كان يا ما كان، في حديث الزمان، نظام أقفل مكاتب الجزيرة في بلاده لأنها تمادت في حشريتها وتطاولت في التدخل في ما لا يعنيها فٱنتهت إلى سماع ما لا يرضيها. ولقد سعت الحكومة مؤخرا إلى إنعاش وتوطيد علاقاتها الدبلوماسية الحميمية -والتي لم تفتر يوما بطبيعة الحال- مع دولة قطر. فهي علاقة الأحباب والأقرباء والأشقاء، وما إلى ذلك من كلام الراديو و التلفزيون. وتَزامُنُ هذه النوبة الغرامية الفجائية مع هبوب ريح الثورات على البلاد العربية هو بالطبع غير مقصود ومن لا يتعدى أن يكون من قبيل الصدفة الدرامية. لقد خمن المحلّلون والمستشارون المقربون وضربوا أخماسا في أسداس ليخرجوا بهذا الاستنتاج المذهل: الثورات التي تعج بها البلاد العربية من صنع قناة الجزيرة. فهي التي تؤلب المحكومين على حاكميهم لأن الشعوب في حساباتها مدجنة ولا يمكن أن تصيبها هرطقات الحرية والتنمية و العدالة الاجتماعية. ولعل استعطاف الحكومة القطرية ومغازلة الجزيرة يكونان السبب في الإفلات من ضرورة تسريع وتيرة التغيير قبل فوات الأوان؛ وحلول فوضى -لا قدر اللّه – ستأتي على الأخضر و اليابس. ومع التقدير الذي يكنه المتتبعون لقناة الجزيرة وللدور الإيجابي الذي تلعبه في تغطية الحركات التحرّرية في بلادنا، إلا أن القول بأن لها قوى خارقة تجعلها تصنع الأحداث ولا تكتفي بنقلها، نكتة لا تضحك إلا صاحبها. ولا تخلوالجزيرة من العيوب والفجوات والكبوات المؤقتة. ولها أيضا خطوطها الحمراء المحظورة والمستورة، وعاهات مستديمة وعادات علنية سيئة لم تقلع عنها إلى حد الآن. مع هيكل سليمان كان محمد حسنين هيكل بوق نظام جمال عبد الناصر قبل أن تهمشه الأنظمة التي توالت بعد ذلك على حكم مصر. إنه سوبرمان الصحافة العربية والدولية، وربما المجراتية والكونية. قد لا يصل الرجل إلى حد الادعاء بأن له يدا في كل ما عرفه العالم من أحداث ولكنه كان حاضرا وشاهد عيان. يحدثه الزعماء ويراسله الرؤساء ويهاتفه الملوك ليلا ونهارا. (−آلو سوبرمان هيكل؟ -هو بعينه، مين معاي؟ -رئيس دولة كذا وكذا. -أهلا وسهلا. أنا في الخدمة يا سيادة الرئيس. -أريدك يا هيكل أن تساعدني في حل معضلة خطيرة... -بكل سرور يا زعيم. -إنه أقرب المقربين من مستشاريّ، طباخ القصر الخاص، جاء يستفسرني عن وجبة الغذاء. ولست أدري ماذا أقول للرجل. إنني في حيرة من أمري وأتردّد ما بين الخروف المشوي المعمر بالدجاج المحمر وبين السلمون المدخن المدهون بالكافيار...