من أجل أن تلعب الأحزاب السياسية أدوارها الدستورية المتمثلة في تأطير وتكوين المواطنين وتمثيلهم سياسيا، كان لزاما على هذه المؤسسات الدستورية من هياكل مؤسساتية سواء على المستوى المركزي: أمانة عامة، مكتب سياسي، لجنة مركزية، أو على المستوى اللامركزي: تنسيقيات محلية أو إقليمية أو جهوية، تفتيشيات، أو فروع؛ غير أنه لا بد من إبراز فلسفة التنظيم الحزبي الذي يتوخى من هذه الهياكل أن يضبط قيمة الفرد أو المنخرط كوحدة أولية أحدث من أجلها التنظيم الهيكلي للحزب كمؤسسة من جهة ومن جهة أخرى تبرز أهمية الانضباط الحزبي المحكم سواء كان محليا أو مركزيا؛ لكن مسألة التوفيق بين المفهومين تظل من أكثر المسائل صعوبة، وذلك بالنظر للإكراهات التي يطرحها كل مفهوم؛ فبالنسبة لسياق المفهوم الأول لا بد من التأكيد على أن للأفراد قدرات وطاقات تحركها طموحات في داخلهم، تترجم إلى أفعال وأقوال وتحركات وتوقعات تكتسب شرعيتها متى كانت تصب في مصلحة الحزب وتعبر عن إخلاص في القول والعمل من قبل منخرطي الحزب. وحتى يتحقق ذلك التوافق بين قيمة المنخرط وحقوقه المشروعة داخل التنظيم، كان لا بد من الاعتراف بقدراته من خلال خلق بيئة حزبية تستوعب احتياجاته ولا تحد من طاقاته تساهم في وحدة الصف الداخلي للحزب أفرادا وتنظيما، تساهم في خلق تصور لدى الرأي العام على صورة الحزب المتماسك والقوي، وهذا بخلاف لو كان الحزب ضعيفا مشتتا يعطي الانطباع على أنه مؤسسة متفككة ومتصدعة من الداخل. أما الانضباط الحزبي المحكم والذي يعد شرطا ضروريا لاستمرارية العمل وتطوره، فإنه يتطلب وحدة تنظيمية متماسكة، وتوافقا جماعيا على مختلف مستوياته، انطلاقا من آليات صنع القرار ورسم السياسات العامة وتقدير الجهود المبذولة من كل مناضلي الحزب؛ غير أنه لا يجب أن يفهم من الانضباط الحزبي غياب الاختلاف والتباين في الرؤى والمواقف، وأنه يؤسس لحرمة الانتقاد لمنهج المؤسسة وسياساتها وقراراتها لقيادتها، بل على العكس من ذلك فإن الانضباط يعزز حق الاختلاف وإبداء الرأي ويرسخ ثقافة احترام الآخرين، غير أنه يخضعها لضوابط وقنوات محددة، كما يعمل مجازا على تقنين الاختلاف وعملية الانتقاد، عن طريق وضع صيغة محكمة توضح حقوق ومسؤولية الأعضاء المنتسبين للحزب وكذا التزاماتهم تجاهه، وما يترتب على خروجهم عليه من مسائلات ومحاسبات تتناسب وحجم الإساءة الأدبية أو المعنوية في حق الحزب؛ من هنا جاءت مسألة لها علاقة بالانضباط المتعلقة بالهامش المتاح للأعضاء بالاختلاف مع القرارات العليا عموديا أو أفقيا فيما يخص الشأن الداخلي للحزب، أو فيما يخص الشأن السياسي العام من مثل قضايا التحالفات مع القوى الأخرى أو إقرار المشاريع والبرامج في المؤسسات التشريعية والتنفيذية، لذا كانت الديمقراطية كفيلة بحل مثل هذه الإشكالات؛ أما مسألة الانضباط السياسي فهي ذات علاقة وطيدة بالانضباط الحزبي، فإذا كانت الأولى تحقق الولاء للتنظيم وللتسلسل الإداري المؤسسي، فإن الثاني يحقق الولاء للخط الفكري والايديولوجي للمؤسسة، من خلال مدى تمثل المناضلين لأهم مبادئ الحزب ومدى جاهزيتهم واستعدادهم للدفاع عنها في الملتقيات الفكرية والإذاعية والحوارات الصحفية واللقاءات المفتوحة، وهو ما يطرح أهمية التأطير المتواصل من خلال تفعيل آليات التواصل الدائم بين هياكل الحزب أفقيا وعموديا قادرة على جعل المعلومة تنتقل بين جميع مسؤولي الحزب، دون الدخول في الكولسة وممارسات كثيرا ما تأثرت بها الأحزاب السياسية في السابق من خلال الخطاب المزدوج، إذ نجدها كانت تنتهج خطابا معينا مع النظام وحين تكون مع قواعدها تنهج خطابا مغايرا مع القواعد، وهي الممارسات التي أدخلتها في مأزق الانشقاق وظهور التيارات التصحيحية.