لقد عرف مغرب العهد الجديد الكثير من الحركات الاحتجاجية ذات المطالب الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية، غير أن أحداث العيون أو بداية الاحتجاج بالطريقة التي تم بها نصب مخيم إكديم إزيك طرحت عدد كبير من الأسئلة حول مطالب الحركة الاحتجاجية، أهدافها، طريقة تنظيمها، مكوناتها، بنيتها... كما وضعت علامات استفهام حول دور الدولة المغربية في تكريس دولة القانون والقضاء على الأسلوب المخزني في التعاطي مع مثل هذه الظواهر الاجتماعية، والمجسدة أساسا في تقديم الامتيازات والتشجيع على الاستفادة من اقتصاد الريع، سياسة ذات وجهين مبنية على ملء البطون أو العصا والقمع، فمما لا شك فيه أن مطلب الحركة الاحتجاجية لم يكن اجماعي اقتصادي محض كما روجت له وسائل الإعلام المغربية وحسب التصريحات الرسمية، وإلا لكانت وجهة الحركة مركز المدينة والتظاهر أمام المؤسسات التي ترمز للسلطة والإدارة حيث يتم التفاوض على أرضية الملف المطلبي لهذه الحركة، وهو ما تقر به كل النظريات السوسيولوجية وما نتابعه يوميا من احتجاج أمام البرلمان والمجالس المنتخبة وأمام العمالات والوزارات، إذ بمجرد ما يتم حل المشاكل أو تحقيق مطالب الحركة يتوقف الاحتجاج باعتبار أن الحركة حققت أهدافها أو جزء منها، صحيح أن التعبئة للحركة والدعوة للاحتجاج كانت بهدف تشغيل الشباب والاستفادة من السكن لدرجة أن كل شاب عاطل حامل لدبلوم أو بدونه تمت دعوته للاستفادة من العمل أو من بطائق الإنعاش، وصحيح كذلك أن تمويل المخيم ودعم الحركة كان يتم عن طريق تقديم مساعدات من بعض البرلمانيين والمنتخبين وبعض زعماء القبائل، هذا الدعم طرحت حوله الكثير من الاستفهامات والتساؤلات، وككل حركة اجتماعية عادة ما يتم استغلال الحركة الاجتماعية لخدمة أغراض سياسية وهو ما تم بالفعل، غير أن مغادرة مدينة العيون نحو الضاحية والاستقرار بالهامش على بعد 10كيلومترات، طرح علينا مجموعة من التساؤلات، هل هو رفض بعض المحافظين الممخزنين للتمدن والتحضر الذي يسير فيه المغرب نحو تحقيق مجتمع الحداثة؟ أم هو رفض لدولة القانون وكل ما عرفه المغرب من تحول في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان وفهم جديد للسلطة؟ أم هو رفض لفرض المساواة بين المواطنين المغاربة وكل ما من شأنه أن يساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية؟ في السابق تعامل المغرب مع القضية الوطنية بنفس الفهم القديم لدار المخزن، أي بأسلوب شراء المواطنة والأخذ من خزينة الدولة لصالح الأعيان وزعماء القبائل المتواجدين في الصحراء المغربية ونواحيها، وإغراق فئة محدودة من الصحراويين بمجموعة من التفضيلات الريعية المادية (رخص الصيد، رخص النقل، استغلال المقالع،بطاقة الإنعاش الوطني ....)، وكأن صحراءنا الغربية هي بلاد للسيبة تستمد منها بلاد المخزن شرعيتها وخصائص تواجدها، صحراء خارج حدود الوطن، يكفي تقديم الولاء والبيعة للعرش العلوي لكي تكون مغربيا، وتوالت أخطاء المغرب، حيث تم الاعتراف بقيام دولة موريتانيا دون أي مكسب سياسي أو دبلوماسي، وتم التغاضي قبل ذلك عن ترسيم الحدود مع الجزائر لأن فرنسا الاستعمارية عارضت ذلك بشدة، وأهملنا منطقة تندوف حتى سلبت بطريقة مبهمة كما سلبت الكثير من الأراضي الواقعة على الحدود الشرقية، ولم نعر اهتماما لسكان تندوف الأصليين، وأقصد هنا قبيلة تاجكيت، ودفع المخزن الكلاسيكي بمصطفى الولي السيد الذي