كانت العلاقة الرابطة بين مركز القرار السياسي و الريف و لا تزال متسمة بإزدواجية التعامل الأداتي مع إستصدار و تلقي القرارات السياسية من جهة ، و من جهة أخرى باللاثقة الريفية في أغلب المقاربات المستصدَرة التي تخص الريف ، و ذلك راجع لعدة أسباب منها ، النزعة الريفية لذاتية تسيير الشؤون الريفية المتمخضة عن دواعي تاريخية أهمها التجربة الخطابية التي تضع الريف موضع الوطن سيد نفسه و المنفصل كليا عن أي قرار سياسي لا ريفي و منها ماضي التراكم السلبي الذي خلفه التعامل المجحف للدولة المركزية تجاه الريف في محطات عديدة ضمنها الموافقة على إمطار الريف بالغازات السامة و التدخل الهمجي إبان أحداث 58 و 59 و 84 و كذلك في ربيع القمع ل 2011 . و لعل هذا الإرث التسلطي المركزي خلق هوة تباينية هامة في العلاقة بين المشرع السياسي المركزي و متلقي هذه القرارات السياسية ، التي جعلت السياسات المركزية تجاه الريف تنبني على إزدواجية التعامل الأداتي المرجِحة لكفة تغليب المصلحة السياسية لصالح المركز بالإعتماد على مقاربة تحكمية تجعل من الريف هامشا يتلقى الاوامر مع تغييب أي دور إيجابي لكل ما هو ريفي في المساهمة في بلورة رؤية سياسية متفقة عليها سبقا مع الفاعلين الريفيين المتبنين لتصور سياسي يضع الريف منطلقا و غاية ، و ذلك بالإعتماد على نهج اللاتشارك في إتخاذ القرارات المنزلة التي تحتم على الريفيين تلقيها دون المشاركة في إستنباطها و دون إعطاء أي دور لأي صوت ريفي ينادي بضرورة التغيير الآني لمنظورات القرارات الجاهزة التي تتحكم فيها أطراف لا علاقة لها بالريف و بخصوصياته و حاجياته الإستعجالية ، و يعزى هذا التغييب الممنهج للصوت الريفي و إبعاده المدروس بدقة عن دائرة المشاركة في إستصدار القرارات السياسية لعوامل عدة أهمها اللاثقة المركزية و إنتهاجها لسياسة الحيطة و الحذر القائمة على الترهيب و الترغيب الممنهجة ضد أي صوت له رأي معارض لتصور الدولة في شأن تموقع الريف في الخريطة السياسية وعيا من المركز أن التجربة الخطابية لا تزال سائدة وحاضرة في الذهنية الجماعية للريفيين و كذا علما منها أن تاريخ و ماضي المركز بالريف غير مشرف بتاتا بعد إختياره للغة إستعراض العضلات الامنية وفق مقاربات مخطط لها ، في حق شعب إعتبر رسميا تابع سياسيا لهذا المركز . فبعد 1956 إختارت الدولة المركزية أن يكون الريف بمثابة إحتياط صدي للنقص و العجز الموروثين عن القوى الكولونيالية فإعتمدت بذلك سياسة التهجير القسري للريفيين لأسباب سياسية متجلية في القضاء على وحدة التصور الريفي الذي عارض على الدوام الإستقلال الشكلي و عاين الترامي الدولتي على كوادر جيش التحرير الذي جاء مواصلة لسياسة قديمة مشيطنة لرموز المقاومة المسلحة التي وصلت إلى حد وصف الأمير موحند بن عبد الكريم بالفتان ، و أيضا وعيا من المتحكمين في القرارات السياسية ان الريفيين لم و لن ينسوا الجرائم المقترفة في حقهم في أحداث 58 و 59 التي تعتبر محاولة إفناء و نيل من حياة شعب بأكمله ، و منها أسباب إقتصادية متمخضة عن تصور حزب الإستقلال الذي كان شريكا فاعلا في اللعبة السياسية أنذاك و أراد تصفية حساباته القديمة بعد الضعط على الريف لتقريبه من مرحلة الإنفجار المعيشي و تصويره كجحيم لأبنائه و ذلك ما حتم على الكثير من شد حقائبهم للهجرة ليتحملوا توابع العجز المالي للدولة المركزية و يكونوا بذلك ماكينات منتجة للعملة الصعبة التي تستغل في النهوض بمناطق إستقطابية إقتصاديا خارج الكيان الريفي ، و كل هذا جائ تطبيقا لسياسة التهجير الممنهجة الرامية إلى تفكيك الوثاق الأسري و المجتمعي الريفيين الذي كان صلبا بالأمس القريب . و بعد أحداث 84 إتضحت رؤية الدولة المركزية جليا التي إعتبرت الريفيين أوباشا و ذلك يوحي بالعدائية المفرطة التي يكنها الهرم السياسي للريف