أصبح في عرف البديهة أن ينبري حملة مشاريع النهوض كلّ من جهة إطاره لتقديم وصفات الخلاص من واقع الارتهان السياسي و الانسداد الاقتصادي و الانحطاط الأخلاقي طارحا رؤيته الإيديولوجية كوسيلة تحليل و أدوات فهم ، فلا غرابة البتة في عالم الأفكار المتصارعة أن نشهد تعددا في الولاءات و اختلافا في القناعات فلقد أصبح تسويق الحلول و تشخيص العاهات يتعرض لها كل من لمس في نفسه القدرة على نقد الواقع و تجاوزه حتى غدت تتكاثر معها أقلام لم تتعلم كيف تصبر على التشخيص و التحليل لتنتظر نضوج العقل " المُكَوَّن " و ترفعه من التأثيرات المتسرعة لإيديولوجيات مادية ، فما أكثر من تحمَّسَ و انطلقَ شاهرا إطاره فكره المرجعي مًسخِّرا في ذلك أقصى ما استهلكه نظره من مطالعات سياسية و اقتصادية و بحوث أجنية و قراءات مؤَدلَجة ثم تجده في لحظة ما كما لو أنهُ لم تصدر عنه شيء مما كان يدعو إليه ، تجده في لحظة ما و قد انقلبَ كليا من ولاء كان يشده إلى نظريات دهرية إلى رحاب فكر يُحلِّقُ به في سماء أخرى هي أختها في الأصول و التداول القيمي . فلِمَ القفز من أقصى إلى أقصى ؟ إن كان مشروعا في عرف العقل الحر أن يمارس قدرا من المراجعة الذاتية و يتحرى الصدق في التحليل الصارم لواقع مرغوب عنه يراه شاذا عن الأصل المرغوب فيه فالملام و التثريب أن يدور هذا العقل في الانتقال السريع و الساذج من نقطة إلى أخرى دونما تمعن و بصيرة للفكر المُرتَحَل إليه ، يشعرً المتحمسَ أنه ظفَرَ بضالته المنشودة و خلاص اضطرابه الفكري فإذا به أسيرا لتسرعه . في مشهدنا الفكري نجد اللائكي الرأسمالي من يتلطف في التعامل مع الدين و يهادن مهادنة التحايل الحيادي و فيه اللائكي المُتَمركِس يرسلها شواظا من نار فيعلنها حربا شعواء على الغيبيات و قيم السماء فينادي بتحرير العقل من الدين و إن صار الآن يتحدث بلغة الملاطفة و خطاب التسربل بالحياد الموهوم. بين هذا و ذاك نجد لائكيون أمازيغ نخبويون – ولا نعمم – تسوقهم تخريجات هجينة تحاول عبثا أن تلتمسَ لها مكانا في التراث و العرف التاريخي فتتميز عن أصناف لائكية مُستَورَدة و ما هي إلا لائكية مصنوعة لها أنياب . و ينحشر بين هذه الجوقة الإيديولوجية أكاديميون لا أصل لهم تحديدا في الانتماء الولائي يتحدثون في كل شيء و بلغة تارة تُلامسُ المنطق الرأسمالي و معجمه المتداوَل و تارة أخرى تأخذهم حماسة اللغة الثورية فيتحدثون بمنطق حربي عن " الرجعية " و " الإسلامويين " و " الظلاميين " ، تتعايش الأصناف الطارئة على المجتمع بشكل يوحي بكونها تعبيرا عن تعددية اختلافية محمودة تُضاهي أخواتها في الغرب و تُحاكي أدبيات التنوع الفكري و قيم النسبية التي تنص عليها " المواثيق الدولية " بيد أنها في نظرنا تُخفي تحتها واقع الأزمة/الأصل و تُنذرُ بفتن اختلافية داخل المجتمع الواحد عرفَ عبر مفاصل التاريخ إطارا مرجعيا واحدا مُحتكَم إليه رغم شذوذ الممارسة السياسية الأموية و ما تلاها عن النموذج الأم . و قد يُستَدرَكُ علينا سريعا تضاهي سرعة الانقلاب من إطار لإطار بالحديث عن ضرورة تدبير الخلاف و عقلنته و مأسسة الحوار و احترام الآخر فيمضي المَتعجِّلُ انسياقا مع تاريخ الغرب ليضري لنا أمثلة واقعية من نموذج الفكر الغربي في