تطرح العلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني جملة من الاشكاليات المنهجية والتوفيقية يمكن بلورتها عبر تساؤلات مركزية يأتي في مقدمتها: أية علاقة تربط بين الأحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني ؟ هل هي علاقة تقاطع أم تكامل؟ وإذا كان الاحتمال الثاني هو الوارد فكيفي يمكن بناء علاقات التكامل مع الحفاظ على استقلالية كل واحد منها عن الآخر على اعتبار أن هذه الاستقلالية تشكل جزء لا يتجزأ من الدولة الديمقراطية. للاجابة على مختلف هذه التساؤلات سنخصص المحور الأول لرصد أدبيات كل من المجتمعين السياسي و المدني على أساس أن نسلط الأضواء في المحور الثاني للحديث عن طبيعة العلاقة الكامنة بين المجتمعين. المحور الأول: أدبيات حول المجتمع السياسي لا بد من التأصيل النظري للمفاهيم التي نتحدث عنها؛ وهما يبرز مفهومين مركزيين:الأحزاب السياسية والنقابات. أولا:الأحزاب السياسية تعتبر الأحزاب السياسية ظاهرة سياسية حديثة برزت عقب القضاء على النظام الاقطاعي وبروز النظام الرأسمالي؛ حيث يشير موريس دوفيرجيه على أن تاريخ الأحزاب يعود على سنة 1850 ففي هذا العام لم يكن في أي بلد في العالم باستثناء الولاياتالمتحدةالأمريكية أحزاب سياسية بالمعنى العصري للكلمة؛ حيث كان يوجد اختلاف في الآراء ونواد شعبية وتكتلات فكرية وكتل برلمانية المطلب الأول: تعريفات الحزب السياسي ليس هناك تعريف جامع ومانع لمفهوم الحزب السياسي، إذ عرفه جيلينك بكونه مجموعة تتشكل بفعل الاتفاق العام حول أهداف سياسية معينة بغية تحقيقها" فيما نظر إليه ادمون بيرك بكونه مجموعة من الأفراد متحدين بمسعاهم الموحد مستهدفين تحقيق الصالح القومي على أساس مبادئ محددة اتفقوا عليها هذا في الوقت الذي ذهب فيه موريس دوفيرجيه إلى اعتبار الحزب السياسي منظمة طويلة تسعى إلى تأطير وتمثيل المواطنين من خلال بلورة برنامج سياسي متميز تحاول من خلاله الوصول إلى السلطة. وإذا كان الحزب السياسي عرف تعددية ملحوظة في تعريفاته إلا أن هناك شبه إجماع على أنه يتميز عن باقي التكثلات السياسية من حيث أهدافه وكيفية تنظيمه وكذا وسائل اشتغاله المطلب الثاني: التطور التاريخي للأحزاب السياسية تعود جذور نشأة الأحزاب السياسية إلى القرن التاسع عشر؛ ويعتقد " موريس دوفرجيه "أن نشأة الأحزاب السياسية تعود إلى عام 1850 حيث لم تكن الأحزاب السياسية معروفة قبل ذلك. وبالرغم من أن كلمة " الأحزاب " استخدمت في التاريخ القديم، إلا أنها لم تكتسب معناها المعروف حاليا إلا في العصر الحديث وقد حاول العديد من الكتاب تتبع تاريخ ظهور الأحزاب السياسية، والكيفية التي نشأت فيها، حيث اجمع العديد منهم على أن هناك أصلين للأحزاب: الأصل الانتخابي والبرلماني والأصل غير الانتخابي وغير البرلماني أو الأصل الخارجي. وهو ما أطلق عليه الأحزاب داخلية المنشأ والأحزاب خارجية المنشأ. -الأحزاب ذات الأصل البرلماني والانتخابي ( الداخلية النشأة ): نشأت من خلال قيام جماعات وتكتلات داخل البرلمانات، ثم تكوين لجان انتخابية هدفها العمل من اجل إعادة انتخاب تكتل برلماني معين، ثم حدوث اتصال وتفاعل بين هذه الجماعات واللجان، وتعتبر معظم الأحزاب التي نشأت قبل عام 1900 من هذا النوع. – الأحزاب ذات الأصل غير الانتخابي أو البرلماني ( الخارجية النشأة ): ظهرت نتيجة قيام