و هي مواصلة بينة لسياسة القبضة الحديدية الهادفة إلى تطويع الريف و إخضاعه بكل السبل و تنفيذ إستراتيجية صارمة تقيد التوحد الريفي و تقف في وجه أي محاولة للتشارك السياسي يكون فيها الريفيون شريكا أو طرفا مساهما في بلورة تصور الدولة لمستقبل العلاقة المركزية _ الريفية التي بقيت دوما مبنية على ثنائية التحكمية المطلقة في رسم معالم المستقبل و إرضاخ الحاضر السياسي ليكون مواتيا لتنفيذ سياسة الإركاع الجماعي للصوت الريفي المناضل قصد إذابته في مشروع مركزي ينظر للريف كغنيمة سياسية يستعمل ورقتها كلما ضاقت به سبل معالجة الأوضاع الآنية المحتقنة التي لا توحي بالإستقرار ، لذلك تم تغييب الدور الريفي في الشرط الإفرازي للقرار السياسي المركزي و ظلت الدولة المركزية تنظر للريف كعنصر مهدد للهدف الإستراتيجي الأعم في سياسة المخزن القائم على إعلاء و تجنيب أي كان من المشاركة الحقة في شكلانية القرارات الرسمية أي ظلت الدولة ماضية في تطبيق منهجية المتحكم الوحيد في الحقل السياسي و الملزمة للكل بضرورة التطبيق بالإستناد إلى العديد الوسائل الأداتية منها التودد الإيجابي بأطراف من قبيل الشركاء الدائمين لها مثل الأحزاب و الموالين السياسيين و منها الزجر المادي بالقوة الرادعة ( الجيش و الدرك و التدخل السريع و المخابرات ، الإعتقال السياسي ، نزع الملكية ) في حق الصوت الإحتجاجي الراديكالي المطالب بتغيير الخريطة السياسية لتقوم على مبدأ التشاركية و الإسهام المباشر في صنع القرار السياسي و هذا النوع إتضح حديثا بعد الحراك الشعبي 2011 الذي إعتمدت فيه الدولة على عنصر الإعتقال و تلفيق التهم لأي صوت ريفي مطالب بالتغيير ، مع تسخير أدواتها التقليدية في نفس الآن من قبيل فتح المجال للأحزاب قصد إحتواء الصوت المناضل و تدجينه و تذويب الفئة الأنتلجينسية في منتديات سميت بالكفاءات التي تكفل حزب الأصالة و المعاصرة للقيام بهذه المهمة و الذي إعتبرته الدولة المركزية شريكا مؤقتا يقوم بمهمات مسطرة هدفها إمتصاص جزء من الغضب العارم المطالب بضرورة تخويل صلاحية التسيير الذاتي للريفيين و إستبدال السياسة المركزية بأخرى تخول للريفيين صلاحية التحكم بمجالهم الجيوسياسي عبر تشاركية ريفية_ريفية ، بعد أن إتضح بالملموس فشل السياسات المركزية في التعامل الإيجابي مع الملف الريفي و ذلك بعد إلحاقه بالبعد الثانوي دورا و ممارسة في الحقل السياسي . و إن النظرة المركزية تجاه الريف القائمة على مبدأ المركز أولا ، و على الجزء تحمل هذا العبء المركزي وفق سياسة تعميم مفهوم الدولة القائمة على تمركز الجهات حسب الخريطة الاخيرة التي ترسمها الدولة في مخططها الجديد للجهوية ، لن تنتج إلا تكريسا للامر الواقع القديم القائم على توسيع الهوة البنيوية في ترسيخ مفهوم الدولة في المركز بإحالة الجهات عليه سياسيا و إقتصاديا عبر التمكين للمركز بالتحكم في دخل الجهات و تفقيرها على حساب إغناء مركز كتب له أن لا ينمو و لا يغتنى ، و ذلك وفق تكريس النموذج الاخطبوطي الذي يجعل من الريف على وجه الخصوص قربانا سياسيا تم تفقيره تاريخيا للتضحية بمشروع التمركز و اللامركزية التي ثبت فشلها الذريع لأسباب كثيرة أهمها غياب أية إرادة سياسية تعيد الإعتبار للريف كحزام جيوسياسي عانى من قهر المركز و إستبداده ، و من جهة ثانية تغييب التشارك السياسي وفق نظام سعى المركز أن يكون مرتكزا على تكييف كل المؤسسات بطرح احادي للدولة بعد نزع كل السلطات من باقي المؤسسات السياسية و تعطيرها بفلول سياسيين يعملون على تنفيذ إستراتيجية مرسومة خارج المؤسسات السياسة المنوط بها القيام بهكذا البت في القرارات السياسية و المشاركة في إستصداره ، و الجدير بالذكر أنه بعد 20 فبراير 2011 و ما رافقه من غضب ريفي عارم جعل مذكرته المطلبية سياسية بالأساس بإعتبار ان الوضع الريفي