بعد التمعن في تاريخ الدولة المغربية مع الريف يتضح جليا أن سيادية المقاربات الشمولية الهادفة إلى التطويع و الإخضاع ، بالإستعانة بالقوة المادية المتجلية في المقاربات الامنية القائمة على الضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه معارضة المشروع السياسي المخزني بالريف أو إنتقاده ، أو من خلال تعميم صورة وردية باهتة مفادها إعطاء الاولوية للنهوض بهذا الريف الجريح سياسيا و إقتصاديا ، إنكشفت مع اول إختبار جدي للحراك الشعبي للريف الذي تعاملت معه الدولة بمنطق الحرب المعلنة ، و لعل النظام السياسي مدرك أن الريف كان دولة ذات سيادة كاملة في عشرينات القرن المنصرم برئاسة الرئيس الخطابي الذي إستطاع أن يؤسس لبنات دولة ديمقراطية في وقت وجيز ، إلا أن العدوان المشترك ( الفرنسي و الإسباني _ المغربي ) ، عجل بتشتيت هذه التجربة بعد إمطار الريف بالغازات السامة ، و لعل المخزن يدرك أيضا أن المقاربات القائمة على تجميل شعارات مغالطة لم تكن مجدية للقضاء على الصوت الريفي المطالب بضرورة تسيير الريفيين لشأنهم الذاتي ، بعد تنامي الأصوات المطالبة بضرورة التعجيل بإقرار الحكم الذاتي للريف كخطوة إستعجالية تعيد للريف مركزيته حول نفسه ، و بعد فشل سياسات التمركز الهادفة إلى تذويب المجال الريفي في نسق السياسات المركزية التي لا تراعي إلا مصلحة المخزن الاستراتيجية الرامية لبسط السيطرة بأية وسيلة ممكنة . 1_ الريف و المخزن : أية علاقة ؟ إن علاقة المخزن بالريف المتسمة تاريخيا برغبة التطويع و الإخضاع و النظر للريف كبؤرة توتر يجب إخضاعها بالقوة من خلال محطات تاريخية أهمها ، حملة بوشتى البغدادي لإبادة إيبقوين سنة 1899 و إستنزاف الأراضي الزراعية سنة 1906 بشعار " لن يأكل الريفيون حتى تشبع بلاد المخزن " ، ثم إضفاء طابع الفتنوية على بطولات محمد أمزيان و بعدها التحالف المخزني مع قوى الإستعمار لإقبار تجربة الجمهورية الإتحادية لقبائل الريف و إعطاء الضوء الأخضر السلطاني للمستعمر الجديد لبدء إمطار الريف بالغازات السامة و الكيماوية بعد وصف الثورة الريفية بأوصاف قدحية من قبيل الفتنة و الهمجية .. إلخ ، و شرب السلطان العلوي نخب إستسلام مولاي موحند مع اصدقائه الفرنسيين . دون إغفال الإشارة إلى تسخير مافيوزات حزب الإستقلال لتصفية كوادر جيش التحرير في مثلث الموت ، لتعبيد الطريق لبدء مفاوضات إيكس ليبان الخيانية ، لتتوج الضغينة السياسية بالصفحة السوداء المخزنية إبان ثورة الريف المجيدة ل 58و59 ،والتي تعامل معها المخزن بمنطلق الحرب بمفهومه السياسي و العسكري ، بعد فتح نار آلته العسكرية على شعب أعزل طالب بالإنصاف من الظلم و القهر المسلطين عليه ، و وصف الهرم السياسي الريفيين بالأوباش سنة 1984 في ضرب سافر لأخلاقيات الحكام التي تقتضي الإصغاء و ليس التحدي . ليتوج منظور الدولة الإقصائي بالتعامل مع الحراك الشعبي بالريف بمقاربة الزرواطة التي تسود المشهد السياسي بعد التمثيل بجثث شهداء 20 فبراير بالحسيمة و إحراقهم في مسرحية رديئة تحاول إضفاء طابع السلكوطية على المحتجين ، و محاكمة آخرين بتهم جاهزة قصد نسف الحراك بالإستعانة بفلول ممخزنين مندسين كانوا يطبقون الأوامر العليا بكل حذافيرها . تزامنا مع السعي الحثيث للدولة المغربية الرامية إلى إغشاء البصيرة عن كل الإخفاقات الآنية و التاريخية المتراكمة و الناتجة عن تسييد نظرة أحادية في التحكم في زمام المشهد السياسي و تسخير كل الادوات العملية الممكنة لفصل السلطة عن الشعب بعد غياب عنصري الثقة و الثقافة التشاركية في إستصدار القرار السياسي ، ظهرت في المشهد السياسي كائنات جديدة تقوم بوظيفة النكافة السياسية و تجميل الصورة السوداوية