جمعيات أو نقابات أو اتحادات بإنشائها وتأسيسها. ويمكن القول أن معظم الأحزاب السياسية التي ظهرت في القرن الحالي قد نشأت من خارج البرلمانات،. فقد عملت العديد من الجمعيات والنقابات العمالية وحتى الكنائس الدينية إلى تشكيل أحزاب سياسية، ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى دور الجمعية " الفابية " في نشأة حزب العمال البريطاني، الذي لا زال قائما حتى الآن. المطلب الثالث :مرتكزات الحزب يشير لابالمبارا وفينر في كتابهما " الأحزاب السياسية و النمو السياسي " على أن هناك أربعة مرتكزات أساسية للحزب تتمثل فيما يلي : -1 " تنظيم دائم أي تنظيم يعد أمله في الحياة السياسية أعلى من امل قادته في وقت ما . -2 تنظيم محلي وطيد بشكل جيد ودائم ظاهريا ويقيم صلات منتظمة ومتنوعة مع المستوى القومي. -3 ارادة واعية للقادة القومين والمحليين للتنظيم لخد السلطة وممارستها لوحدهم أو مع الغير وليس فقط التاثير على السلطة. -4 الاهتمام بالبحث عن دعم شعبي من خلال الانتخابات أو بأية طريقة اخرى وبعيدا عن هذا التصور يمكننا رصد ثلاث مرتكزات أساسية لخلق الأحزاب يشكل طابع الاستمرارية أولها والقيام بالوظيفة التأطيرية والتمثيليلة ثانيها وتوفرها على برنامج سياسي ينسجم مع توجهاته الايديولوجية ثالثها بشكل يمكنها من الوصول إلى السلطة. المطلب الرابع: هيكلية الأحزاب السياسية تعني الهيكلة التنظيمية للحزب السياسي سن مجموعة القوانين والأنظمة واللوائح التي تنظم العلاقة الداخلية بين مختلف الأعضاء والهيئات والمستويات الحزبية مع بعضهم البعض بحيث ينعكس هذا البناء التنظيمي على العلاقات الخارجية لهذا الحزب. ويمكن تصنيف البنى التنظيمية المعروفة حتى الآن في الأحزاب السياسية على النحو التالي: 1- الهيكلية التنظيمية المرنة: وهي الأحزاب التي تعتمد في بنائها على اللامركزية، حيث تقوم العلاقة بين الهيئات والمستويات على اللامركزية، وتتميز هذه العلاقة بطابع المرونة حيث تعطي للفروع المختلفة وقياداتها قدرا كبيرا من الحركية في اتخاذ القرارات، كما أن سلطة القيادة العليا لهذا النوع من الأحزاب تكون محدودة، مقابل سلطات وصلاحيات أوسع للهيئات والفروع المختلفة في الحزب. 2- الهيكلية التنظيمية المتماسكة ( المركزية ): وهذا النوع من الأحزاب يتميز بعلاقة أكثر قوة بين مختلف المستويات والهيئات الحزبية، وتكون صلاحية اتخاذ القرارات بيد القيادات العليا في الحزب. وهنا نرصد شكلين من أشكال المركزية الحزبية: الأول: تعرف بالمركزية الأوتوقراطية، وهذا النوع يناسب الأحزاب الفاشية، حيث تتجمع في يد القيادة العليا للحزب معظم صلاحيات وسلطات اتخاذ القرار. الثاني: يسمى المركزية الديمقراطية وهو يقوم على علاقة متداخلة بين الهيئات المختلفة للحزب، وتكون أيضا بيد القيادة العليا للحزب صلاحيات واسعة في اتخاذ القرار، ولكن وفق تسلسل هرمي متصاعد. المطلب الخامس:وسائل عمل الأحزاب السياسية توظف الأحزاب السياسية جملة من الوسائل بغية تحقيق أهدافها؛ بيد أن هذه الوسائل تختلف تبعا لتقدم الدول وتجاربها في الممارسة الديمقراطية أو تخلفها عن ذلك؛ ويمكن رصد هذه الوسائل على النحو التالي: الفرع الأول: الوسائل السياسية: – المشاركة في تمثيل الحزب داخل المؤسسات التمثيلية من خلال طرح أسماء المرشحين لشغل مقاعدها وتهيئة البعض الآخر منهم لتقلد المناصب