تعاطيه مع قضايا المجتمع و الإنسان و الاقتصاد فيحتجّ علينا بواقع هو أصلا حجة على منطق تفكيره ، فالعاقل اللبيب يرى بوضوح كيف تتعانق الثقافة الغربية مع حضارته التي تأسست على نمط التجريد العقلي للقضايا و كيف لا تتشاكس الهوية الثقافية الغربية الغربية مع أصول حضارته التي ينسبونها – بشهادتهم – إلى العقل اليوناني الصرف ، و بالتالي فطبيعة مكونات العقل الغربي المعاصر تنتمي إلى مجتمع تداولي موروث احتفظ بالقيم الحضارية و لم يتطور إلا في ظل أحشاءها ، أي في أحضان المجنمع الواحد ذو الهوية الواحدة ، على أن هذه التعددية الظاهرة التي يلتقطها المغلوب على أمره فيحسبها مبدأً مفصولا عن قيم المجتمع لا تقدر أن تستوعب قيم الاختلاف خارج هذا المجتمع ، دليلنا على ذلك ما يشهده العالم الإسلامي من هجوم فكري غربي شرس مًضلِّل يطالُ حتى أسس الإسلام نفسه الذي يتعارض منطقه الداخلي مع أشكال التنميط الثقافي الغربي ذو البعد الدهري الواحد ، بل و نجد حتى من أنصار التعددية الاختلافية الغربية من يعلنها حربا على قيم الشرق الموسوم بالتخلف و الانحطاط خصوصا بعد أحداث 11 شتنبر حيث عرَّت دعاوى التعددية و فضحت الوجه القبيح لمثقفي الغرب صانعي الاستخراب و مهندسي الاستتباع . القضية كل القضية أن الاحتجاج بالغرب صارَ عند مقلٍّدينا التُّبَّع لا يتجاوز استدلالا ينم عن عقدة نقص ! لما أصبح اللعب بخيار التعددية و غدا كل طرف يُدلِّس بضاعته باسم قبول الآخر تحوَّلت النخب و قيادات الأحزاب اللائكية و العديد من الشباب المتحمسينَ المتسرعين إلى مجتمع آخر تداخلت في عقولهم أنماط فكرية تستمد أسسها من عالم آخر مُهيمن بحق صدارته الحضارية و تشاكست في أصول مناهج تفكيرهم قيم تنتمي إلى مجتمع تداولي أصيل ورثه بالفطرة و قيم تغريبية تحاول عبثا إيجاد موقع لها في الذات . مجتمعان تحت سقف واحد كما كتب المفكر الإسلامي منير شفيق في كتابه النفيس ( قضايا التنمية و الاستقلال في الصراع الحضاري ) ، مجتمعان يمضيان بصمت رهيب في وسط واحد متناقضان في الأصول الفكرية و متضادان في أنماط العيش ، أضداد في وحدة تتصارع حصيلتها تمزق مستدام . و حتى لا يُظن بنا أننا نستعير أحد قوانين الجدلية المادية الماركسية المتمثلة في قانون وحدة الأضداد و صراعها لتفسير حركة المجتمع نسارع من جهتنا إلى الجزم بكون هذا الصراع المتناقض في وحدة لا يُنتَظرُ منه تحولا من كمي إلى كيفي يفضي إلى ميلاد مجتمع جديد بخصوصيات تُفارق المجتمعين المتخاصمين في الخفاء كما يذهب إلى ذلك دعاة المادية الدهرية ، و إنما نتبع في سبيل ذلك آليات الهدي النبوي و أضواء المأثورات النبوية القاضية باختلاط الحق بالباطل و فتن المجتمع ، فهذا التناد القيمي لا يُعبر إلا عن فتنة مجتمعها مجتمع مُشوّه لا هوَ خالص يعود إلى عمقها التاريخي و لا هو مجتمع غربي مستنسَخ ، لكن ما حيلتنا و اللائكيون على اختلاف ألوانهم و تنوع مشاربهم قد صكوا آذاننا بشعارات استهلاكية رنانة يرددونها بلا كلل يُخادعون بها البعض فيمضون في تعداد محاسن التعددية و ضرورة تجاوز الفكر التقليدي و الإشادة بعصر "النهضة " و " التنوير " ... أصوات مبتورة عن روح الشعوب !. لا يقدر اللائكي الاعتراف بأزمته المستديمة القائمة