تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم "داعش" بالساحل في إطار العمليات الأمنية المشتركة بين الأجهزة المغربية والاسبانية (المكتب المركزي للأبحاث القضائية)    المغرب والصين.. تطور مستمر لعلاقات اقتصادية وتجارية    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    ارتفاع مؤشر التضخم في شهر أكتوبر    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    الاستثمار العمومي.. بين الأرقام والواقع    أحزاب مغربية تدعو لتنفيذ قرار المحكمة الجنائية ضد "نتنياهو" و"غالانت" وتطالب بوقف التطبيع مع مجرمي الحرب    معضلة الديموقراطية الأمريكية ..    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    وزارة الصحة تطلق حملة "رعاية" في المناطق المتضررة من موجات البرد        ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    رئيس مجلس النواب…المساواة والمناصفة أبرز الإنجازات التي شهدها المغرب خلال 25 سنة    تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب        دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        كيوسك الجمعة | إيطاليا تبسط إجراءات استقدام العمالة من المغرب    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البعد الاممي في شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي

تمر علينا هذه الأيام الذكرى الخمسين لرحيل محمد بن عبد الكريم الخطابي أو ما يعرف بمولاي موحند أو ميس نسي عبد الكريم بتعبير أهل الريف، انه مفجر الثورة الريفية ضد الاستعمار الاسباني والفرنسي، وهي الثورة التي أصبحت فيما بعد والى اليوم مصدر الهام لكل الشعوب التواقة إلى الحرية و الانعتاق من قيود الاستعمار والعبودية. وبعد مرور أزيد من تسعة عقود على ملحمة حرب الريف التاريخية و مرور خمسة عقود على رحيل محمد بن عبد الكريم الخطابي. لازالت سيرته محط إعجاب وتقدير بالغين لدى كثير من الباحثين والمؤرخين على الصعيد العالمي، رفعوه لمقام الأبطال والقادة التاريخيين المشهورين. إلا أن المفارقة العجيبة تظل في كون سيرته وكذا التأريخ لحرب الريف لم يتم ايلاؤهما الأهمية الكافية من قبل الباحثين والدارسين المغاربة وتبقى الجهود المبذولة في هذا المجال نادرة، في مرحلة أضحت خلالها الهويات والثقافات المحلية مهددة في وجودها بفعل الانعكاسات السلبية للعولمة الليبرالية عليها. ولكن كما يقال التاريخ يعرف من يكتب ، فهو لا يكتب إلا العظماء الذين كانت لهم بصمة في هذه الحياة فيحولهم إلى الحاضرين بيننا بانجازاتهم وأفكارهم ومواقفهم رغم غيابهم المادي الجسدي ، هؤلاء العظماء هم الذين يخلد التاريخ ذكراهم، وتبقى سيرتهم منقوشة على صفحاته على مر العصور وتعاقب الدهور. فكم هم أولئك العظماء الذين مازالوا في الذاكرة ؟ مع انه مر على رحيل بعضهم مئات السنين لكنهم عرفوا كيف يأخذوا مواقعهم بين الشعوب والأمم. في تاريخ كفاح الشعوب ضد الاستعمار ونيل الحرية برز قادة وزعماء كثر، فهل هناك احد لا يعرف كيفارا وماوتسي تونغ وهوشي منغ ...؟ وكيف إذا عرفنا أن هؤلاء القادة أنفسهم ممن ألهمتهم تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي التحررية وتعلموا من مدرسته الثورية والنضالية دروس في الدفاع الشرعي عن الذات والهوية والوطن والإنسان، دروس في الحرب الشعبية التي تعتمد بشكل مطلق على الإمكانات الذاتية المبنية على الذكاء السياسي والجغرافي للمنطقة ولموازين القوى. فهذا القائد الثوري المعروف شيكفارا يعترف لمولاي موحند في زيارة له بالقاهرة بأنه اخذ خطة حرب العصابات من مشروعه التحرري. الزعيم الصيني ماوتسي تونغ قائد الثورة الصينية عندما استقبل وفد من حركة فتح الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات جاءوا يسألوه النصح والمشورة عن ماهية السبل الممكنة والرؤية الحكيمة للانعتاق من نير الاحتلال الصهيوني لفلسطين فأجابهم باستغراب كبير عن مجيئهم إليه للاستفادة من تجربته الثورية وهو الذي اخذ هذه التجربة من واحد من اكبر و أعظم الشخصيات في تاريخكم انتم المسلمين، مخاطبا وفد حركة فتح، واظاف أن أول درس تعلمه في حرب التحرير الشعبية هو من تجربة النضال و الكفاح التي قادها عبد الكريم الخطابي في الريف