الوزارية والادارية. المشاركة في المداولات والمناقشات السياسية مع ممثلي السلطات وممثلي الأحزاب لبيان وجهة نظر الحزب في القضايا الوطنية والدولية. تنظيم التظاهرات السياسية . إثارة شعور الأفراد والجماعات لكسب التأييد الشعبي من خلال عقد الندوات والمؤتمرات السياسية الفرع الثاني: الوسائل المالية – الحصول على الأموال والمساعدات التي تساعد الحزب على تغطية نفقاته من خلال التنظيم الاشتراك المالي لأعضائه، أو تقديم التبرعات المادية أو العينية في الحملات الانتخابية – استثمار أموال الحزب في الحملات الانتخابية… – الفرع الثالث: الوسائل الاجتماعية – تنظيم ندوات اجتماعية – ارتداء ملابس معينة ذات رموز ودلالات من أجل بث روح الحماس والوحدة بين أنصار الحزب، خاصة فئة الشباب – تقديم خدمات اجتماعية عبر التنظيمات الموازية للحزب كالشبيبة أو التنظيمات النسوية. – الفرع الرابع : الوسائل الاعلامية إصدار الصحف والدوريات والمطبوعات التي تمثل وجهة نظر الحزب في كل القضايا السياسية؛ الاقتصادية والاجتماعية معالجة الحرب النفسية والاعلام المضاد من قبل الأحزاب الأخرى؛ وذلك بالرد عليها عبر البيانات أو المطبوعات تنظيم دورات و اللقاءات والندوات التي تعالج القضايا – توضيح وجهة نظر الحزب من خلال وسائل الاعلام المرئية؛ المقروءة والمسموعة خصوصا في أوقات الحملة الانتخابية؛ ويمكن للأحزاب السياسية أن تتلقى عروض مجانية لهذا الغرض من قبل الدولة كما يمكنها شراء الوقت اللازم من قبل الاذاعات والقنوات الفضائية والصحف مثلما يحق لها امتلاك مؤسسات إذاعية وتلفزيونية خاصة به فضلا عن الصحف والدوريات وتسخيرها لخدمة أهداف الحزب وأعضائه ثانيا: النقابات تندرج النقابات ضمن المجموعات المهنية التي تدافع عن مصالحها المادية في إطار ما يعرف بالمنظمات المهنية. والواقع أن النقابات لا تدافع فقط عن مصالحها المادية بل تدافع أيضا عن سمعة مهنتها وشرفها وصورتها الدعائية ؛وبعبارة أخرى فإنها لا تلجأ للتمويه على صعيد الهادف بقدر ما تستعمل طواعية بالمقابل التمويه على صعيد الحجج وذلك من خلال إبرازها بشكل منهجي ذلك التقارب الحقيقي أو المفترض بين مصالحها الخاصة والمصلحة العامة؛ فمنظمات أرباب العمل تدافع عن الحرية من خلال الدفاع عن حرية المشروع كما يؤكد المستخدمون في مرفق عام أنهم يدافعون ولو من خلال الاضراب عن مصالح المنتفعين في نفس الوقت الذي يدافعون ولو من خلال الإضراب عن مصالح المنتفعين في نفس الوقت الذي يدافعون فيه عن مصالحهم الخاصة. بيد أن هذه التأكيدات قد تكون صحيحة مثلما يمكن أيضا أن تكون خاطئة وحينذاك تعد من قبيل التمويه. إن السؤال المركزي هنا هو هل هناك شكل واحد وموحد من النقابات؟ إن حالة القوى النقابية تختلف جدا حسب البلدان حتى لو اكتفينا بالنظر لأوضاع متماثلة كأوضاع الدول الديمقراطية في أوربا الغربية غير أنه يحضر ثلاثة مقومات مركزية مشتركة تكتسي مدلولات خاصة ألا وهي الصفة التمثيلية للنقابات؛ وحدة الاتحادات النقابية وأخيرا مسألة الانضباط النقابي فماذا نعني بمفهوم الصفة التمثلية ؟ إن مفهوم الصفة التمثلية للنقابات يمكن أن يؤخذ بمعنيين مختلفين فهذا المفهوم يعني من جهة النسبة المئوية لعدد المنتسبين للنقابة من المجموع الكلي للأجراء الذين يحق لهم الانتساب لها كما أنه يعني من جهة أخرى عدد الأصوات المؤيدة للمرشحين الذين تقدمهم القيادة النقابية للانتخابات المهنية، بالمقارنة مع الأصوات التي حصل عليها المرشحون الآخرون. غير أنه يمكن أن يوجد هنا تباعد كبير بين هاتين الطريقتين في قياس تأثير النقابات؛ ففي فرنسا مثلا يلاحظ أن الصفة التمثيلية للنقابات بالمعنى الأول ضعيفة حيث تقدر بحوالي20 في المائة من مجموع عدد السكان النشيطين لكن هذا الوقع لا يمنع من ملاحظة أن الأغلبية لا يمنع من ملاحظة أن الأغلبية الساحقة من الناخبين تصوت لصالح مرشحي المنظمات النقابية الكبيرة. أما المتغير الثاني فيكمن في وحدة النقابات أو تعددها؛ فالنقابات من حيث تعريفها تكون عديدة ؛ ذلك أن كل مهنة تبدى سمات خاصة تميزها عن باقي المهن؛ فمشاكل عمال المناجم ليست هي مشاكل العاملين في قطاع التعليم لهذا يبقى من الضروري وجود تعددية في النقابات لهذا من الضروري أن تمتلك المهن المختلفة منظمات خاصة بها. بيد أن هذه التعددية قد تؤثر بشكل ملحوظ في إضعاف الفعل النقابي لأنه يضعف قدرة نقابات العمال على التفاوض سواء مع أرباب العمل أو مع الحكومة. أما المتغير الثالث فيكمن في مسألة الانضباط الذي ينبغي أن يتقيد به النقابيون أثناء نشوب الصراعات وتطور مجرياتها عن نتائج مستوى الانضباط هي أيضا مسألة مبهمة حسب وجهة نظر مختلف الفر قاء ؛فالانضباط الضعيف يمكن أن يفضي إلى شل عمل النقابات إذا لم يحترم أعضاؤها على سبيل المثال تعليمات الإضراب أما الانضباط الحقيقي فإنه يسمح بالعكس بعقد اتقافيات صلبة ومحترمة بين كل الأطراف. ثالثا: المجتمع المدني يشير المجتمع المدني رأسا إلى عدد من المؤسسات والبنيات والأنساق الوسيطة التي تمنع عن الفرد/المواطن شطط السلطة، فهل نجد تمثلا تاما وواقعيا لهذا المعنى في فضائنا المجتمعي؟ وهل ما يتعالى ويتراقص في حقولنا السياسية والثقافية وفي مختلف واجهات النضال والفعل الإنساني يدل على الاتكاء المباشر على البعد المدني في الاشتغال والحضور؟ وهل ما يتناهى إلينا من حركيات وفعاليات يعكس المفهوم النبيل للمجتمع المدني الذي تصوره المثقفون العضويون؟ يعد مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم الحديثة النشأة في الثقافة السياسية ؛ وقد ارتبط تاريخ هذا المفهوم بتاريخ الحداثة الغربية خصوصا في مجالات السياسة ؛الثقافة والاجتماع ليعكس من خلال عملية توظيفية انتقالا حقيقيا من التاريخ الوسيط إلى التاريخ الحديث والحق أننا سنصاب بدهشة كبرى إذا نحن أردنا التدقيق في المدلول اللغوي لعبارة "المجتمع المدني" كما يمكن تحديد معناها في اللغة العربية، بالمقارنة مع ما تتحدد به في اللغات الأوربية! ذلك أن لفظ "مجتمع" صيغة ترد في اللغة العربية إما اسم مكان أو اسم زمان أو مصدرا ميميا، بمعنى أنها إما حدث بدون زمان، (اجتماع) وإما مكان أو زمان حصول هذا الحدث (مجتمع القوم : اجتماعهم، أو مكانه أو زمانه)، وبالتالي فهو لا يؤدي معنى اللفظ الأجنبي الذي نترجمه به société , society والذي يعني، أول ما يعني، عددا من الأفراد، يشكلون "مجموعة" أو "جماعة" بفعل رابطة ما تجمع بعضهم إلى بعض. أما لفظ "مدني" فهو يحيل، في اللغة العربية، إلى المدينة، إلى "الحاضرة" (قارن : بدو حضر، بادية مدينة). وبناء على ذلك يمكن القول، مع شيء من التجاوز، إن عبارة "المجتمع المدني" بالنسبة للغة العربية إنما تكتسب معناها من مقابلها