على تهميش الدين و مسخه و لا يستسيغ عقله أن يكون الدين منطلق الشهود و النهوض إلا أن يكون هذا الدين في خدمة العقل يُسخِّره و يطالبه بالتجديد ، فهو عقل محكوم بعقدة لازمته عبر التاريخ الغربي يحتكر فيه " العقل المجرد " الحقائق و مفاتيح الخلاص و لا يسمح "بالعقل المسدد " أن يكون له قدم في رسم خارطة المستقبل ، كيف يتحقق ذلك و قد علمت المدرسة الوضعية كيف أصبح الدين خرافة و عقلية " ميتافيزيقية " كان فيه الإنسان القديم يستند إليها في تحليل الظواهر ! يُطالب اللائكي /التابع بتحويل الدين إلى طقوس و ترانيم وراء الجدران يُحوقل فيه أصحابها ما شاءوا ، و يحتجُّ هذا اللائكي المقلِّد بكون الدين مقدس الأجدر له أن يكون في أعلى عليين بعيدا عن طبائع البشر المتقلبة ، أسطوانات مهترئة لا تسر السامعين و لا تكشف البضاعة المُدَلَّسة . عقل اللائكي/التابع عقل متجانس غريب ، وجه غرابته أنه لا يكتفي بإبعاد و استئصال العقل الإسلامي بخطاب لَغوي قدحي محمول على الألفاظ التنابزية فحسب ، و إنما أصبح ينصب نفسه العارف بالإسلام و بتاريخه كما لو أنه فقيه متضلع أو عالم أصولي مُدقق و ما هو إلا لائكي يتقمص ، لائكي باسم الإسلام فاعجب ! على أن اللائكي /التابع لا نكاد نعثر في جعبة عقله ما يستحق أن يكوِّن صفات مستقلة ينفرد بها عن اللائكي /المتبوع غير التدليس و تزوير التاريخ و تأويل أحكام الدين تأويلا وضعيا ، فإذا كان السيد اللائكي / المتبوع يُعبِّر عن مطالبه اللائكية بجرأة لا تجد في الدين المنافس ما يُكَوِّن شريعة مدنية و لا يرى بأسا في أن يتعايش اللواطي و الزاني و المنحلات و الخبيثات في مجتمع تعددي تحكمه مبادئ لائكية لا شأن لها بالأخلاقيات بوصفها حريات فردية فإن اللائكي / التابع تحكمه عقدة الخوف من البوح بمطالبه المكبوتة تجعله أمام وجود مجتمع لا يزال يحتفظ بوازعه الديني الأصيل تجعله يسلك خيارا آخر يقوم على التغني بالحريات و المجتمع المدني و حرية الاعتقاد و تحرير المرأة .. و ما تحت السطور أهوال . تجد اللائكي/ المتبوع منسجم مع هويته و تاريخه المفصول عن الهداية الربانية منذ ديموقراطية اليونان/المهزلة انسجاما لا يُعبِّر عن الحكمة أو التوازن بقدر ما يحيل مباشرة إلى الشرود العقدي الديني ، و تجد في مقابله اللائكي / التابع مشرود عن أصوله ممزق في عقله يلتمس الخلاص من غير طريقه و لا يبالي بما يفعل ، لكنها الحماقة بعينها . لائكي تابع يحاول عبثا طرح محفوظاته ينشد التغيير من طريق واحد فيحسب نفسه صاحب مشروع وجب الالتفاف حوله ، يُردد المفاهيم المنحوتة غربيا و يعيد إنتاج تاريخ انتهى و كأنه وصل الجبال طولا . على أنه و هو ماضٍ في تقليدياته لا يشتغل إلا في ماضي غيره يُوظِّف أسلحتهم البالية فيحسب ذاته مجددا في نظريات التغيير و أصول الحراك الاجتماعي و ما هو إلا في قبضة أسياده أسيرا منزوع السلاح يُطالب التغيير بأدوات من صنعوا التخريب و يقتفي أثر من صنعوا التغيير في بلاد هو خارج عنها البتة . ما طبيعة المجتمع السياسي و الاجتماعي المنشود عندهم إلا صورا منسوخة تدور حول التداول على السلطة و التعددية الحزبية و حرية الرأي و صحافة حرة و انتخابات نزيهة و الباب لازال مفتوحا...