-فعلا يا سيادة الرئيس، تردّدك في محله. أمهلني هنيهات حتى أتصل بالزعيم عبد الناصر، علَّه يفيدنا في حل هذه القضية القومية البالغة الحساسية.) شاهد الزور إذا كان المشاهدون من المغاربة والمشارقة قد استمتعوا بالسرد الشيّق لشهادات أحمد المرزوقي، صالح حشاد، محمد سعيد آيت إدر، سعد الدين الشاذلي، أحمد ياسين وغيرهم، فإنهم تقزّزوا من شهادة جيهان السادات المطولة والتي ٱمتدت على مدى 11 حلقة. وذلك بعد عمليات رفع وحقن بالبوتوكس جعلتها تبدو أصغر سنا مما بدت عليه في برامج تلفزيونية أخرى سبقت (شاهدا على العصر) بسنوات عديدة. المرأة تكذب وتتحرى الكذب في كل جملة مفيدة (كذب كاذب ومكذوب به.) تختلق أحداثا لم تقع. تشوه وقائع يعرفها القاصي والداني، وحين يحاصرها (أحمد منصور) بأسئلته تارة وبترقيص حواجبه تارة أخرى، تدَّعِي أن لا علم لها بالموضوع أوتنتابها نوبات نسيان حادة. الاتجاه “المعَكَّس” هو أقرب للسيرك أو”الحَلْقة” منه إلى برنامج سياسي-اجتماعي تحليلي. لا يعرف اللّون الرمادي. فالأشياء إما أن تكون بيضاء أوسوداء. البرنامج يستمد منطقه وفلسفته -في أحسن حالاته- من خلفية ديالكتيكية هيجيلية أكل عليها الدهر وشرب...الأطروحة، الأطروحة المضادة والتركيب. كما أنه من المستحيل أن تكون لاثنين آراء متطابقة في كل الأمور، من المستبعد أيضا أن تجد اثنين لهما آراء متناقضة في كل شيء. وحوار رجل الأطروحة والأطروحة المضادة لا يتعدى كونه مشهدا هزليا هو أقرب من كوميديات (لوريل وهاردي) منه إلى التحليل السياسي والاجتماعي. يستهل مقدم البرنامج حلقاتِه بإجهاد نفسه وحَلْقِهِ بعرض كوكتيل من الأطروحات والأطروحات المضادة الكاريكاتورية، بغرض استفزاز المشاهدين، و يقدم نتائج استطلاعات رأي مشبوهة، تتجاهل أبجديات الإحصاء، على أنها نتائج إحصائية دقيقة، لا يتورّع في أن يطلب من المشاركين تأويلها والرد عليها. ولقد تعلم المذيع من بعض ضيوفه الكرام قلة الأدب، فلم يعد يتمالك نفسه من سبهم (أنا أقول لك يا سيدي بكل حياد و بكل موضوعيتي ونزاهتي الصحفيتين اللتين لا تخفيان على أحد...أقول لك...أقول لك...هل أنت أعمى يا رجل؟ هل أنت أخرس ...”أم شو اللّي صاير لك”؟ يا رجل...يا رجل...اسمح لي أن أسألك بكل احترام وأدب، وأنت تعرفني، هل أنت في منتهى الغباء؟ محاورك يسب أباك ويقذف أمك، ويقول لك كيت وكيت وكيت كات، وعباس وراء المتراس وأنت تصقل سيفك يا عباس...وأنت في مكانك لا تحرك ساكنا؟! أنا أحسدك يا سيدي على هدوء أعصابك. يا سلام على برودة الدم!) والبرنامج لا يتعدى واحدا من ثلاث سيناريوهات. السيناريو الأول: جولة ملاكمة معلنة تبدأ بالسب وقد تنتهي بالضرب. السيناريو الثاني: سجال كلامي ممل بين رجل يقول أن2=1+1وآخر يدَّعي بأن 3=1+1 ويحلف ويُشْهِد الله والناس على ما يقول. وندرج في هذا الصنف من الحلقات اتهامات المسؤولين الحكوميين بافتراء من يدّعي تفشي الفساد والرشوة والمحسوبية والاعتقال السياسي والتعذيب في البلاد العربية. السيناريو الثالث: حوار بين رجلين عاقلين، يختلفان في أمور ويتفقان في أمور أخرى، ويتفقان على أن يختلفا. وهذا السيناريو الأخير لا يستفز إلا مقدم البرنامج الذي لا يجد بُدًّا من الغليان في مرقه المسموم.