الذي هو "المجتمع البدوي"، تماما كما فعل ابن خلدون حينما استعمل "الاجتماع الحضري" ومقابله "الاجتماع البدوي" كمفهومين إجرائيين في تحليل المجتمع العربي في عهد والعهود السابقة له (وأيضا اللاحقة). وبما أن القبيلة هي المكون الأساسي في البادية العربية ف "المجتمع المدني" سيصبح المقابل المختلف، إلى حد التضاد، ل "المجتمع القبلي". هذا في حين أن اللفظ الأجنبي civil الذي نترجمه ب "مدني"، في قولنا "مجتمع مدني"، يستبعد في الفكر الأوربي ثلاثة معان رئيسية هي بمثابة أضداد له: معنى "التوحش" (قارن عبارة ("الشعوب البدائية/ المتوحشة" في مقابل عبارة "الشعوب المتحضرة")، معنى "الإجرام" (قارن: "مدني" في مقابل "جنائي" في المحاكم)، معنى الانتماء إلى الجيش (قارن "مدني": في مقابل "عسكري")، ومعنى الانتماء إلى الدين (قارن: "التعاليم الدينية" في مقابل "القوانين المدنية"). وهكذا فعبارة "المجتمع المدني" في الفكر الأوربي هو، بناء على ذلك، مجتمع متحضر، لا سلطة فيه لا للعسكر ولا للكنيسة. وإذن فالفارق كبير بين مدلول عبارة "المجتمع المدني" داخل اللغة العربية، وبين مفهومها في الفكر الأوربي! إن إنشاء المجتمع المدني يرجع إلى العالم الحديث؛ فهو وحده الذي اعترف له بالحق في الوجود، بكل ما يحمله هذا التحديد من معنى؛ أما ارهاصاته الأولية فتعود إلى بروز النظريات الحقوقية للقرن17؛ والمتمثلة أساسا في نظرية التعاقد التي نادى بها طوماس هوبس معتبرا المجتمع المدني نوعا من الابتعاد عن حالة الفوضى والاتجاه نحو دعم الجانب المؤسساتي عبر عقد يربط الحاكم بالمحكوم بيد أن الغلبة تكون للحاكمين عن طريق قوة أجهزة الدولة. أما مع جاك روسو؛ فالمجتمع المدني عبر عن انتقال داخل النزعة الاجتماعية الطبيعية؛ وإن كان الإنسان الطبيعي في تصور روسو لم يكن طيبا ولا شريرا بل كان يمتلك فضيلة طبيعية تتجلى في الشفقة؛ غير أن دخول المجتمع الطبيعي في الملكية الخاصة" قبر المساواة الطبيعية" على حد تعبير روسو قد وضع حدا لحالة الطبيعة الأمر الذي أصبح يتطلب حالة من التنظيم والتعاقد حتى يستطيع المجتمع التحول من مجتمع الطبيعة إلى مجتمع الثقافة المواطنة. ومع بروز النظرية الماركسية سيخضع مفهوم المجتمع المدني إلى مسار فكري جديد فماركس أولاه منذ مرحلة مبكرة من حياته الفكرية عناية خاصة معتبرا المجتمع المدني هو مجموع المصالح الاقتصادية والسياسية للطبقة البورجوازية محدثا بذلك تغييرا في المفاهيم التي طبقها على الجدل الهيغلي الذي كان يمشي على رأسه- باعتباره جدلا مثاليا يكون العقل هو محرك التاريخ فأعاده إلى وضعه الطبيعي ليمشي على قدميه. إن وضعية العجز المميزة للمجتمع المدني في التصور الفلسفي الهيغلي قد رفضها ماركس بشدة مؤكدا في المقابل على أن المجتمع المدني هو تعبير عن تصورات موضوعية وواقعية هذا في الوقت الذي ذهب فيه غرامشي إلى القول جاء به غرامشي يتمثل في كيفية تصنيف المجتمع المدني، فالطابق الأول من البنية الفوقية الذي تمارس بداخله الطبقة السائدة الهيمنة الثقافية والايديولوجية هو المجتمع المدني أما المجتمع السياسي فيشكل الطابق الثاني من هذه البنية ويعتبر هذا الطابق بمثابة مجال خصب تمارس من خلاله الطبقة البورجوازية سيطرة سياسية مباشرة. إن الفكرة المركزية في تصور غرامشي تصب في كون المجتمع المدنى ليس ساحة للتنافس الاقتصادي، بل