أجسام بلا قلوب! صنف من اللائكيين مَن يفتخر بلائكيته و يدعو إلى الفصل التام بين الشأن الديني و السياسي بوصفهما مجالين لا يلتقيان في تسيير دواليب الدولة إذ تتحرك في عقله الوضعي صورتان متلازمتان ، صورة حكم ديني مطلق ينصب المشانق و المقاصل و يخنق الحريات و يُلاحق الأحرار و يقطع الأيادي و صورة ترتسم فيها فلسفة " الأنوار " و " العقد الاجتماعي " و تعددية حزبية برلمانية تُنافِس و حكم حيادي لا شأن له بما لله لله ، عقلان في عقل واحد ! فمتى يتخلص اللائكي من الصور البنائية الوهمية و ينصت لنداء الله حيث الحاكم مسوس بتدبير المعاش و حفظ الدين ، متى يخلع من عقله فلسفة غيره و يتيحَ لقلبه و عقله بتدبر شمولية الدين بوصفه قيم سلوكية مشدودة إلى منظومة الآيات البينات و المأثورات النبوية ؟ متى يُحرر عقلَه المستعبَد بفكر أسياده ؟ الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة و السياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة ، جملة صاغها أبو حيان التوحيدي في ( الإمتاع و المؤانسة ) . ذلك صنف يتغذى على مخلفات أصحاب " الأنوار " فصار ذيلا لهم حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلوه معهم ، و ثمة صنف آخر مخضرم بلون الإسلام و اللائكية لا يرى أي تناقضا بينهما يُدافع عن الأليكة من داخل الإسلام و يُنافح عن الفصل التام ثم يرصد شواهد تبريرية يلوي فيها المعاني و المباني لتصير في خدمة عقله المؤليَك ، تُطالبهُ بالأدلة فيُخرج لك " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " فإن حاصرتَ فكره الضيق ببيان المعنى الدقيق و كشف سبب الورود احتجَّ و غضب و مضى في استعراض محفوظانه من قاموس " الحداثة " و " العقلانية " و مسايرة العصر و عصر العقل ...و ما هي إلا لائكية متسربلة بالدين ، صنف كهذا أشد بأسا من أوله حيث انفرد الأول بالتقليد والدجل و الجهل بالدين و جمع الثاني بلاوى التأويل من داخل الدين بنية العقل اللائكي بنية نافية لا تسمح بتصور الدين خارج الطقوس الجامدة و لا قابلية له بمراجعة طروحات الفصل بفعل ثقل التاريخ الغربي و هيمنة مقاييسه على الشعوب المستَعبَدة ، بحيث يندر وجود من ينقد قناعاته الموروثة من سجلات غيره إلا أن يكون شبح الموت يلاحقه بالنذير و الوعيد يُزعزع له ولاءاته و يُذَكِّرُه بالمصير و اليقين فيهرع بالانقلاب على اعتقاداته الراسخة إذ تتحرك فيه آنذاك الفطرة المطموسة بديلا عن غرور العقل و عناده ، لذلك تجد العديد من المفكرين الذين طلَّقوا ما ءامنوا به عندما زحف سن الشيخوخة فصاروا أعداء لما كانوا عليه يكتبون و يردون على أنفسهم ، و في ذلك عبرة لغيرهم قبل نسخ التجربة . لكننا و نحن نُواجِه اللائكي بأسئلة الصدق السياسي و التراث السياسي و عقل الفقيه الذي استوعب عصر زمانه و تقلباته المتموجة نراهُ يُواجهنا بأسئلة العصر و ما يعرفه من تحولات جذرية في النظام الدولي و العلاقات الدولية و ما استجد في أنظمة علم السياسة من أطروحات و مبادئ قالوا عنها أنها كونية ، و كأنه يشهِر في حقنا آخر ورقة يملكها هذا العقل اليتيم ، فبعدما انهزم في ميدان التأصيل الشرعي و التاريخي لتبرير خيار الأليكة و حصَدَ في ذلك مرارة الجهل و رفض الشعب المسلم راحَ ملتجئا إلى