عانت «بيتي باتول»، البلجيكية من أصل مغربي آلاما كثيرة منذ طفولتها، وصادفت حياتها العديد من الصعاب منذ أن كانت نطفة في بطن أمها، التي سعت بشتى الوسائل كي تجهضها فأصرت «الباتول بن الحول»، البالغة حاليا من العمر 45 سنة، على القدوم إلى هذا العالم. عاشت طفولة صعبة في كنف أسرة تنقلت كثيرا بين المغرب وبلجيكا، تعرضت لاعتداءات جنسية متكررة منذ أن كانت تبلغ من العمر أربع سنوات، اعتداءات وعنف ذاقت مرارته منذ الطفولة إلى حين البلوغ، لجأت إلى شرب الخمر لعلها تنسى آثار ما تعرضت له لكن ذلك ضاعف من معاناتها، حاولت الانتحار لكن لم يكن الطريق سهلا، حتى التقت برجل ساهم في تغيير مجرى حياتها فأصبحت إيجابية، درست وعملت وتزوجت وأنجبت أربعة أطفال. اختارت أن تدون سيرتها الذاتية في كتاب تحت عنوان «شقائق النعمان في الشتاء؟ لم لا..»، لعله ينير درب مثيلاتها ويشعر الجميع بمعاناة من يتعرضون للاعتداء الجنسي والعنف، ننشره على حلقات مع بعض التصرف الذي يقتضيه الاختصار. في فبراير من سنة 1985 جمعت حقيبتي وخرجت لأعيش حياتي وحيدة كشابة كبيرة، فاخترت مدينة بروكسيل وقررت أن أصبح مرحة حتى أفرغ كل ما بداخلي، وهذا يتطلب مقابلة الأشخاص الذين يساعدونني على تحقيق ذلك. وقبل أن أحقق أحلامي علي أن أجد عملا، فأجبت على إعلان صغير ويهم بحث حانة عن نادلة مع توفير المأكل والمسكن ودخل شهري محدد. على الساعة الثامنة صباحا أنظف الحانة بالمكنسة الكهربائية وأنظف الطاولات، بعد ذلك أدخل المطبخ لأحضر وجبات الغذاء، وعند وصول أي زبون أخدمه وأرتاح ساعتين ليستمر العمل إلى العاشرة ليلا، وفي نهاية كل يوم أجد نفسي متعبة بسبب السلالم التي تؤدي إلى المطبخ والموجودة تحت الأرض، لم أعد أملك الشجاعة للبحث عن وكالات أخرى توفر عملا آخر.. شعرت بعدم الرضى عن واقعي، فتساءلت ماذا أفعل؟ هل فقدت عقلي؟ أهنا كانت طموحاتي وأحلام طفولتي؟ قبل نهاية الشهر، فصلت المكنسة عن الكهرباء التي كانت حقا صاخبة ومنذ ذلك الوقت وأنا أمقت المكنسات الكهربائية، صعدت إلى غرفتي فجمعت أغراضي وغادرت دون أن أقول لإدارة الحانة إلى اللقاء... اتصلت بفتاة تدعى «باتريسيا» كانت رفقتنا في روسيا وكانت تسكن في بروكسيل، وشرحت لها وضعي فاقترحت علي دون تردد أن أعيش معها رفقة رفيقها، فقبلت دعوتها إلى حين العثور على عمل وسكن. عشت مع «باتريسيا» وهي الآن محامية مشهورة، ووثقت بي دون أن تطرح علي أي سؤال...عدت إلى الحانة التي أعمل بها من أجل الحصول على راتبي فاقتطعت لي منه مديرة الحانة التي عبرت عن استيائها من الطريقة التي غادرت بها... بدأت رحلة البحث عن عمل، وعملت نادلة بمقهى آخر طيلة اليوم، فتلقيت اقتراحا من أجل العمل بمقهى ومرقص يبدأ من الساعة الرابعة مساء إلى الساعات الأخيرة من الليل، وكان هذا التوقيت يناسبني لأنه سيكون لدي وقت من أجل مشروعي، والذي جذبني أكثر هو الراتب، فاقترحوا علي دخلا محددا هو 50 أورو، إضافة إلى دخل متغير ما بين 25 و75 أورو حسب الأيام والزبناء... كان الزبناء الذين يترددون على المقهى يبحثون عن شيء آخر، قبلت في البداية إراديا الكؤوس التي تقدم لي، وآخذ طبيعيا كأس ماء ونعناع مشروبي المفضل، اقترحت علي مسيرة المقهى بلطف أن آخذ مشروبا آخر به فقاعات، وكانت تصر على أن راتبي سيرتفع مع الفقاعات، فاستجبت لذلك، وقلت سأربح نقودا وستصبح لدي شقة وبعدها أجرب حظي في السينما والمسرح... الحرية الوحيدة التي منحتني مديرة المرقص هو البقاء خلف «الكونتوار» لأنه في الواقع يجب أن تجلس بجانب الزبون الذي يمنحني كأسا، وكان من حجتي أنه ينبغي ان أشرف على نظام الصوت للأسطوانات الذي يجعل الزبناء يقضون لحظات جميلة... تمكنت خلال شهر من جمع نقود كافية لاستئجار شقة، ذات مساء زارني زوج “جينفيين” وسألني عما إذا كنت على وعي بما أفعل. وهل هذا ما أريده فعلا؟ فأجبته ب«لا» وأن هذا العمل فقط في انتظار تحقيق هدفي، وذكرني بأنه هو وزوجته دائما في خدمتي، وظننت أنه أصيب بخيبة أمل عندما رآني نادلة في حانة. تعرفت على أذواق المشروبات، عندما نغلق الحانة على الساعة الرابعة صباحا تأخذني سيارة الأجرة إلى مسكني، غير أنه بدأت عوض العودة إلى البيت أمدد سهرتي وأخرج إلى ملاه أخرى... نسبة قليلة من الطعام وأخذت ساعتي البيولوجية في الانحراف..كنت أتلقى اقتراحات عمل أكثر دخلا في الكباريهات المجاورة لكنني كنت أرفضها... إذا كانت مديرة المرقص قبلت بقائي وراء «الكونتوار»، فإن هناك نادلة لا يعجبها إذا شربت كأسا مع زبون أو تحدث معي لأنني بحسن المصادفة وضعت أغنية تعجبه...هذا النوع من النقاشات كنت أتعرض له. بدأت البحث عن عمل آخر فعملت في حانة رئيسها تونسي، وكان لا يقبل هذا النوع من الممارسات، فلا مجال للشرب مع الزبون فكل نادلة يجب أن تبقى في مكانها وكان الراتب يقارب 50 أورو في اليوم. بدأت أبحث عن إعلانات تبحث عن كوميدية لأجرب حظي وأجبت على إعلانات قليلة، وبسرعة فهمت أنه سيكون لدي حظ إذا ما كنت أكثر وقاحة ... أصبت بخيبة أمل وشعرت بالغثيان، هل أقبل بتلك الاقتراحات الهابطة؟ التفكير في ذلك يقززني، خاصة أنني احتفظ بذكريات أليمة وهي محاولة الاعتداء علي في الطفولة، ولم أعد أرغب في أن يستغل جسدي، لجأت إلى التجول بعد العمل وشرب الكحول المتوفر، ودخلت في حالة عدم التفكير. حل شهر يونيو ولم أتقدم ولا خطوة في مشروعي، تركت البحث وفوجئت بأنني أشرب سرا خارج أوقات العمل، وبعد العمل أتابع السكر في أماكن أخرى... هل هذا أصبح عادة، أو مخدرا؟ لا أعرف ماذا أفعل وتلك الرغبة في التراجع عن شفا الكارثة التي تضعني في حالات لا يستطيع الكحول مساعدتي على نسيان هذه المحنة. تعرفت على شاب يدرس الفن أوصلني ذات يوم إلى العمل وكان ينتمي إلى عائلة مثقفة وقدمني إلى والديه فأحسست بشعور جميل... اتفقنا على ألا أعود للعمل في المقهى، كنا لا نفترق وقضينا الأسبوع الأخير من يونيو معا، بعدما أنهى امتحاناته، كان يريد مني أن أرافقه إلى إسبانيا كي أستأنف دراستي، كنا نتحدث دون توقف في جميع المواضيع وكنت أشعر وكأنني ولدت من جديد، حتى الخمر لم أعد أفتقده... ذات صباح خرج دومنيك ليبحث عن الخبز ولم يعد، اتصلت بمنزله ولم يكن موجودا، علمت أنه سافر إلى إسبانيا كما كان متوقعا، شعرت بفراغ شديد، لم أكن أرغب إلا في أن أثمل حتى لا أفكر، وأحسست بفراغ شديد.. تساءلت عمن يفهم الفراغ الموجود بداخلي؟ وهذا الحزن الشديد الذي يجتاحني ويجبرني على التصميم على العودة إلى نقطة البداية دون أن أنجح؟ لم أجد من بديل سوى الاتصال ب«جينفيين»، فجمعت أغراضي وأخبرت مالك الشقة بأنني قررت المغادرة وركبت القطار إلى «مامير» وانتظرتني «جينفيين» في المحطة وأخذتني عندها من أجل أسبوع هادئ والعمل على إعادة الثقة بنفسي، وكان هذا ما ينقصني بعدما كنت أحس بأنني فشلت وبأني لا أصلح لشيء. عدت إلى أمي مع رغبة وحيدة بأن أستأنف من جديد الدراسة، فاخترت كلية الحقوق، خاصة أن لائحة الدروس مغرية في مواد العلوم الاقتصادية. حانت العطلة، وعلي البحث عن عمل واخترت تغيير مجال الأطفال، فقرأت إعلانا لأسرة تبحث عن طالبة لترافق طفليها إلى فرنسا، أحدهما يبلغ ثلاث سنوات والآخر ثلاثة أشهر، بعدما تقدمت مع أمي كما فرضوا، تم اختياري من بين العديد من الشابات، وتم اختياري رغم أنني سبق أن عملت كنادلة في حانة وأظل إلى ساعات متأخرة من الليل، وهذا أعطاني القوة اللازمة لأفعل أي شيء حتى لا أخيب آمالهم . ذهبت عند تلك العائلة إلى مخيم طبيعي، لم أحس بعدم الارتياح لأن الناس عاديون وأمضيت أوقاتا ممتعة وكانت العطلة صحية جدا. بعد عودتي كانت مهرجانات «والونيا» على قدم وساق، والتقيت «بوب» و«مود» والمجموعة، وانتهت الاحتفالات وحان وقت استئناف الدراسة، فقلصت من عدد الخرجات إلى الحفلات الراقصة خلال الأسبوع.