كما كان منتظرا، جاء الخطاب الملكي بمناسبة مرور أربعين سنة على المسيرة الخضراء، محملا بمجموعة من الرسائل القوية التي يجب الوقوف عندها بتأمل وروية. من الواضح أن تنقل جلالة الملك محمد السادس إلى مدينة العيون، ومخاطبته للشعب مباشرة من الصحراء، بل المكوث بها لعدة أيام، يعتبر تحول تاريخي في سلوك التعاطي مع هذه القضية، فهو يشير إلى ثقة المغرب في نفسه وقدراته، حيث يبادر إلى تنظيم استقبال ملكي تنخرط فيه جل مكونات الأقاليم الصحراوية صغيرا وكبيرا، ويُظهر مستوى البنيات التحتية التي صارت تتوفر عليها مدينة العيون حاليا، والتي تبرز المجهود المبذول من طرف المغرب لتنمية تلك الأقاليم.
في السياق ذاته، فمكوث جلالة الملك بمدينة العيون يحمل أكثر من دلالة، فهي رسالة تشير إلى درجة الأمن الذي يسود المناطق الصحراوية، حيث كان تجاوب الساكنة إيجابيا بشكل أظهر درجة التلاحم بين الملك والشعب، وكذبت مزاعم الأقلية من المعارضين الصحراويين، كما أكدت على أن العاهل المغربي يهتم بدوره بالمناطق الصحراوية، وأن مكوثه وإقامته لم تعد تقتصر على مناطق وسط وشمال المغرب فحسب، بل حتى للمناطق الجنوبية حقها.
تحدث الخطاب الملكي لأول مرة عن مفهوم القطيعة مع الأساليب المعتمدة في التعامل مع شؤون الصحراء، وأشار بصريح العبارة إلى القطيعة مع اقتصاد الريع والامتيازات، التي طَبَعت مرحلة من مراحل هذه القضية ومازالت، حيث كانت تُمنح امتيازات في المناصب والوظائف ورخص استغلال وسائل النقل والثروات الطبيعية للأعيان والشخصيات القبلية المؤثرة من جهة، وكذا للصحراويين العاديين الحاملين لبطائق وطنية تثبت أصولهم الصحراوية من جهة ثانية.
إنها قطيعة لن تبدو سهلة، خصوصا أن مجموعة من الفئات الصحراوية اعتادت على الامتيازات الريعية وتعتبرها في حكم المكتسبات، فضلا على أن نهج سياسة الريع، كان من الوسائل المفضلة لدى السلطات لاستمالة واحتواء المعارضين.
من جهة أخرى، يتبين أن هناك تحول في استراتيجية التعاطي مع ملف الوحدة الترابية، من خلال تركيز الجهود على الرفع من إيقاع التنمية الاقتصادية في المناطق الجنوبية المغربية من خلال تدعيم البنى التحتية، وزيادة الاهتمام بقطاعات التعليم والصحة والفلاحة والنقل.
لكن ذلك، لن يكون بدون تكلفة اقتصادية ومالية كبيرة، وهو مسار متواصل لسنوات من التضحيات، كما جاء في الخطاب الملكي، التي يقدمها المواطن المغربي، وتُسْتَخْلَص من جيبه لعقود طويلة كوسيلة للتضامن مع تلك المناطق، وهو أمر يجب الانتباه إلى أن ديمومته المستمرة تجعل مواطن اليوم، الذي ليس هو مواطن فترة السبعينيات، يَستفسر بحس براغماتي عملي عن جدوى التضامن لتنمية مدن قد تبدو بنيتها التحتية أفضل حالا من مدينته أو قريته النائية، من هنا تطرح مسألة التوازن في حق الاستفادة من التنمية والمواطنة.
من المعلوم أن قضية استفادة المغاربة من ثروات بلدهم مسألة جد حساسة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصحراء المغربية المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو في ردهات منظمة الأممالمتحدة، مخافة أن يكون استغلال ما قد يُحتمل توفره في باطن الصحراء من ثروات محل خلاف، قد يثير القلاقل ويوسع أطماع خارجية أخرى.
لكن ذلك، لا يمنع من ثقة المغرب في نفسه وشركائه الدوليين لمباشرة استغلال ثرواته على أرضه وفي صحرائه، خصوصا أن التوجه الجديد لتنمية أقاليم الصحراء يحتاج لأغلفة مالية مهمة، كما أن المواطن المغربي يجب مخاطبته بلغة جديدة وواقعية، تكون محفزة على مساهمته في تنمية بلده، بطريقة يرى فيها تبادل للمنفعة والتضامن في ثروات المغرب من شماله إلى جنوبه وليس التضامن من وإلى جهة واحدة.