الإصلاح بيت كبير له عشرات الأبواب. ومن أي باب دخلنا يمكن أن نصل إلى قلب هذه الدار. في جنوب إفريقيا، كان المدخل نحو الانتقال الديمقراطي هو تصفية تركة الميز العنصري والمرور إلى نظام ديمقراطي يشتغل على أسس التساوي في المعارضة، أيا كان لون المواطن وعرقه. اليوم، جنوب إفريقيا بلاد تحظى بمكانة دولية مرموقة، وديمقراطيتها عملة قوية لا يشك أحد في صدقيتها، رغم مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية العديدة. في إسبانيا، عبر جيراننا امتحان الانتقال الديمقراطي بفضل نظام جهوي متطور، وتوافق واسع حول العرش وحول تصفية تركة الدكتاتور فرانكو بالتي هي أحسن. سئل مرة فيليب غونزاليس عن سر نجاح الانتقال الديمقراطي في إسبانيا فقال: "إنه سحر الجهوية".. لقد ذابت النزاعات والتجاذبات حول اللغة والعلم وحدود الأقاليم والنزعات القومية في نظام جهوي ديمقراطي سمح للجميع بالتعبير عن ذاته دون مس الوحدة الترابية. ورغم أن الباسك، أو أقلية وسطها، مازالت تطالب بما تعرف أنه مستحيل، فإن التجربة نجحت، وانتقلت إسبانيا إلى عضوية الاتحاد الأوربي. في تركيا، كانت التجربة مختلفة. كان مفتاح الانتقال إلى الديمقراطية يمر عبر عودة الجيش إلى الثكنات، والسماح لصندوق الاقتراع بالتعبير عن نفسه بكل حرية، حتى وإن ركب على ظهره "الإسلاميون" المعارضون للتوجه العلماني المتطرف للنخب ذات التوجهات الغربية التي حكمت تركيا لعقود من الزمن... إلى الآن، نجحت التجربة بمساعدة الأوربيين الذين ضعوا شروطا تعجيزية أمام الأتراك. ومع أن أنقرة لم تربح بعد رهان العضوية في الاتحاد، إلا أنها ربحت ديمقراطية واعدة... المغرب اليوم يحاول أن يجرب رهان "الجهوية" كجيل جديد من الإصلاحات العميقة والهيكلية على بنيان الدولة.. وهذا رهان هام وتاريخي، لكن لابد من الانتباه إلى أن المغرب "فشل" نسبيا في ولوج تجربة الانتقال الديمقراطي مرتين. الأولى عندما اختار مدخل التناوب التوافقي على جزء من الحكم، في محاولة لإعادة المعارضة، التي كانت مقصية، إلى الحكم، والشروع في إعادة البناء المؤسساتي على قاعدة هذا التوافق بين الأحزاب والملكية. هذا المشروع توقف بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، واختيار ابنه لطريق آخر. والمدخل الثاني نحو الانتقال الديمقراطي كان هو تجربة "هيئة الإنصاف والمصالحة" التي قامت بعمل هام، وكان من شأن تطبيق توصياتها والبناء فوق أساساتها أن يُسمح للبلاد بالدخول إلى عصر ديمقراطي جد متقدم في إفريقيا والعالم العربي... الآن نحن نجرب مدخلا آخر للإصلاح هو "الجهوية المتقدمة"، وهذه الجهوية لا تعني فقط تغيير الهيكل الإداري للدولة، بل إنها تعني، في ما تعنيه، قتل الدولة المركزية وإعادة توزيع السلطة والثروة والجاه ونظام فرز النخب على أسس جديدة قائمة على توسيع قاعدة المشاركة، وتفويض الشأن المحلي إلى قانون القرب، وإعادة إنتاج القرارات من القاعدة وليس من القمة، كما كان عليه الأمر في السابق. إن "الجهوية الحقيقية" تبنى على التعددية والمشاركة، وعلى تفويض صلاحيات المركز إلى الأطراف، وعلى إعادة الاعتبار إلى التنمية المحلية... وكل هذا لا يمكن أن يتعايش مع منطق "المخزن" الذي كان يخزن الحبوب، أي الثروة ومصدر العيش، في مخازنه، ويعيد توزيعها بمعرفته وحسب مصالحه ووفق نظام تراتبيته المبني على الخضوع والطاعة والولاء، وكل خارج على هذه التراتبية يصنف في خانة مناطق السيبة التي تُحرم من "العطايا" وتخضع لنظام صارم في العقاب. لقد اختار الملك محمد السادس خيارا صعبا، سنحتاج إلى الوقت وإلى تتبع أطوار تنفيذه للحكم عليه، لكنه خيار يرتب تكاليف سياسية هامة على القصر، وسيصبح معيار نجاح الجهوية من عدمه مؤشرا تقاس به شرعية الإنجازات... المتمعن في الخطاب الملكي، وحديثه عن نموذج خاص "للجهوية المغربية"، وتأكيده على قدم بيت الحكم، أي نظام الملك في المغرب، يلمس هواجس كثيرة مازالت معلقة عند الباب، وتخوفات من "انزلاقات محتملة".. وهذا أمر طبيعي. لا توجد في السياسة خيارات هامش الخطر فيها صفر.. لا توجد. كل خيار، كيفما كان، ديمقراطيا أو استبداديا، يحمل في قلبه مخاطر على نظام الحكم. يبقى فقط أن هناك خيارات للمستقبل، والديمقراطية واحدة منها، وهناك خيارات ماضوية لا مستقبل لها، والدكتاتورية واحدة من هذه الخيارات... عمر عزيمان حمل مسؤولية تاريخية فوق ظهره، وعلى النخب السياسية، من كل الاتجاهات، أن تضع شيئا من البنزين في سيارة عزيمان، وأن تتحمل تكاليف رحلة طويلة وشاقة، لكنها في الاتجاه الصحيح، سواء بالنسبة إلى مستقبل الديمقراطية والتنمية في بلادنا، أو مستقبل الوحدة الترابية واحتواء النزاع حول الصحراء. كثيرا ما كان التدبير العقلاني للأزمات والمخاطر هو الطريق الصحيح نحو الخروج من النفق... مشروع مارشال وضعته أمريكا للتصدي للزحف الشيوعي على أوربا الجريحة عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، فماذا كانت نتيجته.. ميلاد أوربا غنية، موحدة، ديمقراطية، ونموذج للاستقرار للعالم أجمع...