الراهني المتأزم ناتج عن خلل بنيوي للنظام السياسي المركزي فشل في إيجاد حلول للمعيقات الآنية من جهة ، و من جهة ثانية تسييد سياسة التواجد المخزني عبر إنتداب من ينوب عنه في محاولة حشد الريفيين للطرح المركزي_الجهوي للدولة و المتجلين في ذيول احزاب سياسية متعددة تستخدم المعانات الريفية ورقة إنتخابية مع العلم ان لا شرعية للإنتخاب ما دام التوافق على الخطوط العريضة لسياسة الدولة مغيبة ، و هنا لابد من الذكر ان الأحزاب هم في كفة واحدة رغم محاولة القلقلة الاخيرة التي تصور الجرار السياسي كغول يحاول هدف الريف وحده و ذلك غير صحيح فالاحزاب لحسن حظ الريفيين قد فقدت وزنها السياسي و قدرتها في المشاركة في العملية السياسية التي يتحكم فيها القصر لوحده و بينما يكتفي الكل بتنفيذ الاوامر ليس إلا . و على سبيل الختم فالمقاربة السياسية القائمة على مركزة القرار السياسي و بسط الهيمنة السياسية من أجل إعلاء المركز من أي تشارك سياسي من اي طرف إتضح آنيا عدم نجاعته ،وإن الإنكباب على تفقير الكل لرفاهية المركز السياسي و الإقتصادي الوحيد لا يولد إلا مزيدا من اللاترابط السياسي الذي لا يولد إلا الكثير من التشنج الممارستي لشكلانية الخطاب السياسي القائم على تمركز المركز و إلحاق الجهات به قصد تحمل المخلفات السياسية ذات البعد الوحيد و الهادفة إلى تشخيص الدولة كمؤسسة سياسية في المركز و فقط و يوحي بغياب أية إرادة حقيقية في تغيير الرؤية نحو الريف بل و تكرس السياسة القديمة التي تجعل منه حائط صد أزماتي و مختبرا لإختبار المقاربات الأمنية بإقران الريف بمركز التهريب و اللاسيطرة ، و قد أضحى مطلب الريفيين في الحكم الذاتي الذي يخول لهم التعاقد الإيجابي على ريف سالت عنه الدماء و لم يجني إلا اللعنات السياسية في المقابل ، ضرورة سياسية هي المدخل الوحيد لتبرهن الدولة المركزية على حسن نيتها في التعامل الإحتضاني نحو الريف ، لكن دون إغفال عنصر مهم في هذا المجال و المتجلي في إلتفاف الريفيين على مصلحة الريف العليا التي تضعه أساسا في اي تصور سياسي هادف للرقي به إلى المكانة المتوخاة مسقبلا التي يفرضها موقعه الإستراتيجي و موارده البشرية و المجالية و كذا دور ابنائه المهجرين في بقاع العالم التي تعتبر إيراداتهم المالية رقما مهما في رؤية إقتصادية إنتقالية تجعل من الريف مركزا لنفسه و ليس تابعا لأقطاب جهوية أخرى لا تولد إلا مزيدا من التهميش للريفيين ، و هذا لن يتأتي إلا من خلال فتح نقاش ريفي _ريفي و الأخذ بعين الإعتبار لجميع الآراء و التخلص من التفكير السلبي للنخبة الريفية المفتقدة لأواصر الترابط بين أطيافها و مكوناتها بعد تجاوز الخلافات الإيديولوجية و التطاحنات المشخصنة لقضية ريف بأكمله في أشخاص و تنظيمات معينة ، إذ أن المبادرة قبل كل شيء هي للريف و ليست لأي كان مهما علا شأنه ، و إن التخلص من الذهنية السلبية التي تحيل بالتنبؤ بفشل أية مبادرة قبل الخوض في غمار العمل لها على أرض الواقع ضرورة راهنية للدفع بعجلة الضغط على النظام السياسي لإنتزاع حق الريف المشروع الآني الذي تفرضه اللحظة الراهنة ، و إن عدم الإنجراف لشعارات الأحزاب السياسية الهادفة إلى إقبار أية مبادرة تضع تسيير الريف بنفسه هدفا إستراتيجيا هو الكفيل لتوحيد الصف الريفي حول مطلب الحكم الذاتي العادل بتوسيع النقاش الريفي و إغناءه ، و الإبتعاد عن ثقافة توزيع التهم و التخوين بين أبناء الريف الواحد ضرورة تستوجبها اللحظة المفصلية التي يعيشها الريف ، إن تعميم عنصر الثقة بين ريفيي الداخل و الدياسبورا و توحيد صوتهم المنادي بريف يكون سيد نفسه هو أول خطوة لنا نحن الريفيين قبل الشروع في الممارسة العملية لفرز الرؤى من اجل الخروج بصيغة توافقية تدعم ما هو مقبل عليه الريف مستقبلا . (°) : عضو الحركة من اجل الحكم الذاتي للريف