“انهم يشيدون متحفا اسمه كان هناك عراق! ” خلال ثلاثة اسابيع فقط، من الشهر الحالي، صدرت ثلاثة تقارير عالمية تتضمن صورة كارثية عن حقوق الانسان في العراق، على مستويات عدة منها الصحة والتعليم والامن الغذائي وحرية الرأي والتعبير وحق التظاهر. خلال اسابيع فقط (ولم ينته الشهر بعد)، فهل يتم هذا لان المنظمات لا شغل ولا شاغل لها غير العراق ام انها، كلها، بعثية ارهابية تحارب العراق الجديد ‘واحترام حقوق الانسان ومبادئ الحرية والديمقراطية.' حسب نوري المالكي في خطابه يوم 18 ايار/مايو؟ التقرير الأول هو الصادر عن منظمة الصحة العالمية ويتضمن تطورا انسانيا مهما للغاية وهو زيادة معدل عمر الانسان، في معظم دول العالم. غير ان قراءة الاحصائيات المتعلقة بالعراق تثير غصة في القلب. اذ يشير التقرير الى وجود بلدين ‘ محظوظين' في العالم انقلبت فيهما الزيادة الى نقصان. هذان البلدان هما العراق وجنوب افريقيا. حيث انخفض معدل بقاء العراقي على وجه الكرة الارضية، خلافا لاشقائه من ابناء الجنس البشري، من 68 عاما في عام 2000، بعد عشر سنوات من الحصار، الى 66 في عام 2009. وهناك إحصاءات توقعية لمعدل عمر المولودين حديثا. فمن ولد من الذكور في عام 2009 حظهم سيختزل معدل عمرهم الى عاما 62 بالمقارنة مع 65 عاما للمولودين في عز الحصار عام 2000. والجدير بالملاحظة ان هذا النقصان قد تم في عهد ‘ العراق الجديد' الذي وعدت فيه امريكا وحلفاؤها، من عراقيين وغيرهم، ابناء الشعب العراقي بكل ما هو رائع ومزدهر في الحياة. فكانت النتيجة هي الواقع المرير الذي تجاوز في كارثيته سنوات الحصار كما تثبت احصائيات المنظمة العالمية (لم أجد ما يدل على بعثيتها وقاعديتها) التي توثق ارتفاع معدل العمر في سنوات الحصار المريرة بالمقارنة مع سنوات رعاية الامبريالية الامريكية. وكأن التدهور في معدل العمر الذي اصاب المواطن العراقي (وهو حصيلة العديد من المؤشرات الصحية)، في ظل الاحتلال، غير كاف فجاء تقرير منظمة اليونسيف، الصادر يوم الثلاثاء الماضي، ليزيد الطين بلة. اذ تكشف المنظمة، في تقريرها، عن امتلاكها معلومات تقدر حجم عمالة الاطفال في العراق بما يقارب المليون طفل الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة وال14 سنة. مما يعني ان مليون طفل يعيشون تحت خط الفقر، مما يضطرهم وذويهم لتشغيلهم. ونحن نتحدث هنا عن واحد من اكثر بلدان العالم ثراء، بلغ دخل البيت المتوسط فيه من عائدات النفط منذ الأحتلال 80 ألف دولار. ويقول المتحدث باسم المنظمة، في العراق، بأن ‘تقارير المنظمة تشير الى وجود مليون و500 الف طفل يعانون من نقص التغذية، الى جانب 750 الفاً اخرين غير مسجلين في المدارس الابتدائية، نصف عددهم من المناطق الريفية بالاضافة الى وجود 800 الف طفل يتيم وتعرض زهاء 900 الف طفل للتهجير الداخلي في البلاد'. ولم يتطرق التقرير الى ولادة الاطفال المشوهين وارتفاع حالات الاصابة بالسرطانات بين الاطفال والكبار معا نتيجة التعرض لليورانيوم المنضب الذي استخدمته امريكا وبريطانيا، منذ التسعينات، وعاودت استخدامه بكميات كبيرة في فترتي الغزو والاحتلال، بالاضافة الى الفسفور الابيض والاسلحة المحرمة غير المعلن عنها ومااينتج عنها من تلوث واشعاع مميت بطيء. هنا، قد يخطر في البال التساؤل عن رد فعل وزارة الصحة او أي مصدر حكومي آخر حول تقرير المنظمة العالمية التي تتعاون معها الوزارات. ويأتي الجواب ليثبت اولا حالة الكذب المستعصية المصاب بها ساسة حكومة الاحتلال، وليثبت ثانيا، سذاجتنا حين نتوقع ولو جملة صادقة واحدة من الاطباء المتعاونين معهم باعتبارهم قد اقسموا لخدمة الشعب (نسينا كيف حكم الطبيبان علاوي والجعفري وان عددا من الاطباء الامريكيين شاركوا في تعذيب المعتقلين في غوانتانامو، تماما مثل الأطباء النازيين. اذ سارع عدد من المسؤولين، كالعادة، الى اطلاق الكذبة تلو الاخرى فيما يخص التقرير. حيث انبرى مفتش عام وزارة الصحة قائلا: ‘ان المؤشرات الصحية في العراق تقارب المؤشرات الصحية لدول الجوار'. وهي كذبة تماثل هتاف المحتفين بملابس الامبراطور الجديدة، يفندها التقرير بارقامه الشاملة عن سوء التغذية والفقر المدقع والتسرب من المدارس والبطالة. اما كوثر إبراهيم، مديرة هيئة رعاية الطفولة في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، فقد أقرت بداية ‘بوجود ما يقارب المليون طفل يعملون في مهن وحرف متنوعة'، لكنها سرعان ما ندمت على قول الحقيقة لتعتبر ان ‘الاحصاءات غير دقيقة، اخذت من منظمات غير حكومية تعنى بالطفولة في العراق'. وكأن مصدر الاحصاءات الدقيقة هو الوزراء ودوائرهم؟ ونفت مديرة هيئة رعاية الطفولة ‘صحة التقديرات التي أشارت إلى وجود 5 ملايين يتيم في العراق'، مؤكدة إن ‘هناك مليوناً و447 ألف طفل يتيم في العراق حسب إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء في مسح أجرته في عام 2009′. وأجدني اصرخ هنا : مليون و447 ألف طفل يتيم فقط؟ يا لبؤس حقوق الانسان حين يتمسك مسؤولون، بصحة هذا الرقم او ذاك، للتستر على مسؤوليتهم القانونية والاخلاقية وللايحاء بان التقارير الانسانية هي مجرد ارقام لا تمثل حياة الناس والاطفال بشكل خاص. ويأتي التقرير الثالث الصادر عن منظمة العفو الدولية لتتصدره ممارسات اجهزة المالكي الأمنية ضد المتظاهرين يوم 25 آذار / مارس في ساحة التحرير وما تلاه من قتل واعتقالات وتعذيب، حسب شهادات موثقة، في ارجاء مختلفة من العراق. كما يتضمن التقرير شهادات موثقة عن قمع الحزبين الحاكمين في اقليم كردستان للصحافيين والناشطين الحقوقيين والمتظاهرين، سلميا، ضد احتكار الحزبين للسلطة والموارد واستشراء الفساد بانواعه. يؤكد التقرير ان قمع حرية التظاهر والرأي، يشكل انتهاكا حتى للدستور الذي وقع عليه الساسة انفسهم، خاصة بعد اصدار قرار 25 حزيران 2010 حيث يتوجب على المتظاهرين الحصول على اذن مكتوب من وزارة الداخلية اولا ومن ثم محافظ المدينة ومن ثم التقدم الى جهاز الشرطة للحصول على اذن في مدة لا تقل عن 72 ساعة قبل المظاهرة. ولا احد يعرف الشروط اللازم استيفائها للحصول على الأذن من الداخلية أو المحافظ او الشرطة. وفي ظل الحزبين المتسلطين في اقليم كردستان، وصلت تهديدات المنخرطين بنشاط حقوقي او سياسي معارض حدد التهديد الشخصي بالاختطاف والاغتصاب، كما ورد في شهادة الناشطة فاطمة أحمد، البالغة من العمر 42 عاما وهي أم، حيث ذهب ‘ثلاثة رجال' الى بيتها في اربيل، مهددين: ‘اذا لم تتوقفي عن معارضتك السياسية سنختطفك ونغتصبك ونصور الاغتصاب'. ما الذي نستخلصه من التقارير الثلاثة؟ بالنسبة الى تعليم الاطفال، من الثابت علميا ان خسارة الاطفال للتعليم المدرسي لعام واحد يؤدي الى انخفاض المستوى العقلي بنسبة 3-5 بالمئة. كما ان تهجيرهم وعدم توفير الاستقرار والأمان اليومي سيؤدي الى التشوه والعطب النفسي، ويؤدي عدم الرعاية الصحية الى تأخر النمو وظاهرة التقزم، الملاحظة منذ سنوات، لدى الفتيات بشكل خاص. واذا ما اضفنا الى ذلك انخفاض معدل العمر بمعدل عامين كل 9 سنوات، لوجدنا ان الشعب العراقي، بوضعه الحالي، سيباد برمته خلال 270 عاما، بعد أن يتحول الى مجموعة إنسانية معاقة عقليا وجسديا خلال 60 عاما، لينصب مكانه متحف فولكلوري يبين للسياح ان شعبا كان هنا، كما يحدث في مستوطنات سكان امريكا الأصليين المفتوحة للسياح. وهذه الإبادة هي التي تؤكدها ممارسات الاستعمار الجديد، بإستخدام العملاء والمغفلين الأخرين من الطائفيين والعلمانيين، وبإستخدام الليبراليين في الغرب نفسه تحت شعارات التدخل الإنساني. ان الحكومات المتعاقبة منذ الاحتلال، على الرغم من توفر الثروة والمصادر والامكانيات البشرية ‘عاجزة عن توفير الغداء والأمان والتعليم للمواطنين' حسب تقرير اليونسيف، ولأسباب تتعلق بطبيعة تركيبتها ومصالح مكوناتها. لذلك لا بد وان تتحمل هذه الحكومات المتعاقبة، بكل مكوناتها، مسؤولية الابادة الجماعية التي يتعرض لها المواطنون جميعا بطول البلاد وعرضها. وان الحل الوحيد، للابقاء على ديمومة العراق وشعبه، هو ان تتلاحم الجهود للتحرر من الاستعمار الجديد ومكوناته مهما كانت القومية، طائفية كانت ام علمانية.