ينطوي الحراك الشعبي في الريف على كثير من الابعاد والدروس في التدافع السياسي والاجتماعي في المشهد الريفي خاصة والمغربي عامة، وإذا تجاوزنا لغة بعض الاعلاميين والساسة والاحزاب الذين يقدمون غالبا قراءات مبتسرة فيها كثير من التبسيط القائم على الوصف من جهة والاستغلال السياسيوي للأحداث من جهة اخرى، فان قراءة متمعنة للظاهرة المستندة على مناهج العلوم الاجتماعية خاصة منهج علم الاجتماع السياسي يمكننا من تشخيص دقيق لمكامن الازمة المفجرة للوضع الاجتماعي بمنطقة الريف . لقد حضيت منطقة الريف تاريخيا بأهمية استراتيجية كبيرة من الناحية الامنية والعسكرية في مرحلة الاستعمار الاسباني وكذا الفرنسي وفي وقت لاحق من طرف الدولة المغربية، هذه الاهمية انطلقت من عدة اعتبارات تتمحور كلها في دور حركة المقاومة الوطنية التي جسدتها ثورة الريف ضد الاستعمارين الاسباني والفرنسي بقيادة الامير محمد بن عبد الكريم الخطابي ثم جيش التحرير الذي تأسس 2 اكتوبر 1955 بمنطقة تيزي وسلي في الريف الشرقي ناحية تازة، بالإضافة الى احداث 58- 59 في بداية الاستقلال. هذا التاريخ وهذه الاحداث ادى الى تبلور وعي تاريخي للكيان الجمعي الريفي، وعي اخترقته وتخترقه كثير من التمثلات والمفاهيم، تحولت بعضها الى نزعات سلبية بفعل اخطاء السلطة لما بعد الاستقلال التي احدثت جرحا غائرا في هذا الكيان، لم تفلح معه الحكومات المتعاقبة من معالجته، مما تسبب في خلق ازمة بنيوية مزمنة بين الريف والمركز، ومن هذا المنطلق تبرز الحاجة الملحة الى التوضيح والتحليل العلمي و الموضوعي لكثير من القضايا والأحداث لاستبيان بعض الحقائق، وهنا افتح قوس لأقول كلمة بخصوص الحراك الشعبي بالريف، بعد حادث وفاة بائع السمك محسن فكري، ان ثمة اخطاء وقع فيها بعض نشطاء الحراك من خلال ترويج وتسويق لخطاب تصادمي عدمي مأزوم لا يخدم بالبتة افق الحراك السلمي الاحتجاجي المطلبي المشروع في منطلقاته وأهدافه، وهو في الحقيقة خطاب يعتبر امتدادا لطروحات روج لها اليسار الجذري بالمغرب بخلفيات ايديولوجية في صراعه مع النظام السياسي في الماضي، ونقصد هنا ما يسمى "بجمهورية الريف" التي تحمل خلفية انفصالية. ومن جهة الدولة المغربية ظلت منطقة الريف "مخيفة" ومصدر لهواجس بفعل رواسب الماضي وماضي "الجمهورية" التي أسسها محمد بن عبد الكريم الخطابي، وظل هذا الهاجس متجذرا في وعي ولا وعي الدولة مع ما ترتب عنه من مقاربات أمنية متعسفة في الكثير من الأحيان تجلت بالأساس في الطريقة التي ووجهت بها أحداث 58 والتدخل في أحداث الثمانينيات من القرن الماضي والحملة ضد مزارعي الكيف بعد صدور التقرير الأوربي الشهير في التسعينيات.. وفي هذا السياق لابد من توضيح بعض الحقائق التاريخية فيما يتعلق بمفهوم وفكرة "الجمهورية" بالريف (وكنا قد اشرنا في مقالنا المنشور في موقع هسبرس وجريدة الاحداث المغربية الى "تجربة الخطابي التحررية وسؤال المرجعية الى هذا الموضوع لمن يريد الافادة اكثر) - ان محمد بن عبد الكريم الخطابي خريج جامعة القرويين انطلق في مشروعه التحرري من الهوية المغربية الريفية لمواجهة الاستعمار وحلفائه من الخونة، ولم يسقط يوما البيعة الشرعية من عنقه للسلطان وهو في عز قوته وانتصاراته ضد الاستعمار وقد حاول حينها عدد من خناسي العصر، أن يطعنوا ويضربوا حركة الأمير الجهادية من الداخل وذلك عبر الوشاية للسلطان، كذبا وزورا، أن بن عبد الكريم قد أسقط البيعة من عنقه وشق عصا الطاعة، واصفين حركته الجهادية الوطنية العظمى للسلطان بأنها مجرد “حركة انفصالية وانقلابية وانشقاقية”، ولما أدرك الأمير الخطابي حجم المؤامرة كاتب السلطان بكتاب خطي وبيده مؤكدا بيعته الشرعية للسلطان الشرعي، وموضحا بأن ” الجمهورية الريفية” التي حاول خناسو العصر استغلالها بأنها تنظيم إداري لتدبير الكفاح والمقاومة في جهة الريف في ظل التقسيم الاستعماري للمغرب بين المنطقتين الخليفية الإسبانية والسلطانية الفرنسية، كما أكد الخطابي ذلك كتابة، مؤكدا أن تنظيمه هو تنظيم من داخل المملكة لا من خارجها، وهو في ظلها وليس بديلا عنها أو منافسا لها، - ان قيادات المقاومة من شريف محمد أمزيان الى الخطابي، كانت تعلم أن القوة ليست في التسلح أو المال أو تحالفات القبائل، بل هي في