لم يعلن قط نية الانفصال نحو موريتانيا، هذا الطالب الذي درس بالرباط كان يدعو فقط لتحرير الصحراء من الاستعمار، ولم نسأله قط عن أية صحراء يتحدث، قامت المخابرات الاسبانية بتصفية البوصيري دون أن تكشف عن مصير جثته، ولم تتدخل الدولة المغربية للمطالبة بكشف الحقيقة إلا في مؤخرا، تبادلت المخابرات الجزائرية الدور مع المخابرات الليبية لإشعال فتيل الفتنة بالمنطقة، والمغرب ظل يقوم بدور المبنج ويقدم المسكنات دون أية استراتيجية لحل المشكل، حتى عندما حققنا النصر بتنظيم المسيرة الخضراء وباعتراف محكمة العدل الدولية وبعد إجلاء الاستعمار الاسباني من التراب المغربي، بقينا حبيسين النظرة الأحادية المخزنية لمعالجة الملف، شيدنا العمران بالمناطق القاحلة والمغاربة لا يعرفون ما يدور في صحرائهم، انطلقت مشاريع حضارية واقتصادية بالجنوب بدون أي إشراك للمجتمع المدني في التعريف بالمنجزات ومحاصرة أعداء الوحدة الوطنية، أخطاء ارتكبت لأن العقلية المخزنية كانت متحكمة في ملف الصحراء وترفض تدخل أي أحد خارجها. إلى أن قدم مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة الوطنية، والذي يندرج ضمن سياق وطني عام يتمثل في تكريس الديمقراطية وتحقيق التنمية المحلية، حيث اعتبر في حينه أن المغرب غير المقاربة التي يتعاطى بها مع الملف، مقاربة قانونية من جهة وتنموية من جهة ثانية، وهي بمثابة حل قانوني وسياسي وإداري لقضية صحرائنا الغربية، وجواب عادل وديمقراطي لجميع المواطنين المغاربة بالصحراء، هذا المقترح ليس له علاقة ببنية المخزن أو بفكره وسلوكه، ويستمد شرعيته من القانون الدولي ومن التجارب العالمية التي يطبق فيها هذا النوع من الحكم، وهو الطرح المتقدم للجهوية المتقدمة، أو ما يمكن تسميته الصيغة العالمية لمفهوم الجهوية الموسعة، الذي تطالب به جميع القوى السياسية بالبلاد، بهدف تطبيق نظام اللامركزية واللاتمركز، وإصلاحهما بالشكل الذي يتماشى ويستجيب للمفهوم الجديد للسلطة، والتي بإمكانها أن تحول ديمقراطيتنا الفتية من مرحلة الانتقال والقفز بين الإصلاحات والترميمات إلى مرحلة تكريس الديمقراطية والاتفاق على قواعد لعب جديدة في إعادة واضحة لتوزيع الثروات والسلط، فأصل الاحتجاج إذن، جاء من تشبث بعض العناصر الانفصالية وبعض الأعيان بالطريقة المخزنية في التعاطي مع الشأن الصحراوي، وعدم الرضوخ لدولة القانون حيث يتمتع الجميع بنفس الحقوق كما هم ملزمون بنفس الواجبات اتجاه الوطن، عوض العمل على تغذية العصبية القبلية وتقويتها على حساب دولة القانون، التي ترفض التعاطي والتعامل مع الجماعات إلا في إطار منظم كالجمعيات و النقابات والأحزاب، أما دون ذلك، فالجميع سواسية أما م القانون، وهي مقاربة جديدة تنضاف للمقاربة التنموية حيث يتم إشراك جميع الفاعلين لتقوية الدبلوماسية الموازية وجعلها تقوم بدورها اتجاه الوطن. من هذه الزاوية يمكن أن نفهم لماذا رفض البعض من الانفصاليين للتمدن وكل ما استطاعت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تحقيقه لصالح السكان والعمران على حد سواء والعودة للسكن في الخيام، كطريقة في الاحتجاج، وذلك لإيصال رسالة مفادها أن المتحكم في شؤون الصحراء هي القبيلة بتحالف مع الجزء الخبيث من المخزن- حيث نقر أن في التراث المخزني هناك الجانب الثقافي المشرق الذي يجب المحافظة عليه والذي لا يؤثر في حياتنا ولا في طريقنا نحو الحداثة والديمقراطية ومجتمع