إلا عن طريق الديمقراطية التى يمتنع فيها القبول عن عجز ، وينخفض فيها الشعور العام بالإحباط واليأس وعدم المساواة ، ويشيع فيها العدل والمساواة والاحتكام لمعيار الكفاءة .. حيث يتولد الطموح المشروع وتتأكد الرغبة الصادقة ، وتكون الإرادة الأكيدة نحو أداء يتخطى حدود الإنتاجية ليصل إلى التفوق والتميز والإبداع ، وبدون ذلك لا يكون لدى الشعب إلا الحديدة ليقدمها للدولة ، والحديدة لا يمكن أن تحمى النظام وإنما تحميه الديمقراطية . أم لكم رأى آخر ؟