للمخزن بالريف من خلال التطبيل بشعارات نجاح الدولة في المصالحة معه تارة و تارة أخرى عبر محاولة تذويب الشأن الريفي فيما هو مغربي من خلال إستعراض مكامن إعطاء الأولوية للريف على حساب مناطق المغرب النافع ، عبر مجموعة من السبل الردئية في الإخراج و المفضوحة بالبراهين الملموسة على الأرض. أولها نهج سياسة التهجير القسري للريفيين لتكسير البعد الوحدوي الريفي عبر تضييق الخناق عليهم في الداخل من خلال الحرمان من أبسط الحقوق السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية لإجبارهم على الرحيل لأنهم غير مرغوب فيهم بالداخل بعد ثبات عدم إنجرافهم حول سياساتها المركزية الهادفة إلى إنصهار الكل في الجزء المرضي عليه من طرف الدولة ، و قد جعلت الدولة المغربية من المهاجرين الريفيين ماكينات نقدية تجلب لها من العملة الصعبة ما تجلبه عائدات البترول في دول الشرق الأوسط ، و قد تعامل المخزن مع قضية المهاجرين بإزدواجية نفعية ، فهم يقومون لاشعوريا بحماية مؤسساته المالية عبر الضخ المتوالي لمبالغ مالية مهمة لا يستفيد الريف منها بشيء اللهم بشراء الدولة لأدوات قمعية تكسر ظهور ريفيي الداخل ، و من جهة ثانية تحاول الدولة تبني قضايا المهجرين و تصورهم في الإعلام بصورة الخدام الأوفياء بعد تخصيص وزارة لهم ، متغاضية الطرف عن الأسباب المخفية وراء دواعي التهجير و الإكتفاء بجرد الجانب الإيجابي من خلال الحديث عن تعايش المهجرين في الدول المستضيفة ومثابرتهم العملية و حنينهم للأرض دون التطرق ان المخزن هو من أرغمهم على الرحيل لجعل الذات الريفية هجينة و غير متماسكة ، و أن الهجرة إشكالية بنيوية مرتبطة بالنظام السياسي الذي اشاع سياسة التمييز و التفرقة بين الكيانات المجتمعية . إلى جانب ما سبق ، بوسعنا التذكير أن المقاربة السياسية القائمة على اللامركزية و اللاتمركز التي أبانت عن فشلها بعد الإقرار بالسكتة القلبية للمغرب ، عجلت بظهور بوادر خريطة سياسة قديمة بقناع جديد تحت إسم الجهوية العازمة على ضمان الهدف الإستراتيجي الذي لم يتحقق عن طريق اللاتمركز ، فعلى مستوى تدبير السياسات ظل الريف لدى الدولة المركزية شيطانا سياسيا يرى مصلحته في تدبيره الأوطونومي بعد إستنزاف ثرواته الطبيعية و البشرية و المجالية ( إستنزاف الخيرات البحرية ، و جعل الأراضي الفلاحية صحاري بمخططات تغيب إستراتيجية الإنكباب على تهيئتها ، التحكم في دخل الرسوم الجمركية لموانئ و مطارات الريف ، محاولة تقنين زراعة الكيف لتحكم الدولة قبضتها عليها ، العبث بعائدات التهريب و تصوير الريف منطقة للفوضى بتصويره في صورة قاتمة في الإعلام كمصدر لتصدير الحشيش ، و بوابة تهريب ينخر إقتصاد الدولة المركزية ) و يجب التذكير ان الصورة المسربة في الإعلام التي تركز على زيارات محمد السادس المتوالية للريف تعكس نظرة الدولة المحتضنة للريف و ذلك غير صحيح بالمرة ، فذلك التواجد يعني بسطا للسيطرة و إظهار التواجد على الأرض بالإستعانة بمقاربة أمنية صارمة تنمق ذلك و تظهر عكس الحقائق المعاشة بالريف ، بعد غياب أية رغبة في تغيير النظرة الإستذلالية نحو الريف ، فالريف ليس بحاجة لتدشين قاعة مغطاة أو مسجدا للتعبد بقدر ما هو بحاجة إلى قرار سياسي صريح يقر بتحمل المسؤولية الكاملة للدولة فيما حدث من إنتهاكات و إذلال و رغبة واضحة في تجاوز ذلك بإقرار بديل سياسي واضح يقر بالريف سيدا لنفسه عبر تمتيعه بتسيير نفسه بنفسه وفق نظام للحكم الذاتي . 