كثيرا ما نمر بأماكن لا دليل ولا معنى لها بالنسبة للمار منها، لكن لو توقف هنيهة وتساءل عمن سبقه ومر من ذلك المكان، أو عمن عاش ومات فيه… لا شك أنه سيغير نظرته للمكان الذي توقف فيه. كم من مرة دارت في ذهني أحداث قديمة رواها التاريخ وأنا أمر بالشارع الرئيسي الذي يقطع مدينة المضيق في اتجاه تطوان أو في اتجاه سبتة، وهذا الشارع هو المسلك الوحيد والعادي، منذ القدم، للتوجه من سبتة الى تطوان أو من تطوان الى سبتة؛ وغيره من المسالك البديلة كلها وعرة وأكاد أجزم أن لا خيار لمن أراد الانتقال بين المدينتين المذكورتين من المرور حتما من الشارع المذكور. فمن هذا الشارع أتصور مرور طارق بن زياد بجيشه متوجها إلى سبتة للعبور بعد ذلك إلى الأندلس؛ ومنه كان يمر البرتغاليون القاصدون تطوان لغزوها كرد فعل على هجمات المجاهدين ضد المسيحيين المحتلين سبتة منذ القرن الخامس عشر، كما تحكي كتب التاريخ البرتغالية؛ ومنه كان يمر كل الموريسكيين المطرودين والفارين والنازحين من إسبانيا قاصدين تطوان؛ ومنه مر السلطان مولاي اليزيد متوجها الى سبتة لمحاصرتها، بعد ما قضى الليلة في المضيق حسب ما رواه لنا الضعيف الرباطي؛ ومنه مرت عساكر إسبانيا في توجهها الى تطوان لغزوها سنة 1860 بعد أن لقيت مقاومة شرسة في هذا المكان بالذات حسب اعتراف ألاركون في يوميات شاهد على حرب إفريقيا. دوار المضيق للرسام الكطلاني مريانو فورتوني اِ مرسال الذي رافق الجيوش الإسبانية في حرب تطوان سنة 1860، ويمكن ملاحظة الطريق المؤدية الى تطوان وهي لم تغير مكانها الحالي. لقد استطعنا أن نميط اللثام عن هوية هذه اللوحة التي كانت مجهولة ونسندها الى المكان الذي تمثله بعدما كانت تعرف فقط بالعنوان العام: يوم صيف في المغرب نعم، يجب استنطاق هذا المسلك كي يبوح لنا بكل ما لم يقله؛ وما لم يقله كثير وكثير، فلا تستصغروا ما يضمره هذا الشاهد الصامت من ذكريات كلنا نتطلع الى معرفتها معرفة حقيقية وملموسة. إن رغبتي الحالية هي الكلام عن رحلة كان انطلاقها من الشرق المغربي، ومن قبيلة بقيوة الريفية بالضبط، فنادرا ما يعرف أهل الريف وحتى أهل المَضِيق عفوا وليس المَضْيَق ما أنا بصدد حكايته هنا، وهي رحلة لا تفصلها عن بلوغها القرن سوى سنتين، لهذا أستغل هذا المنبر لأدعو من الآن كلا المنطقتين للتفكير في إحياء هذا الحدث الذي يجهله أبناء المدينتين جهلا يكاد يكون مطبقا. إن هذه الرحلة أو الهجرة لم تتخذ المسالك البرية لانعدامها آنئذ، لذلك توجهت نحو البحر، وعرفت نهاية مطافها في شواطئ هذا المكان المحاذي للبحر. المضيق في بداية القرن العشرين، يمكن ملاحظة الطريق الرابطة بين سبتةوتطوان وهي نفسها البادية في لوحة فورتوني من الجهة المعاكسة، كما تبدو بناية في الجانب الشمالي قد تكون هي البرج المرسوم في لوحة فورتوني وهذه الهجرة الجماعية أتت نتيجة ما عرفته قبيلة بقيوة سنة 1925 من هجوم شرس عليها من قبل الإسبانيين وبمساعدة الفرنسيين، باستعمال الغازات السامة المحضورة قانونيا، وقد كانت الهجومات تحدث بالخصوص على المناطق الشاطئية المجاورة لمدينة الحسيمة الحالية، مثل إزمورن وحد الرواضي وثفنس… الخ. وذلك بعدما عجز الغزاة على إيقاف المقاومة التي كانت تتصدى لهم وتَحُول دون منحهم المجال للثأر بعد الهزيمة النكراء التي حصدوها في معركة أنوال سنة 1921. لقد قاوم الأهالي بكل ما ملكوا من قوة وواجهوا العدو بعزيمة صلبة لا تلين، غير أن مفعول السلاح الكيميائي الذي كان يمنعهم من حرث أرضهم ورعي مشيتهم ومزاولة كل أنشطتهم الحياتية العادية، أرغمهم على الفرار من الجحيم الذي فرضته عليهم القوات الإسبانية المسانَدة من قبل الفرنسيين وغيرهم. الأرض الخالية التي بنيت عليها الحسيمة ابتداء من سنة 1925 ففي هذا الجو الجهنمي، توجه الأهالي إلى البحر للهروب، ربما نحو المجهول، بحيث كان البحر هو السبيل الوحيد لوضع الأطفال والنساء والشيوخ في مأمن من شر الغزاة. في هذا السياق امتطت والدتي رحمها الله قاربا من القوارب وهي في بطن أمها رفقة مجموعة من ساكنة قريتها في اتجاه الغرب، لا أدري إن كان لهؤلاء الفارين آنئذ فكرة عن الوجهة التي كانوا يريدون قصدها أم أن نهاية المطاف أتت صدفة. إنزال الجيوش الإسبانية في شاطئ كيمادو سنة 1925 إن كل ما نعرفه الآن هو أن المضيق ونواحيه تحول إلى ملجإ قبيلة بقيوة التي احتضنها عن بكرة أبيها وأصبح امتدادا بقيويا بدون منازع، سيعرف من الآن فصاعدا حركية إنسانية بينه وبين الحسيمة. في المضيق ستولد والدتي سنة 1926 وفيه ستقضي جزءا من طفولتها قبل أن تنتقل إلى تطوان التي ستعيش فيها بضع سنوات قبل أن تعود نهائيا إلى إزمورن بعد ما تغيرت الأمور. لكن لم يرافق والدتي إخوانها وأخواتها الذين ماتوا كلهم بأمراض لم يستطيعوا معرفتها، فعادت وحيدة رفقة أمها فقط. وفي سنة 1958 حدثت ظروف وجد والدي رحمه الله، الذي كان موظفا في البريد، نفسه مرغما على طلب الانتقال من الحسيمة. لاكن والدتي رفضت أن تستبدل الحسيمة بغيرها من المدن المقترحة على والدي للانتقال إليها، وكان المضيق، مسقط رأسها، هو المكان الوحيد الذي قبلت الانتقال إليه وهو المكان الذي كان بإمكانه أن يخفف عليها ألم الشعور بالاجتثاث من الحسيمة، وهو الشعور الذي كان يغمر كل أفراد الأسرة. ففي المضيق استطاعت والدتي أن تحيي صلة الوصل بالعديد ممن هاجروا معها سنة 1925 واستمروا بالمضيق دون الرجوع إلى إزمورن. الحسيمة سنة 1952