فلسفة العصر يُجرِّبُ فيها حظه البئيس فينطلق لسانه بالحديث عن انعدام البرنامج السياسي لدى الإسلاميين و الجمود الفقهي و عقلية " الظلام " و " الرجعية " و كأننا أمام تُجَّار اللَّغو الكلامي و عقليات التسويق الإعلامي تُتقِن اللعب بالألفاظ الهجينة و تعوزُه النضج السياسي و الفكري إن لم يكن من منطلق واجب الدين و ما يفرضه من مراقبة القول الفاحش فمِن باب فلسفة "الإخاء" الفرنسية التي يؤمنون بها مطلقا ! مِن ضمن عجائب هذا العقل المستَورَد أنه لم يكتفِ بالتغطية على الاعتراف بأزمته الدينية و جفاف قلبه فحسب ، و إنما صارَ يضع نفسه كما لو أنه إسلامي يُنافح عن مشروع النهضة الإسلامية و يُقدم نفسه من داخل خط الإسلاميين الحركيين فتراه يصرخ في وجه الإسلامي الأصيل بكلمته الهزلية " كلنا إسلاميون " أو على تقدير : كلنا مسلمون ! يافطة تُحاول ستر عناده و تخفي وراءها عالما مغايرا من الانخلاع الديني و الشرود القيمي و كأنه يُخاطب قوما يجهلون تجليات و علامات التدين ، لائكي إسلامي و لك أن تعجب . يُذكرنا هذا بصرخة ألم اللائكي فؤاد زكريا إبان المناظرة الشهيرة عام 1413/1992 بينه و بين المفكر الإسلامي محمد عمارة تحت عنوان ( أزمة العقل العربي ) حيث أعاد الأسطوانة الخادعة لتدليس المشروع المعادي للدين ، أسطوانة أننا جميعا إسلاميون ، فالعبارة عنده لا تتجاوز كون المسلم تربى في ظل الإسلام و لا يودُّ أن يفهم من الإسلامية مشروعا للنهوض و الإقلاع التنموي يستوعب مجالات الحياة كلها و طبقات المسلمين كلهم ، لائكية تدَّعي الدين عليها عزيز ! تُرى هل يجوز في عرف العقل أن يكون الماركسي الدهري مؤمنا بحرية السوق و ملكية الأفراد و تحرير الرأسمال غير أحمق موصوف بمحرف الماركسية اللينينية ؟ هل يجوز لليبرالي يؤمن بمذهبه الاقتناعَ بالتأميم و نزع الملكيات و المساواة في الأجور غير معتوه يُؤمن "بالبنية التحتية" كأساس و ينافح في المقابل عن الاقتصاد الحر ؟! و نستطرد قياسا و هل يمكن لإسلامي/زَعَمَ لم تسجد جباهه للمولى عز و جل قط لا يرى الحرام حراما و الحلال حلالا أن يضعَ نفسه ذادا للإسلام إلا أن يكون في عقله مس ! أو يفهم الإسلامية تعددية اختلاطية تجوز عنده عصرنة الإسلام و تحديثه بما لا يتناقض مع القوانين الدولية و المواثيق الكونية/قالوا ، و للمزيد في هذا الموضوع يُرجى قراءة كتاب : الإسلام و الآخر من يعترف بمن و من ينكر من ؟ للد. محمد عمارة . تخبطات هذا العقل يجعله عقلا مختلطا ، فهو من جهة يقوم بإعادة إنتاج تاريخ غير تداولي و يطنب في الحديث عن مزايا الأليكة و تحييد الدين و تحكيم "العقلانية" في السياسة و تدبير القضايا ، لكنه في المقابل لا يودُّ أن يخسر دينه و تاريخه الموروث تَجرُّهُ الفطرة و شموخ الإسلام إلى البوح بعليته و مكانته ، غير أنها علية جمود توضع في الرفوف و بين جدران المساجد و إلا فهو إسلام مستحدث طوَّره "إسلامويون" معاصرون بدافع التميز ! تأخذهُ الرجفة خوفا من أن يتعرى عن إسلاميته المزعومة أمام الإسلامي الأصيل فيسارِعَ للتقمص تمويها ، جرأة في تهميش الدين و جرأة في احتكاره ! لكن هذا الدين الشامخ لا يحتاج إلى من يكشف أهله من غيره ، فتمظهرات التدين و الالتزام الشمولي به لا تعوزه فلسفة للاستدلال إذ نظرة في السلوك اليومي تكشف من يقفُ مع أصحاب الصدود و من يكافح ليشيع الإسلام و يسري في القلوب . و حتى لا يُسارِعَ أحد بالاستدراك علينا فيسأل : كيف جعلتَ سابقا هذا العقل عقلا متجانسا و تسِمَهُ الآن بالمختلِط ؟ أليسَ هذا دليلا على التناقض الصارخ ؟ و نُجيب سريعا بكون هذا العقل هو فعلا عقلا متجانسا لكنه تجانس اختلاف لا تجانس وحدة ، و تجانس اختلافه هو علامة ضعفه و عجزه عن الاندماج في خط التداول يجعله أقرب إلى عقل ممزق في هويته و مرجعيته الشاملة ، في حين أن اللائكي المتبوع ينفرد بتجانس وحدته الداخلية ، فهو عقل يتناغم مع التراث و لا تتشاكس في ذاته حطاب دهري و خطاب مشدود إلى قوة الدين في الوقت الذي تتداخل في عقل اللائكي التابع نموذج متغرب فرض نفسه بقوة الهيمنة و السطوة مع نموذج متصل بتاريخه ، و هذا التجانس المختَلَف في ذاته هو ما يمثل بنية عقلية معلقة لائكية في ديار الإسلام ركبت موجة التغريب المتخلِّف . لو كان اللائكي الإسلاموي يحمل هموم تحكيم شرع الله فتأخذه الغيرة على حرمات الله لكان له قدم في مشروع النهضة الإسلامية المنشودة و لكان الاختلاف معه اختلاف سُبُل فرعية للإصلاح ، لكن القومَ تأخذهم العزة بالإثم فيحسبون الدين عليهم مقصلة ، قوم اندرست فيهم قيم الأخلاق فأصبح الدين عندهم " مسألة " من المسائل لا يتجاوز علاقة العبد بربه ، لو كان اللائكي الإسلاموي صريحا مع ذاته فيعلن عداءه و حربه على الدين بلا مداراة لكان فعلا صاحب مشروع ، لكنه مع الأسف يُدلِّسُ البضاعة و يغطيها بخطاب ثرثاري ينتحل العناوين و ينحت المفاهيم فيحسب نفسه مُنظِّرَ مشروعٍ نهضويٍّ و ما هو إلا امتدادا غير شرعي لعقل متمرد على الدين حينا من الدهر. فإذا كان من المحال إطلاق صفة الماركسية على الليبرالي و العكس صحيح فلأن جذور الاختلاف يعود إلى أساسات التغيير و قواعد الإصلاح الشامل المشدودة للإطار الإيديولوجي الناظم ، و جريا على هذا النمط يكون التناقض الحاد بين اللائكي الإسلاموي في مشروعه التغريبي الاسقاطي المُنتَحَل و بين الإسلامي الأصيل في مشروعه الوجودي يكون أنصع من أن تعيبه خدوش ، فكيف يدَّعي اللائكي إسلاميته في غيابٍ لاحترام أحكام الله و سنة رسوله الكريم ؟ و كيف لعقل لائكي مجرور به لا يرى أولوية الحل الإسلامي أن يضع نفسه من دعاة الإسلام ؟ شتان بين عقل مذهول بقيم الغرب مُعقَّد بحداثة وهمية مشدودة إلى عقل اليونان رمز العقلانية و بين عقل يتحرك بموجب قيم الإسلام يُقدِّم على ضوءه تجديدات فقهية و نظرات تداولية إن لم تشفع لها مرجعيتها الإسلامية التأسيسية تشفع لها خطها التراثي و قيمها التداولية الأصيلة . مشكلة اللائكي إذن لا تكمن في مشروعه المنقول الثاوي لقيم تفكيكية لأسس الحياة الإسلامية فحسب ، و إنما يرتبط أيضا بآليات تفكير هذاالعقل حيث غدا التقليد السيئ أحد مرتكزات القول الفلسفي و الفكري ، الشيء الذي ينزع عنه الأصالة و يُلحِقه مباشرة بفضاء أجنبي لا صلة له بمحرك الجماهير ، فكيف إذن لنخب لائكية أنهكتها الاغتراب أن ينسجموا مع مشروع التغيير الجذري و هم جزء لا يتجزأ من معيقات النهضة ؟ إلى أن يفيق هذا العقل المُشَرَّد في تكوينه نَدَعُ الكلمة الحرة للشعوب !