من غرائب الصدف التي عشتها قبل أيام، حين كنت أحاور ابني يوسف البالغ من العمر 11 سنة تقريبا، حين قال لي بأنه قد ركب كل أنواع وسائل النقل الموجودة، إلا القطار، فإنه لم يستقله بعد، وأنه يرغب في أن يحقق حلمه في أن يركب القطار ويتجول بين قاطراته وغرفه، كما يراها في الأفلام والبرامج الوثائقية، وكان ذلك حين كنت أتابع برنامجا على قناة فرنسية أدمن عليها كثيرا: « des trains pas comme les autres »... استفزني الحلم كثيرا، فزفرت بحسرة على براءة حلم، كنت أنا بدوري قد سبق لي وأن حلكت به لمدة فاقت العشرين سنة. كان حلمي أن أركب قطارا، وجاء حبي لهذا النوع من وسائل النقل بشغفي وحبي لمشاهد أفلام الويسترن، التي كانت تبث على القنوات الإسبانية بعد زوال يوم السبت، حين كانت القنوات المغربية لا تجد إلى منازلنا سبيلا، نظرا لغيابها، أو لعدم فهم الناس ما كانت تقدمه القناة الأولى المغربية التي كانت تبدأ برامجها في حدود السادسة مساء، وتبدأ بالقرآن والنشيد الوطني، وبعض الرسوم المتحركة التي كان بعض الكبار يتابعونها خصوصا "غريندايزر" التي كنا نشاهدها في المقاهي، نتابعها من خارج المقهى، بعد أن كنا نصطف ونقبض على شباك النافذة ونحن نقف على بعض الحجارة التي تساعدنا على ربح بعض الطول لكي نتمكن من متابعة ما يبث على الشاشة بالأبيض والأسود. بقي حلم أن أرى القطار يراودني، إلى أن بلغت من العمر 21 سنة، حين سافرت لأول إلى الرباط مرغما لكي أحصل على شهادة الإعفاء من التجنيد، الشهادة التي كانت ضرورية لكي تلج سلك التعليم. حين وصلنا إلى محطة "القامرة" بالرباط، وبعد أن مضت بضع الساعات، سمعت صوت صفير قادم، وكنت قريبا من قنطرة، تسمرت في مكاني، وبدأت أنتظر وصول القطار الذي لم يكن ينفث دخانه كما أعرف، ولم يكن بالأبيض والأسود، بل كان أصفرا ببعض اللون البرتقالي، أمسكت بكل قوة على قضيب حديدي كنت أستند عليه، بدأت أتابع بفرح طفولي مرور القطار من تحتي، حيث كنت واقفا على قنطرة صغيرة، بقيت أمتع ناظري بهذا المخلوق العجيب، حين مر من جهة، اتجهت صوب الجهة الأخرى التي اتجه إليها، وأنا أتابع اختفاءه وسط ضجيج ارتطام الحديد بالحديد... لقد رأيت القطار بأم عيني، "حشي ذيني"، كانت فرحتي لا توصف، لكنها سرعان ما اصطدمت بواقع مرير تحاصره أسئلة ظلت تراودني منذ الصغر، لماذا لا نتوفر على قطار في مدينة الحسيمة، لماذا لم يتم ربط الحسيمة بشبكة القطارات المغربية؟؟ هل هؤلاء مغاربة ونحن لاء؟ هل هذا مغرب آخر، ونحن نعيش في مغرب آخر؟ هل لا نستحق نحن أيضا أن نستفيد مما نراه هنا بالرباط في كل مرة نقوم بزيارة العاصمة، وكأننا جئنا من كوكب آخر؟؟ تأملت ابني يوسف وهو يعيد نفس الحلم، بعد أن سرد علي كل وسائل النقل التي استقلها، فوجد رصيده خاويا من القطار، هذا اللعين الذي أقسموا على أن يبقى بعيدا عن أعين أطفالنا ويصبح حلما من أحلامنا.. قد يبدو الحلم غريبا وتافها في نظر أهل الرباط والنواحي، في نظر أهل المغرب النافع، لكننا ندرك في كل مرة بأن الأحلام هي أيضا تنتقل بين أجيال الريف متعاقبة، تنتقل بنفس عفويتها وبراءتها.. حينئذ أدركت باليقين أن لا شيء تغير وأنه لن يتغير شيء دون أن يتمكن أطفالنا من رؤية القطار هنا بالحسيمة بدل أن يزور الرباط أو أية مدينة أخرى بالمغرب الحبيب لكي يراه..