نواة الوطن و الدولة وبنيتها التي لا يمكن استبدالها ولا المتاجرة فيها، وهو ما بينه الدكتور مصطفى الغديري في بحثه المعمق والموثق بتفصيل لمن أراد التوسع في الموضوع، و ما أكده ايضا الأمير الخطابي للسلطان محمد الخامس في لقائهما التاريخي بالقاهرة. لقد بقيت العلاقة اذن مأزومة بين الريف والمركز حتى مجيء الملك محمد السادس واعتلائه العرش سنة 1999، حيث ابان عن ارادة واضحة في طي صفحة الماضي وأطلق في عهده عدة مشاريع حقوقية كان ابرزها هيئة الانصاف والمصالحة وتنصيبه للمجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي اشتغل على كثير من الملفات الحقوقية التي تهم الريف وأعاد الاعتبار للمنطقة و سعى الى اندماجها الاجتماعي والثقافي والمجالي في النسيج الوطني هذه المشاريع والمبادرات من حيث المنطلق والمبدأ كانت اجابية وواعدة وعبرت عن الحس الوطني للملك ولقيت استحسانا لدى ساكنة الريف، ولكن لأسف الشديد بعض النخب السياسية لم تحسن استغلال هذه الفرص لانجاز مصالحة حقيقية، وليس هنا بالضرورة ان تكون كل تلك النخب تضمر سوء النية ولكن غياب الرؤية والفهم الحقيقي والعميق لمشاكل الريف وسكلوجية انسانه وغياب تصور شمولي واستراتيجي لعملية التنمية التي بقيت الحلقة الاضعف لعملية المصالحة المنشودة، ذلك ان المنطقة تعيش ولتزال أزمة اقتصادية كبيرة، فلا تحويل العملة الصعبة بقي ثابتا ينقذ العائلات من الفقر ولا قطاع الصيد البحري حرك العجلة الاقتصادية، والمحصلة أن شباب المنطقة ضاع في كل شيء: في العمل وفي الهجرة وفي الحلم أيضا..كلها عوامل اذن اجهضت او على الاقل اضعفت مطلب المصالحة. والحقيقة ان المصالحة مع الريف في الواقع لم تتم يوما وأن صيغتها كانت محرفة، وعوض أن تتصالح الدولة مع التاريخ والجغرافيا تصالحت مع الأشخاص واعتقدت لأكثر من عقد من الزمن أن مجرد اعترافات بسيطة ليساريين ينتمون إلى المنطقة كافية لتحقيق المصالحة..وهذه المصالحة ايضا ليست في حاجة إلى وساطات، وإذا كانت الدولة تمتلك بالفعل إرادة حقيقية لإصلاح الأوضاع فعليها أن تشرع في مصالحة سياسية بأفق انساني وتنموي شامل يقضي على جذور المشكلة. ولا يمكننا ان ننكر ان الأحوال قد تغيرت على نحو ما، منذ وصول الملك محمد السادس إلى العرش -كما أسلفنا-، لكن هذا التحول لم يمس البنية الذهنية للمسؤولين الكبار ومؤسسات الدولة الامنية والسياسية وظلت الصورة النمطية عن الريف والريفيين منحوتة لدى أغلبية نخب السياسة والسلطة بل لدى فئات كثيرة في الاوساط الشعبية بالمغرب، وليس أمرا غريبا أن تضطر للوقوف عشرات المرات عند حواجز الأمن فقط لأن تعريف السيارة ينتمي للريف، وليس غريبا أن تسمع من أناس عاديين على هامش شغب لشباب مفتونين بكرة القدم بأن هؤلاء “مساخط سيدنا”. إنها نتاج تربية طويلة إلى درجة أنها صارت عقيدة لدى الكثيرين، وليس سهلا بعد كل هذا الحصار والتهميش أن تغير الذهنيات أو تحدثا ارتجاجا في العقليات. وإذا كانت الدولة قد راهنت على تغير الأجيال لإحداث نوع من القطيعة مع الماضي، فإن الحراك الأخير بين بشكل لا يفسح أي مجال للتأويل أن الرهان كان خاسرا جدا. لقد حملوا نفس الشعارات ونفس المطالب التي رفعها محمد سلام أمزيان ورفاقه في الخمسينيات من القرن العشرين، ونفس الإحساس بالتهميش والحكرة مع اختلافات بسيطة جدا، ورددوا خطابات تشبه نفس الخطابات التي رفعت قبل سبعين أن وثمانين عاما. ماذا يعني هذا في السياسة؟ معناه أن سياسة الدولة مع منطقة كانت دائما ذات حساسية بالغة فشلت، وما كان يسمى بالقطيعة مع الماضي والمصالحة لم يفض إلى أي شيء. ولعل أول ما يجب أن تلتقطه الدولة من الحراك الشعبي الذي التفت حوله لأول مرة أطياف مختلفة منها حتى أولئك الذين ظلوا صامتين لمدة طويلة، أنها بحاجة إلى الاعتراف قبل أن يفوت الآوان، أن الدولة لم تنجح في سياساتها الاقتصادية والسياسية والأمنية في التعاطي مع الريف وقد ينسحب هذا الفشل على مناطق أخرى، ثم إنه ليس من المقبول بعد اليوم أن يروج مفهوم المصالحة مادام أن الذين تريد أن تتصالح معهم يرفضون الصيغة التي تقترحها.. يرفضونها لأنها لا تلبي الحاجيات الانسانية والاجتماعية والاقتصادية للمنطقة ولم تفضي الى اي نتيجة. سفيان الحتاش رئيس مركز الريف للأبحاث والدراسات