ساحة للتنافس الإيديولوجي منطلقا من التمييز بين السيطرة السياسية والهيمنة الايديولوجية؛فمع نضج العلاقات الرأسمالية في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث انقسم المجتمع إلى طبقات ذات مصالح متفاوتة أو متعارضة واحتدام الصراع الطبقي، كان لابد للرأسمالية (أي الطبقة السائدة) من بلورة آليات فعالة لإدارة هذا الصراع واحتوائه بما يضمن تحقيق مصالحها واستقرار المجتمع. ونجحت الرأسمالية الأوروبية بالفعل في أن تحقق هذا الهدف من خلال آليتين: آلية السيطرة المباشرة بواسطة جهاز الدولة، وآلية الهيمنة الأيديولوجية والثقافية من خلال منظمات اجتماعية غير حكومية يمارس فيها الأفراد نشاطاً تطوعياً لحل مشاكلهم الفئوية والاجتماعية وتحسين أوضاعهم الثقافية والاقتصادية والمعيشية.. الخ. وتأتى أهمية الآلية الثانية من أنها تؤكد استجابة مختلف الفئات الاجتماعية بقيم النظام الرأسمالى وقبولها لها وممارستها نشاطها للدفاع عن مصالحها في إطارها، وبذلك تتأكد قدرة الطبقة السائدة (الرأسمالية) على إدارة الصراع في المجتمع بما يدعم أسس النظام الرأسمالي وأيديولوجيته. ونتيجة لهذا التطور فنحن أمام ثلاثة مفاهيم مختلفة ولكنها في نفس الوقت متكاملة: المجتمع، المجتمع السياسي، المجتمع المدني. أما المجتمع فهو الإطار الأشمل الذي يحتوى البشر وينظم العلاقة بينهم في إطار اقتصادي؛ اجتماعي محدد تتطور من خلال علاقة فئاته ببعضها وصراعاتها في حين أن المجتمع السياسي هو مجتمع الدولة الذي يتكون من الدولة وأجهزتها والتنظيمات والأحزاب السياسية التي تسعى للسيطرة عليها أو الضغط عليها. بعد هذا التصور الذي جاء به غرامشي هل يمكننا القول بأنه حدث نوع من التغيير في تصور مفهوم المجتمع المدني؟ إن هناك شبه إجماع عند مفكري الاتجاه الليبرالي المعاصر حينما ينظرون إلى المجتمع المدني باعتباره مجموع المؤسسات الاجتماعية؛ الثقافية؛التربوية؛ الاعلامية التي تنتظم ضمنها مصالح وحساسيات فئات اجتماعية مختلفة كالعمال؛ المهنيين؛ الجمعيات الحقوقية مما سيجعل المجتمع المدني إطارا منفتحا يضم بين جنباته حقلا سياسيا شموليا ناقلا لكل التوترات والارادات ومختلف الارهاصات والمطالب دون أدنى تمييز مادامت هذه المطالب لا تطرح نفسها كبديل للمجتمع السياسي بل إنها صمام أمانه وعنصره التكميلي لكون مطالب النخبة السياسية الحاكمة أو المعارضة تستند بشكل كبير في وجودها على الدعاية والاقتباس من مطالب ورغبات المجتمع المدني؛ فهناك نوع من التكامل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي دون أن يعني ذلك المس باستقلالية أحدهما عن الآخر؛ فيبقى السير المثالي لعملية التواصل بين المجتمعين متوقف بالدرجة الأولى على منح أفراد المجتمع قسطا وافرا من الاستقلالية حتى يتمكنوا من التعبير عن مطالبهم ورغباتهم؛ فالمسألة متعلقة بخلق مناخ تسوده الديمقراطية لأننا سواء نظرنا إلى المجتمع المدني كمفهوم في حقل التداول الفلسفي أو السياسي أو في تبلور مكوناته على أرض الواقع فإنه يظل مجرد تصور مادام بعيدا عن أصول الديمقراطية؛ فلا حديث عن المجتمع المدني في غياب منهجية ديمقراطية واضحة المعالم؛ فالوظائف المركزية للمجتمع المدني تكمن في أهداف محددة كضرورة تقليص الهوة بين الفقراء والأغنياء، الدفاع عن مصالح مهنة أو حرفة معينة…هذا الهدف محدد تنشأ له