هام: هذا المقال يأتي كرد على مداخلة الوزير المكلف بالعلاقة مع البرلمان لحبيب الشوباني، ومداخلة رئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب محمد حنين، في الندوة العلمية التي نظمها فريق بحث الحياة الدستورية والسياسية بالمغرب تحت عنوان "رهانات المجتمع المدني على ضوء دستور 2011 "بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا. أمام تصاعد وتنامي دور هيئات المجتمع المدني، في الاهتمام بقضايا الشأن العام، وسعيها الدؤوب إلى المساهمة في القرار السياسي أو في تفعيله او في تقييمه ومراقبته، اصبح امر تخويلها هذا الاختصاص واقعا يفرض نفسه بإلحاح، وهو الامر الذي لم يغفله دستور المملكة لسنة 2011، حيث نص بشكل صريح على مساهمة جمعيات المجتمع المدني المهتمة بقضايا الشأن العام ، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية وكذا في تفعيلها وتقييمها. ولم يتوقف المشرع الدستوري عند إشراك هيئات المجتمع المدني، في مراحل صناعة السياسات العمومية بل تعداه إلى التنصيص على هذه الامكانية بالنسبة للمواطنات والمواطنين العاديين دون الحاجة إلى تنظيمات مهيكلة مدنية أو سياسية لتأطيرهم، حيث خصهم بتقديم ملتمسات في مجال التشريع يتوجهون بها إلى المؤسسة التشريعية ، كلما رأوا إمكانية مساهمتهم في تدبير قضايا الشأن العام. إلا أن تفصيل هذه المبادئ الدستورية وتفعيلها يتوقف على إصدار الإطار القانوني المفصل لها والمنظم لمسطرة تحريكها. وأمام تأخر صدور الإطار القانوني المنظم لكيفية تفعيل هذه المساطر، ساد جدل كبير في الوسط السياسي بين مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين والقانونيين، حول تاويل الفصول الدستورية المؤطرة لهذه المساطر الجديدة، وأثناء تتبعنا لهذا النقاش لاحظنا أن أغلب الباحثين والفاعلين يتجهون صوب التاكيد على ان المشرع الدستوري خول لجمعيات المجتمع المدني إيوالية دستورية قوية من شأنها أن تسمح للمجتمع المدني بأن يكون طرفا موازيا للبرلمان في عملية إنتاج القرار التشريعي ، ويتعلق الامر بحق تقديم ملتمسات تشريعية تفعيلا للفصل 14 من الدستور. وقد ذهب الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني السيد الحبيب الشوباني ، نحو تاكيد نفس التاويل أثناء تدخله في أشغال الندوة المشار إليها اعلاه، ليؤكد ان جمعيات المجتمع المدني قد وضع المشرع الدستوري أمامها تقنية الملتمسات التشريعية كتقنية جديدة من شانها ان ترتقي بها نحو فاعل أساسي في عملية إنتاج السياسات العمومية، مؤكدا أن تأويل الفصل 14 من الدستور الذي يمنح الحق للمواطنات والمواطنين حق التقدم بملتمسات تشريعية، يراد به فتح المجال اما جمعيات المجتمع المدني لممارسة هذا الاختصاص، وهو الامر الذي عززه الأستاذ محمد حنين رئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان بمجلس النواب، بوثائق من الميدان ليؤكد أنه تفعيلا للفصل 14 من الدستور توصل لحدود الساعة بالعديد من الملتمسات من جمعيات المجتمع المدني تحمل مقتضيات قانونية مهمة ينتظر تبنيها او تسجيلها من اجل التداول فيها، وقدم القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل ترسيم الامازيغية كنموذج تقدمت به جمعيات امازيغية، تفعيلا لمبدأ الديموقراطية التشاركية في إنتاج القرار التشريعي. فإلى أي حد يمكن اعتبار هذا التأويل الذي تقدم به الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان، ورئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان متسقا مع غاية المشرع الدستوري ومنسجما مع روح الدستور؟ إن الاجابة على هذا السؤال تستدعي منا قراءة متانية وتحليلية لفصول الدستور التي أدت إلى بروز هذا النوع من التأويل ، لنخلص في النهاية إما إلى تأكيد ما ذهب إليه أغلب الفاعلين ، او إلى دحضه، وسنعمل على بيان ذلك بالشكل التالي: في الاختلاف بين مضمون الفصلين 14 و 12 من دستور المملكة لسنة 2011 من اجل بيان اوجه الاختلاف بين النصين سنعمل على تفصيل كل فصل على حدة لنخلص لنتائج متفرقة ثم سنعمل فيما بعد على تركيبها لبناء خلاصات الموضوع أولا : الفصل 12 من دستور 2011 تنص الفقرة الثالثة من الفصل 12 على ما يلي: تساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديموقراطية التشاركية في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها . وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة طبق شروط وكيفيات يحددها القانون" وتفصيل هذا على الشكل التالي: _ جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، بإمكانها أن تساهم في إعداد قرارات لدى السلطات العمومية المحلية والإقليمية والجهوية والمركزية، لتساهم في تنظيم الشأن العام عندما يتعلق الامر بموضوعات تهم مجال التنظيم، كما يمكن لها أن تتقدم بمشاريع لدى المؤسسات المنتخبة ، إن المحلية منها ( الجماعات الترابية)، او المركزية (البرلمان)، عندما يتعلق الامر بمواضيع يتطلب مجال إعدادها مساطر تندرج ضمن صلاحيات المؤسسات المنتخبة. _ جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، من شأنها المساهمة في تفعيل وتقييم قرارات ومشاريع مصدرها السلطات العمومية او المؤسسات المنتخبة. إلا ان هذه الصلاحيات لا يمكن لجمعيات المجتمع المدني وللمنظمات غير الحكومية، ممارستها إلا بعد المرور بمرحلتين تشريعيتين مكملتين لمقتضيات الفصل 12 من الدستور وهما: المرحلة الاولى: هي مرحلة صدور قانون عادي لبيان شروط وكيفيات تفعيل مسطرة مشاركة جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في إعداد قرارات ومشاريع لدى السلطات العمومية والمؤسسات المنتخبة، ومن شأنه كذلك ان يبين المواضيع التي يمكن ان تشملها هذه المسطرة من المواضيع التي ستحتفظ بمساطرها التقليدية والخاصة. المرحلة الثانية : هي مرحلة التنصيص على هذه المساطر في الأنظمة الداخلية للمؤسسات المنتخبة وفي المراسيم والقرارات المنظمة لعمل المؤسسات العمومية. فبدون المرور بهاتين المرحلتين القانونيتين لا يمكن لجمعيات المجتمع المدني وللمنظمات غير الحكومية أن تجد مسلكا نحو السلطات العمومية، او المؤسسات المنتخبة نظرا لانعدام النص القانوني الموضح لكيفية تفعيل هذه المساطر، وكل ممارسة لهذا الاختصاص من خارج إطارها القانوني المتكامل يعتبر اعتداءا صريحا على منطوق الدستور، لأن من شأن صدور القوانين المؤطرة لها ان تضع حدودا قد تمس من خارج وجود هذا الاطار القانوني. استنتاج رقم 1: جمعيات المجتمع المدني والمنظمات الغير الحكومية، تساهم في انتاج السياسات العمومية وتدبير الشأن العام عن طريق قرارات ومشاريع، والقانون العادي هو من أسند إليه صلاحيات تنظيم شروط وكيفيات تفعيل هذه المسطرة. وللإشارة فقط ، المجتمع المدني لا يمكن له ان يباشر دوره كمساهم في تفعيل السياسات العمومية وتقييمها وإعدادها ومراقبتها إلا بعد إنشاء هيئات للتشاور، أسند صلاحية إنشاء للسلطات العمومية ، وذلك عملا بمقتضيات الفصل 13 من الدستور الذي ينص على ما يلي: تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها". ثانيا : الفصل 14 من الدستور ينص الفصل 14 من الدستور على: "للمواطنات والمواطنين ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع" لو حاولنا قراءة النص بحرفيته سنجده يفيد أن المشرع الدستوري أتاح للمواطنات والمواطنين ، إمكانية المساهمة في القرار التشريعي، والمشاركة في إنتاج السياسات العمومية دون الحاجة إلى وجود إطار سياسي أو مدني لتأطير هذه المشاركة، وهي مسطرة فريدة من نوعها من شأنها تعزيز قيم المواطنة والديمقراطية التشاركية، وهي تقنية تعتمدها أغلب الدول الديمقراطية العالمية في دساتيرها كإيطاليا وإسبانيا...