العدالة الاجتماعية- وليس الدولة بترسانتها القانونية وتعدد مؤسساتها الديمقراطية، هذا الطرح المغلوط الذي حاولت بعض عناصر البوليزاريو والمخابرات الجزائرية تمريره على باقي سكان الجنوب لم تنطوي لا على القبائل الصحراوية بتعدد أصولها وتسمياتها، ولا على الدولة المغربية، حيث برهن كثيرون وفي ساعته، عن وطنيتهم وتمسكهم بمقدسات الأمة المغربية، وهو ما جاء به الخطاب الملكي إذ أكد على ضرورة الحسم مع الخونة، فإما أن تكون مغربيا متشبثا بوطنيتك أو لست كذلك مغربيا خائن لبلدك، فليست هناك منزلة بين المنزلتين، لأن المغربي وحده يملك الحق في المطالبة بإصلاحات دستورية، ومن حقه أن يطالب بإعادة توزيع الثروات، وتغيير قواعد اللعب وغير ذلك من المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية المشروعة والتي يكفلها الدستور، لأن احترام المقدسات وتقديس الواجبات شرط أساسي للاحتجاج والتمتع بفضائل الوطن وبحقوق المواطنة، أما وأن تواجه الوطن بالجحود وبالابتزاز فهذا ما لا يقبله أحد، صحيح أن الكثيرين يتمتعون بامتيازات المفهوم القديم للسلطة، والأكيد أن هناك من يتاجر منا بقضية وحدتنا الترابية، لكن الأكيد كذلك أننا نسير في المنحى والاتجاه الصحيح لتكريس الديمقراطية وتحقيق دولة القانون، وهو ما تبين بالملموس عندما تدخل الأمن المغربي لفض الاحتجاج وتفكيك الحصار على المحتجزين بالمخيم بالطرق السلمية مع احترام تام لحقوق المواطنين وسلامتهم البدنية، رغم أن الكثيرين طالبوا باستعمال القمع لردع الميلشيات المسلحة التي تسخرها المخابرات الجزائرية، غير أن ضريبة التدخل الأمني السلمي كان كبيرا في عدد الضحايا من صفوف رجال دولة القانون ونسبة الخسائر المادية التي لحقت المؤسسات والعمران وممتلكات المواطنين، كما أن ضريبة التدخل تجلت كذلك في إضعاف هيبة المؤسسات الأمنية المغربية أمام مجموعة نسميها انفصالي الداخل، وأمام خصوم وحدتنا الترابية، وكثيرون طالبوا بالتعامل المخزني مع أعمال الشغب ومع المجرمين الذين عاثوا في أرض العيون فسادا، ومع ذلك انتصرت الدولة، لأن الجميع برهن على وحدة الصف الداخلي اتجاه أعداء الوطن، وأكدوا على أن القضية الوطنية ليست قضية اختلاف وتسابق ومزايدات، والتباهي حول من قدم أكثر، ومن اجتمع أولا ومن أدان ومن أصدر البيان، إنها قضية الوطن الكل معني وعلى كل واحد منا أن يقدم مساهمته حسب قدراته وإمكانياته واستطاعته وموقعه ومسؤوليته ، لقد انتصرت الدولة على المخزن لأننا أمام مشروع متكامل استراتيجي أشاد به المنتظم الدولي ، حل عادل لاغالب ولا مغلوب، الحكم الذاتي في ظل السيادة المغربية، انتصرت الدولة لأنها استطاعت إشراك جميع الفاعلين في الملف بما في ذلك المجتمع المدني وتعبئة الرأي العام الوطني والدولي حول عدالة قضيتنا و بوحدتنا الترابية، و برهنت للجميع أن الوطن أرض وحدود، وأعملت القطيعة مع أخطاء الماضي عندما كان بالإمكان حل المشكل في المهد، انتصرت دولة القانون انتصر المغرب على الأطماع الخارجية والداخلية، ربح المعركة لكن الحرب طويلة، و لكسب الرهان وجب تحصين الذات وتقوية المؤسسات ودمقرطتها من جهة ومن جهة ثانية تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية وممارسة القضاء و الإعلام لسلطتيهما بالشكل المطلوب، لأنهما الضامن الوحيد لبقائنا في الطريق والمنحى الصحيحين لتحقيق مجتمع الحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.