مؤسسات خاصة تعمل بأساليب معينة( نوادي، جمعيات اجتماعية) طبعا هذه المؤسسات لا تتبنى منظورا إيديولوجيا محددا رغم أنها تعرف وبعض أفادها قد يعرفون أن الرأسمالية أبعد من الاشتراكية في تقليص الهوة بين الفقراء والأغنياء ولكن يعرف في نفس الوقت أن الرأسمالية لمنظور متفتح على المجال الاجتماعي يمكن أن تقلص من الهوة ولو بشكل أقل راديكالية كما هو معمول به في الايديولوجيات الاشتراكية لكن على الأقل المنظور الرأسمالي يمكن أن يحفظ حرية المبادرة والتحرك إن المجتمع المدنى هم مجموع الأفراد والهيئات غير الرسمية بصفتها عناصر فاعلة في معظم المجالات التربوية ؛الاقتصادية؛ العائلية؛الصحية ؛الثقافية والخيرية وغيرها، فهو يتكون من الهيئات التي تسمى في علم الاجتماع بالمؤسسات الثانوية مثل الجمعيات الأهلية والنقابات العمالية والمهنية وشركات الأعمال والغرف التجارية والصناعية وما شابهها من المؤسسات التطوعية. والمقصود بالدعوة للمجتمع المدني هو تمكين هذه المؤسسات من تحمل مسئولية أكبر في إدارة شؤون المجتمع كي يصبح مداراً ذاتياً إلى حد بعيد. وهكذا يستبعد من المفهوم المؤسسات الاجتماعية الأولية كالأسرة والقبيلة والعشيرة والطائفة الإثنية أو المذهبية أو الدينية؛ مثلما يستبعد منه المؤسسات السياسية والحكومية، ويبقى بذلك في نطاق المجتمع المدني المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي يقوم نشاطها على العمل التطوعي. ويبدو أن فكرة المجتمع المدني كما تكلم عنها الكسيس دو توكوكفيل منذ قرنين في عمله الشهير "الديمقراطية في أمريكا" أصابها بمرور الزمن نوع من التراجع نتيجة لتغير الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية؛ فقد كان دوتوكوفيل ينظر إلى المجتمع المدني على أساس مشاركة المواطنين بطرقة فعالة في تكوين جماعات طوعية تهدف إلى تحقيق الصالح العام ليخبو الحديث عن هذا المفهوم لكنه سيعود من جديد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ليزداد حضورا مع بداية عقد التسعينيات بفعل طغيان المد الديمقراطي وانحباس الأنظمة الشمولية المتعارضة مع المجتمع المدني إلى جانب فقدان الثقة في المجتمع السياسي حتى داخل الأنظمة الديمقراطية ناهيك عن تحول مركز القرار السياسي الذي انتقل من يد الفاعل السياسي إلى الفاعل الاقتصادي بفعل طغيان الشركات العابرة للقارات والاستغلال الممنهج للشعوب الفقيرة دون أن ننسى الدور الفعال الذي تقدمه الثورة المعلوماتية في بلورة مفهوم المجتمع المدني ليبرز المجتمع المدني كأداة للتجديد الاجتماعي ليضم المجتمع المدني كل التنظيمات والمؤسسات المستقلة عن الدولة مما يدل على مدى اتساع وتنوع الأنشطة والخدمات التي يقوم بها المجتمع المدني والدور الذي يؤديه للارتقاء بأعضاء المجتمع كما أن أنشطة المجتمع المدني أنشطة تطوعية تختلف اختلافا مركزيا عن أنشطة الحكومات كما أنها تختلف عن الأنشطة الاقتصادية والمالية المتعلقة بأخلاقيات السوق لأنها تبحث وراء الصالح العام وليس وراء الربح المادي لذلك كثيرا ما أمسى يعرف المجتمع المدني بالقطاع الثالث. وبصرف النظر عما يعتري بعض المنظمات غير الحكومية وبعض مؤسسات المجتمع المدني من قصور وانحراف عن الهدف فإن الدعوة إلى تقوية هذا المجتمع تلقى كثيرا من الترحيب ليس فقط من جماهير الشعب ولكن أيضا من بعض المؤسسات الدولية