، إذ من خلالها يمكن للمواطنات والمواطنين المشاركة بشكل مباشر في إعداد السياسة التشريعية. إلا ان المشرع الدستوري وحفاظا منه على الإستقرار والتوازن التشريعي ربط هذه التقنية بشروط ومساطر سيتم تنظيمها وبيانها بقانون تنظيمي، حيث في غالب الأحيان وانسجاما مع ما هو معمول به في البلدان الديموقراطية سيعمل القانون التنظيمي على بيان ما يلي: _ العدد الواجب توفره من المواطنات والمواطنين للتقدم بملتمس في مجال التشريع _ نوع الاستمارة وشكلها الواجب ملؤها من طرف الملتمسين _ المسطرة الواجب اتباعها لوصول الملتمس إلى البرلمان _ المسطرة التي سيتبعها من داخل البرلمان ليتحول من ملتمس إلى قانون _ المواضيع التي يمكن ان تكون يلجأ فيها المواطنات والمواطنون ّإلى تحريك مسطرة الملتمسات التشريعية، مع بيان المواضيع القانونية التي تخرج عن هذا النطاق. استنتاج رقم 2: الملتمسات في مجال التشريع هي مسطرة خص بها المشرع الدستوري المواطنات والمواطنين دون ما حاجة إلى وجود تنظيم سياسي أو مدني لتأطيرهم ، بالتالي هو تصرف لا يخص جمعيات المجتمع المدني كإطارات بل يشملهم فقط عندما يتجردون من إطاراتهم المدنية، وأسند لقانون تنظيمي مهمة بيان شروط وكيفيات تطبيق هذه المسطرة. ثالثا: نتائج المقارنة _ جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية أسند لها دستوريا حق المساهمة في إعداد وتفعيل وتقييم السياسات العمومية عن طريق قرارات ومشاريع، في حين أسندت للمواطنات والمواطنين كمجموعات بشرية مستقلة عن التنظيمات المدنية والسياسية مهمة المشاركة في إنتاج السياسات العمومية عن طريق ملتمسات في مجال التشريع. _ المساطر المتعلقة بتنظيم كيفيات وشروط ممارسة جمعيات المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية أسندت للقانون العادي وللقرارات التنظيمية التي تصدرها السلطات العمومية، في حين أسندت مهمة بيان مساطر وكيفيات تقديم ملتمسات في مجال التشريع لقانون تنظيمي _ لا يمكن تفعيل مبدأ مشاركة المجتمع المدني والمواطنات والمواطنين، في مجال انتاج السياسات العمومية إلا بعد صدور الإطار القانوني الذي يبين كيفيات ممارسة هذه الحقوق، وكل تفعيل خارج هذا الإطار يعتبر مسا مباشرا وتعديا صريحا على منطوق وروح الدستور. تخريج بناء على كل ما سبق لا يمكن أمام وضوح الفصول الدستورية القول بأن المشرع الدستوري قد أتاح لجمعيات المجتمع المدني إمكانية التقدم بملتمسات في مجال التشريع، لأنه حق صريح خص به فقط المواطنات والمواطنين دون حاجتهم لإطارات مهيكلة، اما الجمعيات المدنية لها الحق في ذلك عن طريق تقديم قرارات او مشاريع وليس ملتمسات، أما التصريح بأن اللجان البرلمانية حاليا تعمل على دراسة ملتمسات قدمت لها من طرف جمعيات المجتمع المدني يجعلنا امام اعتداء صريح على منطوق وروح الدستور من جانبين، الأول أن الجمعيات لا حق لها في تقديم ملتمسات، والثاني لكون الإطار القانوني المنظم لمسطرة تقديم المشاريع من طرف الجمعيات أمام المؤسسات المنتخبة لم يصدر بعد مما يجعل منه تصرفا قانونيا باطلا، وبهذا يكون ما ذهب إليه كل من الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان، ورئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان ، في تأويلهم لفصول الدستور المتعلقة بالمجتمع المدني مجانبا للصواب. سليمان التجريني / باحث أكاديمي في سلك الدكتوراه