أولا، نحن نعتبر أنه في ما يتعلق بقضايا شعب، لا يمكن أن نتحدث عن سبق، يمكن أن يكون ذلك على مستوى المعلومة فقط، وأنا قناعتي منذ زمن أنه لا يمكن خوصصة القضايا العادلة للشعب المغربي، لا قضية الإسلام ولا قضية الأمازيغية ولا قضية الغازات السامة، ومن حق كل الفاعلين، سواء كانوا حكوميين أو غير حكوميين، أن يتناولوا هذا الموضوع ويدافعوا عنه، ومصطفى المنصوري بصفته فاعلا سياسيا من حقه ذلك، فالجيل الأول، الذي كنت أنا منه والذي كان سباقا إلى إثارة هذا الموضوع، اليوم حقق مبتغاه، وتحولت هذه القضية من قضية نخبة ومن قضية مجموعة إلى قضية عامة للشعب المغربي. - لكن التوقيت السياسي لتصريحات المنصوري يثير عدة تكهنات، فهل يكون قد أراد توظيف هذا الملف في منطقة الريف التي ينتمي إليها، بسبب قرب الاستحقاقات الانتخابية كنوع من المغازلة السياسية؟ لا يمكنني الإجابة نيابة عن مصطفى المنصوري رغم احترامي له، أولا كابن المنطقة التي أنتمي إليها، وثانيا كفاعل سياسي. أنا لا أربط هذا الموضوع بلحظات معينة، والذي يريد أن يربط القضايا العادلة للشعب المغربي بلحظات سياسية معينة، سواء كان إلياس العماري أو شخصا آخر، سيكون مآله الفشل. ويمكنني القول، كمتتبع وكفاعل مساهم بسيط في هذا الموضوع، بخصوص إثارة هذا الموضوع، إنها جيدة، ولا يجب أن ترتبط بلحظات، سواء بوحدة سياسية داخلية أو بوحدة سياسية خارجية. - في رأيك، لماذا السكوت الرسمي للدولة منذ أن أثير هذا الملف لأول مرة، قبل أكثر من عشر سنوات على الأقل؟ هذا الملف تمت إثارته على المستوى الوطني في يناير 1990، بعد ترجمة الكتاب المنشور في ألمانيا، الذي يتناول استعمال الأسلحة الكيميائية في مواجهة المقاومة، إذن اليوم مرت 19 سنة بعد إثارتنا لهذا الموضوع، ربما كانت للدولة المغربية حساباتها الخاصة، أو ربما كانت قد تعاملت مع الموضوع بحساسية سياسية زائدة، فمازلت أتذكر أنه منذ سنة 1996 إلى غاية 2000، منعنا وحرمنا في بلدنا من التطرق لهذا الموضوع، بل إن وزارة الداخلية منعتنا من عقد ندوات حوله، وأكيد أن ذلك راجع إلى كون المغرب كان يعيش وضعا خاصا، الآن يعيش وضعا آخر، وأنا لا أعني بهذا القول أن المغرب أصبح مجتمع الحرية، لا أبدا، وإنما أن هامش الحرية في الرأي والتعبير والكتابة أصبح فيه أكبر مما كان عليه في السابق، إذن على الرأي العام أن يجعل من هذه القضية قضيته الأساسية، وأكيد أن الدولة سوف تنكشف، لأن أي دولة في العالم لا تدافع عن القضايا العادلة لشعبها لا يمكن أن تكون ممثلة لهذا الشعب. -أنت تقول إن هذا الملف غير قابل للمزايدة السياسية، هل هذا نوع من النقد الذاتي تقوم به، لأن البعض يقول إن إلياس العماري وظف هذا الملف وأثاره في مناسبات سابقة لحسابات سياسية، مثلا خلال أزمة جزيرة ليلى مع إسبانيا وخلال زيارة الملك خوان كارلوس لسبتة ومليلية المحتلتين؟ أبدا، لم يسجل علي يوما، منذ 1995، في هذا الملف أنني وظفته خلال أزمة أو ما يسمى بالأزمات العادية ما بين المغرب وإسبانيا. في أزمة جزيرة ليلي لم أثر هذا الموضوع، كنت أثرته علنيا في مرحلة معينة إبان زيارة رئيس الوزراء الإسباني السابق أزنار للمغرب واستقباله من طرف جلالة الملك بمراكش، حيث وجهت إليه رسالة مفتوحة، وكان ذلك ربما عام 2002 قبل قضية جزيرة ليلى بقليل، وأرسلت إليه رسالة مفتوحة، باسم الجمعية التي أنا عضو بها، خاطبنا فيها الضمير الإنساني، كما خاطبنا فيها ضمير الشعب الإسباني، قائلين: السيد الوزير الأول وأنت في طريقك إلى مراكش عبر طنجة وتطوان وشمال المغرب بكامله، أنظر إلى الأرض كم هي قاحلة تحتك، وانظر إلى الموت. - كانت جمعيتكم أول من أثار موضوع الغازات في البرلمان الكاطالاني، ماذا كانت النتيجة؟ كان معظم البرلمانيين الذين أثاروا الموضوع آنذاك من الحزب اليساري الجمهوري الكاطالاني، وقد فعلوا ذلك بحكم علاقتهم بنا وأنتم تعرفون المشاكل التي تعرفها كاطالانيا مع الدولة المركزية في مدريد، فتقدموا بمشروع قانون حول استعمال الغازات السامة والحرب الأهلية، ونوقش الموضوع داخل لجنة القوانين في البرلمان الإسباني بمدريد، وتم التصويت حول الموضوع. ولأول مرة في إسبانيا، وهذا هو العجيب، اتفق اليمين واليسار على موقف واحد يعارض المشروع الموضوع، ولدي التسجيل الكامل بالصوت والصورة للنقاش الذي حصل داخل اللجنة، وسأمكن جريدتكم منه. - ما الذي حصل فيما بعد من تداعيات؟ أنا أقول الآن إن موضوع الغازات السامة يجب أن ينتقل من إطار النشطاء إلى العلماء، وأنا لست بعالم لا في القانون ولا في البيئة ولا في الطب، أنا تعاطيت مع الموضوع بصحبة رفاقي الآخرين من زاوية مدنية، من أجل إثارة انتباه الرأي العام الوطني والدولي، ومن أجل مخاطبة الضمير الإنساني لدى الرأي العام الدولي، وأقول إننا نجحنا في إثارة هذا الموضوع على مستوى المغرب، بل حتى على مستوى إسبانيا، لينتقل من الشارع إلى البرلمان، لأنه أصبح موضوع رأي عام. والآن ومن أجل إقناع الآخرين، من الضروري أن ننتقل من التسييس إلى البحث الأكاديمي. واسمح لي أن أقول في هذه القضية العادلة للشعب المغربي إنه يجب على علماء المغرب والمؤرخين ورجالات القانون أن يؤكدوا على أربع نقط: أولا، علاقة داء السرطان الموجود بكثرة في منطقة الشمال المغربي باستعمال الغازات السامة، ثانيا، المواقع القاحلة التي لا تنبت في الشمال وعلاقتها بالغازات السامة، وهذا من اختصاص علماء الأرض، ثالثا، اتفاقية جنيف وعلاقتها باستعمال إسبانيا وحلفائها للغازات السامة. أي موقف القانون الدولي الإنساني، ورابعا السياق التاريخي الذي استعملت فيه الغازات السامة، هل عندنا ما يكفي من الوثائق التي تثبت استعمالها؟ أنا أتساءل رغم أنني مقتنع علميا وتاريخيا، بما لدي من وثائق، بأن استعمال الغازات قد تم فعلا، وأنا حصلت على مذكرة لعبد الكريم الخطابي مكتوبة بخط يديه، يتحدث فيها سنة 1925 عن استعمال الغازات السامة، وهناك وثيقة هي أيضا لعبد الكريم الخطابي وكتب أخرى تشير إلى ذلك. - نعم هذا على المستوى النظري، عمليا هل هناك من أدلة علمية تثبت ذلك، فإسبانيا تقول إن الجمعيات التي تتحدث عن هذا الموضوع ليست لديها أدلة علمية. الدليل العلمي موجود حول علاقة تفشي داء السرطان بكثرة في شمال المغرب باستعمال الغازات السامة. اليوم بعد حربي العراق الأولى والثانية، جميع الدراسات العلمية الموجودة في بريطانيا أو في ألمانيا أو في أمريكا أو في بلدان أخرى، حول التشوهات الخلقية الموجودة وانتشار مرض السرطان بين الأطفال، أكدت استعمال الأسلحة الكيماوية أثبتت علميا أن مرض السرطان أصبح وراثيا بسبب ذلك. - رئيس مجلس النواب أيضا يقول إن لديه وثائق وشهودا، هل يتعلق الأمر بمعطيات حصلتم عليها انتم أم إن الأمر يتعلق بمعطيات أخرى، وهل تم التنسيق بينكم؟ أقول ربما لدى رئيس مجلس النواب بصفته مسؤولا له علاقات كبيرة في العالم وباعتباره شخصية وازنة في البلد وخارج البلد معطيات غير متوفرة لدينا. -إذن، لم يتم التنسيق بينكم، ولم يطلب معطيات منكم؟ أبدا، لكن في التجربة البرلمانية لسنة 1997 كاتبنا جميع الفرق البرلمانية، وكاتبنا جميع برلمانيي منطقة الشمال لطرح السؤال أمام البرلمان، فطرحه برلماني واحد، أفضل عدم ذكر اسمه لأن الانتخابات على الأبواب. -أيعني هذا أنه لم يكن هناك تجاوب؟ كاتبنا، كجمعية، جميع الفرق البرلمانية وجميع برلمانيي الشمال لطرح السؤال، وأقول لك إن الأمور تقدمت لأن الجميع أصبح يتكلم عنها، وعقدت ندوة في الناظور من تنظيم جريدة العالم الأمازيغي، وحضرها برلمانيون. - يقال إن إسبانيا تتخوف من الاعتذار، ولا تريد أن تفتح الباب لمزيد من المطالب، كالاعتذار عن الاحتلال أو الاستعمار لأن ذلك قد يؤدي إلى طرح موضوع سبتة ومليلية المحتلتين؟ الحقوق التاريخية ليست فيها خطوط حمراء، الاعتذار آت وهو مسألة وقت، واليوم أود من الحكومة الحالية أن تمتلك الشجاعة السياسية للاعتذار الذي فيه مصلحة لشعبها قبل أن تكون لنا نحن، فنحن ليست بيننا وبين إسبانيا علاقات دموية في الحرب فقط بقدر ما عندنا تاريخ مشترك، فيه جوانب حضارية وثقافية، فهم الآن في الأندلس، وهي حضارة مغربية بامتياز، فشمال المغرب فيه جزء من الحضارة الإسبانية بامتياز، كما هي موجودة في فاس وفي مكناس وفي سلا مع الموريسكيين. إذن، من أجل بناء حضارة مشتركة، ولكي نتقدم بشعوبنا إلى الأمام، يجب أن نحل النقط السوداء في هذا التاريخ. حاوره: إدريس الكنبوري - جريدة المساء