2 _ الحصيلة السياسية . بعد إستعراض المقاربة التدبيرية للدولة المركزية تجاه الريف و القائمة على توتيد البعد التسلطي للدولة و إعلاء قراراتها السياسية الهرمية المنزلة التي تغيب أسس التشارك في إستصدارها ، و الهادفة إلى إحلال البعد المركزي للنسق السياسي المخزني الأحادي الذي يستوجب التطبيق دون جدال ، و بالنظر لتراكم معاناة الريف من جراء هذه السياسات الأحادية التي تصنفه في خانة الغنيمة السياسية ، و أمام تنامي الوعي الريفي بضرورة الضغط من اجل الرقي بهذا المجال الجيوسياسي الذي عانى الويلات عبر التاريخ ، ظهر الفكر الاوطونيمي في المشهد السياسي الريفي يكبر و يتوسع بتوسع المطالبين بتكمين الريف من الحكم الذاتي و تكاثرهم يوما بعد يوم في الريف و الدياسبورا ، لتأتي الحركة من أجل الحكم الذاتي كنتيجة طبيعية لهذا النقاش المستفيض و كإفراز مباشر لحل عادل و شرعي للقضية الريفية التي تحاول الدولة المركزية تكبيلها بقيود المركزية التي لا تمت بصلة لما يخالج الذهنية الريفية الجماعية التي تصبو في إتجاه التحرر للوصول إلى الريف المنشود الذي سالت عنه الدماء و علم العالمية معنى الذود عن الأرض بكل غال و نفيس ، و أمام هذا الخيار الذي يؤرق الدولة المغربية ، بدأ النظام السياسي في السنوات الاخيرة في نهج سياسة إحتواء مجموعة من المتبنين لطرحه المركزي بالإدعاءا أن الريفيين راضين عن الوضع كل الرضى ، و قد تعددت أدوار المحتوين بين المشترك في الأحزاب السياسية التي تفتقد لأي دور في المشاركة بالعملية السياسية ، و بين من يعملون لتعبيد الطريق لمشروع مخزني آت اساسه التصور الجهوي لمغرب الجهات ، يقوده الراكبين في المخلوق السياسي الجديد المتبنى من القصر و المدفوع به لحرث المشهد السياسي ليبقي على ثباتية الوضع القاتم القديم بحلة سياسية إنفضحت أن الجرار السياسي هو الإبن الروحي للمخزن التقليدي القائم على إحكام القبضة على كل شيء بالإستعانة بكل شيء كي لا يتغير شيء . و الإيجابي في الأمر ان الريفيين توارثوا نرعة النفور من الممارسة الحزبية بل و بغضها الصريح ، هذا ما أدى ب نيو_المخزن إلى تغيير إستراتيجيته لوقف الوعي المتواتر براهنية مطلب الحكم الذاتي للريف ، عبر خلق كائنات جديدة تحاول تجاوز هذا السقف المطلبي و يبقى إشتغالها نظريا و بعيدت عن المقتضيات العملية لهكذا مطالب تتطلب عملا على الأرض أكثر من تنميق الجمل في زمن الفوتوشوب السياسي ، تنتقد النظام السياسي في العلن و تعانق أوامره و تطبقها في السر بشكل مدروس ، هدفها الأوحد بعثرة الأوراق و إفشاء عدم الثقة بين الريفيين ، في الوقت الذي يحتاج فيه الريف لتظافر جهود كافة أبناءه و فتح نقاش ريفي يضعه بلوغ الهدف الإستراتيجي للريف كمركز للريفيين غاية كبرى ، و أمام هذا الوضع الذي يحاول فيه المخزن تشتيت الرأي العام الريفي و زرع التطاحن بين مكونات نخبه ، عن طريق الترويج لشعارات زائفة مفادها رغبة الدولة في القطع مع الماضي الاسود الذي تثبت الايام يوما بعد آخر أنها تسير في مسلك تكريس سياسات الأمس الأحادية . إن المرحلة تقتضي إقتناع الريفيين ان التطاحن بين الإخوة الذين يوحدهم الهم الريفي لا يخدم إلا مصلحة أعداء الريف الذين يعملون على قدم و ساق من أجل تطويعه و إبقاءه مجالا مختبريا لسياسات الدولة المركزية ، و إن الراهنية الآن تحتم علينا توسيع النقاش حول أوطونوميا الريف نظرا للتراكم الإيجابي الذي حصلته الحركة من اجل الحكم الذاتي التي إستطاعت التوصل لبلورة بديل سياسي متكامل يجعل من الريف محورا و غاية و سيدا لنفسه ، يسيره أبناءه بتشاركية إيجابية بعيدا عن لغة الضغينة السياسية و محاولة إنساب الريف لطرف دون آخر . و عليه فإن مطلب الحكم الذاتي للريف هو الكفيل آنيا للقطع مع توالي السياسات المزدوجة التي تظهر بأسلوب معتم إرادة مغالطة للإنفتاح الدولتي و تظمر محاولة جعل الريف درعا واقيا للدولة المركزية من الازمات التي تعصف بها في كل حين .