بل وكذلك من بعض الشركات الكبرى؛ فالبنك الدولي على سبيل المثال لا الحصر خلق مجموعة العمل الخاصة بالجمعيات التطوعية من شانها أن تعيد النظر في تقييم الدور الذي تضطلع به هذه الجمعيات باعتبارها احدى قنوات العمل التي تقوم بتنفيذ رسالة المجتمع المدني في كثير من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية التي قد تعجز الدولة عن القيام بها على الوجه الأكمل كما طلب البنك الدولي من تلك المجموعة دراسة أفضل الطرق لتطوير العلاقة بين البنك والمجتمع المدني مع تحديد الدور المستقبلي الذي يمكن أن يقوم به البنك في مجال التعاون مع المؤسسات والمنظمات غير الحكومية وخطوات تنفيذ هذا التعاون. في نفس الاتجاه سوف يبرز كتاب جدد من ابرزهم ديفيد اوزبورن وتيد جابلر:" إعادة اختراع أمريكا حيث أشار الكاتبين على ضرورة أن يعمل الجهاز الحكومي على تشجيع الشراكة مع المنظمات اللاحكومية في مجال الخدمات المختلفة بدلا من أن تتولى هذه المهمة البيروقراطيات الحكومية العاجزة وهذا مادفع بيتر دروكر إلى المناداة بضرورة قيام قطاه اجتماعي جديد ومستقل وقائم بذاته مكون من منظمات المجتمع المدني. إن السؤال المركزي هنا هو: ما هي طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي؟ ليس هناك تعارض مطلق بين المجتمع المدني والدولة، فلا يمكن قيام مجتمع مدني قوي في ظل دولة ضعيفة بل هما مكونان متكاملان يميز بينهما توزيع الأدوار وليس الانفصال الكامل؛ فالمجتمع المدني يتموقع في الفرق الموجود بين الأسرة والدولة؛ فتكونه يأتي في فترة لاحقة عن الدولة التي تسبقه كواقع مستقبل حتى يتمكن من البقاء. لذلك يبقى المجتمع المدني محصورا في مجموع المؤسسات الاجتماعية كالأسرة ؛ المدرسة والكنيسة أي كل المؤسسات التربوية والتي يقابلها المجتمع السياسي المختص في وظائف الإكراه والسيطرة والتحكم. إن العلاقة بين المجتمع والدولة ليست دائما علاقة متوازية أو منسقة أو منسجمة فمفهوم المجتمع كبشر متفاعلين تربطهم شبكة من العلاقات المعنوية والمصالح المادية ويشتركون في ثقافة عامة واحدة يقترب إن لم يتماثل مع مفهوم الأمة وبالتالي قد تمثلهم الدولة اولا تمثلهم وقد تكون تعبيرا كاملا أو منقوصا عن شبكة هذه العلاقات والمصالح وو,,…… وكلما كانت السلطة السياسية قادرة على أداء هذه الوظائف غير الردعية كلما كان لجوؤها إلى ممارسة الوظيفة الردعية في الداخل محدودا أو غير محسوس بواسطة أفراد المجتمع وتكويناته وفي حالتها المثلى كلما قامت هذه السلطة بالتنظيم والتقنين والتوزيع العادل لكل ما له صفة الندرة في المجتمع وكلما كانت قادرة على الاشباع المباشر آو غير المباشر للحاجات المادية وللروحية والرمزية لأغلبية أفراد هذا المجتمع كلما تقلص لجوؤها لآليات الردع والقهر ؛ أو بتعبير آخر كلما زادت شرعيتها أي قبول المجتمع لها والاستجابة لها والامتثال لأوامرها ونواهيها والعكس صحيح وليس المقصود بالمجتمع المدني إيجاد معارضة سياسية في مواجهة الدولة إذ أن فاعلية المجتمع المدني بكل تكويناته تنضوي على أهداف أوسع من مجرد المعارضة إنها المشاركة بمعناها الواسع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا أي بالتحديد فان وظيفة المجتمع المدني هي وظيفة تسييرية شاملة في المجتمع ككل وليس بالضرورة أن يكون هناك عداء أو تناقض بين الدولة والمجتمع المدني