بالمغرب. لقد كان بحق محل تقدير من الحركات التحررية في العالم في أمريكا الجنوبية، أسيا وإفريقيا. ويحضرني هنا احد ابرز الكتاب والمفكرين الثوريين في القرن العشرين وصاحب كتاب "معذبو الأرض" انه فرانز فانون الأسود البشرة المدافع الشرس عن حقوق الشعوب المظلومة المضطهدة والمناصر للثورة الجزائرية والذي انضم إلى جبهة التحرير الوطني وكان محرراً في صحيفة «المجاهد» الناطقة باسم الجبهة رغم انه مواطن فرنسي. لقد تحدث فانون عن محمد بن عبد الكريم الخطابي كواحد من اكبر زعماء العالم الثالث التي تمثل شخصيته الفكرية والثورية الأنموذج الذي يجب أن تحتذي به هذه الشعوب لمقارعة كل أشكال الاستعمار والتمييز والعنصرية، لقد كان وهو يدون أطروحته الثورية للعالم الثالث يستحضر الأبطال التاريخيين لهذا العالم أمثال الخطابي وعمر المختار وكيفارا وهوشي منه ولومومبا...لان هؤلاء حسب فانون امنوا بقدرة شعوبهم على التحرر حتى لو كانت هذه الشعوب لا تملك شيئا غير إيمانها بعدالة قضيتها، واثبتوا بالملموس المادي والدليل القاطع أن الشعوب إن أرادت فعلت وان عزمت أنجزت، وفي هذا الإطار انتقد فانون الذي جمع بين التنظير والممارسة من خلال مشاركته في حرب التحرير الشعبية بالجزائر، العديد من يقينيات الماركسية اللينينية- رغم انه مفكر ماركسي- فمن خلال دراسته للبنيات الكولونيالية، تجاوز فانون ثنائية الاستعمار و الخاضعين للاستعمار، ورفض " الجدل" الذي اعتبر أن مرور دول العالم الثالث من الاستعمار ضرورة تاريخية لتحول مجتمعاتها نحو الحداثة والاشتراكية، فبالنسبة لفانون فان أحد هذين الطرفين زائد ويجب أن يزول. وهذا الزوال عليه أن يكون تاما و شاملا وبلا رجعة : " إن محو الإستعمار على أي مستوى درسناه هو إحلال نوع إنساني محل نوع إنساني آخر كليا شاملا مطلقا بلا مراحل انتقال" ويذهب فانون بعيدا في تحليله ليؤكد أنه لا وساطة بين طرفي العالم الكولونيالي، وأن الحدود الفاصلة بينهما هي الثكنات ومراكز الشرطة والدرك، لأن هذا العالم مطلوب منه أن يبقى منقسما إلى عالمين وإلا ما عاد عالما كولونيالي.
كما كان مولاي موحند محل تقدير من الحركات القومية العربية في كل من العراق ولبنان وسوريا وفلسطين إضافة إلى قيادة ثورة الضباط الأحرار بعد1952، في الوقت نفسه وظفت الحركات السياسية المغاربية شخصيته العالمية من اجل الترويج لنفسها عربيا ودوليا. وعلى الصعيد الغربي كان لكفاح الخطابي صدى كبيرا رغم الكتابات العنصرية والاستعمارية والتضليل الإعلامي الغربي والذي كان يصور الحاضنة الشعبية للمقاومة و المجاهدين الريفيين همجا معزولين ومجردين عن أي قيم حضارية وإنسانية. وقد تمكن مولاي موحند من ربط اتصالات عديدة بشعوب العالم وبمنظمات عديدة ساهمت بفعالية في التعريف بكفاح الريفيين، ويمكن الإشارة في هذا الصدد لجهود اليساريين الفرنسيين والإسبانيين والأممية الثالثة ، وكانت شعارات التضامن الأممي والحملة الأممية المناهضة لحرب الريف تتلخص في أربعة مبادئ أساسية أولا: السلم الفوري مع الريف، ثانيا: الجلاء عن المغرب، ثالثا: استقلال المغرب، رابعا: التآخي. وكانت وسائل هذه الحملة متعددة: كراسات وملصقات، ومناشير وإعلانات صغيرة وترويج عرائض تطالب بالصلح الفوري مع الريفيين، وكانت التجمعات تظل هي الشكل المفضل لدى الحركات اليسارية، هكذا تم إحصاء من 15 مايو إلى 15 أكتوبر 1925 مائة وخمسة تجمعا في المنطقة الباريسية وأربعمائة وثمانية وخمسين تجمعا في الأقاليم الأخرى. كما ساهمت النقابات العمالية بشكل كبير في هذه التعبئات كنقابة س.ج.ت الوحدوية. وتعددت المنابر الإعلامية اليسارية التي ساهمت في التعريف بنضال الريفيين ك"الاومانيتيه" و"الثورة البروليتارية". واخذ يتشكل في صفوف المثقفين تيار جديد معاد للاستعمار من خلال مجلات أدبية وفلسفية عديدة: مثل"الثورة السريالية" التي ظهر عددها الأول للوجود سنة 1924 و"فلسفة" مجلة طلبة السوربون وكذلك "كلارتي" التي رثت إحدى افتتاحياتها استسلام الخطابي معتبرة "انهيار الجبهة الريفية…هي هزيمة كبيرة للبروليتاريا الفرنسية". كما تم توظيف الأغنية من اجل نفس الهدف حيث ذاع صيت أغنية كانت متداولة بشكل كبير في أوساط العمال والشباب والجنود الفارين من الخدمة وهذه مطلع الأغنية:

تحت الشمس المغربية

نهلك جوعا وعطشا وبؤسا

لماذا المضي عند الريفيين؟

الذين هم في وطنهم، ولماذا شن الحرب؟

وبالتآخي سيتركون أخيرا

المغرب للمغاربة.....

من جهة أخرى كانت لدى القائد الخطابي رؤية واضحة للاستعمار فهو عنده مشروع تدميري استلابي للإنسان والوطن غير قابل للتجزيء. من هذا المنطلق دعا إلى التضامن مع كفاح شعوب العالم من اجل نيل استقلالها واتضح هذا بشكل جلي عندما وجه نداءه إلى شعوب المغرب والجزائر وتونس التي كان يجند المستعمر الفرنسي العديد من شبابها لمحاربة حركة التحرير في الهند الصينية قائلا: "إن واجبكم أيها الإخوان هو أن توفروا دمكم وأرواحكم، وان تحفظوها إلى غاية اليوم الذي لن يكون فيه مخرج آخر سوى أن نهب دماءنا للدفاع عن حريتنا ولاسترجاع سيادتنا، إن انتصار الاستعمار ولو في أقصى العالم، هو هزيمة لنا وفشل لقضيتنا، وانتصار الحرية في أية بقعة من بقاع العالم، هو انتصار لنا وعلامة على قرب استقلالنا. فكونوا إذن مع بلدكم ولا تكونوا عليه…"كما انه وجه عدة رسائل وخطابات لشعوب العالم من اجل التعريف بقضية الريف والحرب العادلة التي يخوضها رفقة شعبه، ومن ضمنها الشعب الأمريكي الذي خاطبه قائلا:" أحييك أيها الشعب -الأمريكي- المحترم، باسم الشعب الريفي الفتي والذي يعاني دائما من أهوال الحرب نتيجة إيمانه مثلكم بالحرية، إن الشعب الريفي يتمنى أن ينال يوما مكانة مماثلة لمكانتكم، والتي أحرزتموها نتيجة الجهود والتضحيات الضرورية من اجل تطلعاتكم، في فترة كنتم خلالها في كامل إيمانكم بها، كما كل الريفيين الآن".

ويمكن القول في الأخير أن استحضار شخصية الخطابي في سياقنا اليوم له أكثر من دلالة ورسالة. فالرجل بشخصيته الأممية و العالمية كما أثبتت الأحداث والوقائع، ساهم في تحرير الأمم من قيود الاستعمار وكان الحاضر الغائب بفكره ومدرسته الثورية في كل الحركات التحررية العالمية خلال القرن العشرين وكان وما يزال نبراسا للشعوب التواقة للحرية من أمريكا الجنوبية إلى أسيا وإفريقيا وكان شعاره أينما انتصرت الحرية فهذا مكسب لنا وأينما انتصر الاستعمار فهذه هزيمة لنا، وفي هذا جواب واضح على كل من يريد أن يختزل محمد بن الكريم الخطابي في شعار معين أو أيديولوجية معينة، فشعاره كان تحرير الإنسان بما هو إنسان و أيديولوجيته كانت هي من لا يكون شاهداً على عصره ، شاهداً على صراع الحقّ و الباطل في مجتمعه ، فلا يهم أن يكون "إسلاميا" أو يساريا أو قوميا أو أمازيغيا أو ريفيا أو حتى خطابيا، أو أن يكون في أي موقع و مكان واقفاً في محراب العبادة، أم جالساً على مائدة الخمر الأمر سيان.



باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
البعد الاممي في شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي









تمر علينا هذه الأيام الذكرى الخمسين لرحيل محمد بن عبد الكريم الخطابي أو ما يعرف بمولاي موحند أو ميس نسي عبد الكريم بتعبير أهل الريف، انه مفجر الثورة الريفية ضد الاستعمار الاسباني والفرنسي، وهي الثورة التي أصبحت فيما بعد والى اليوم مصدر الهام لكل الشعوب التواقة إلى الحرية و الانعتاق من قيود الاستعمار والعبودية. وبعد مرور أزيد من تسعة عقود على ملحمة حرب الريف التاريخية و مرور خمسة عقود على رحيل محمد بن عبد الكريم الخطابي. لازالت سيرته محط إعجاب وتقدير بالغين لدى كثير من الباحثين والمؤرخين على الصعيد العالمي، رفعوه لمقام الأبطال والقادة التاريخيين المشهورين. إلا أن المفارقة العجيبة تظل في كون سيرته وكذا التأريخ لحرب الريف لم يتم ايلاؤهما الأهمية الكافية من قبل الباحثين والدارسين المغاربة وتبقى الجهود المبذولة في هذا المجال نادرة، في مرحلة أضحت خلالها الهويات والثقافات المحلية مهددة في وجودها بفعل الانعكاسات السلبية للعولمة الليبرالية عليها. ولكن كما يقال التاريخ يعرف من يكتب ، فهو لا يكتب إلا العظماء الذين كانت لهم بصمة في هذه الحياة فيحولهم إلى الحاضرين بيننا بانجازاتهم وأفكارهم ومواقفهم رغم غيابهم المادي الجسدي ، هؤلاء العظماء هم الذين يخلد التاريخ ذكراهم، وتبقى سيرتهم منقوشة على صفحاته على مر العصور وتعاقب الدهور. فكم هم أولئك العظماء الذين مازالوا في الذاكرة ؟ مع انه مر على رحيل بعضهم مئات السنين لكنهم عرفوا كيف يأخذوا مواقعهم بين الشعوب والأمم. في تاريخ كفاح الشعوب ضد الاستعمار ونيل الحرية برز قادة وزعماء كثر، فهل هناك احد لا يعرف كيفارا وماوتسي تونغ وهوشي منغ ...؟ وكيف إذا عرفنا أن هؤلاء القادة أنفسهم ممن ألهمتهم تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي التحررية وتعلموا من مدرسته الثورية والنضالية دروس في الدفاع الشرعي عن الذات والهوية والوطن والإنسان، دروس في الحرب الشعبية التي تعتمد بشكل مطلق على الإمكانات الذاتية المبنية على الذكاء السياسي والجغرافي للمنطقة ولموازين القوى. فهذا القائد الثوري المعروف شيكفارا يعترف لمولاي موحند في زيارة له بالقاهرة بأنه اخذ خطة حرب العصابات من مشروعه التحرري. الزعيم الصيني ماوتسي تونغ قائد الثورة الصينية عندما استقبل وفد من حركة فتح الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات جاءوا يسألوه النصح والمشورة عن ماهية السبل الممكنة والرؤية الحكيمة للانعتاق من نير الاحتلال الصهيوني لفلسطين فأجابهم باستغراب كبير عن مجيئهم إليه للاستفادة من تجربته الثورية وهو الذي اخذ هذه التجربة من واحد من اكبر و أعظم الشخصيات في تاريخكم انتم المسلمين، مخاطبا وفد حركة فتح، واظاف أن أول درس تعلمه في حرب التحرير الشعبية هو من تجربة النضال و الكفاح التي قادها عبد الكريم الخطابي في الريف بالمغرب. لقد كان بحق محل تقدير من الحركات التحررية في العالم في أمريكا الجنوبية، أسيا وإفريقيا. ويحضرني هنا احد ابرز الكتاب والمفكرين الثوريين في القرن العشرين وصاحب كتاب "معذبو الأرض" انه فرانز فانون الأسود البشرة المدافع الشرس عن حقوق الشعوب المظلومة المضطهدة والمناصر للثورة الجزائرية والذي انضم إلى جبهة التحرير الوطني وكان محرراً في صحيفة «المجاهد» الناطقة باسم الجبهة رغم انه مواطن فرنسي. لقد تحدث فانون عن محمد بن عبد الكريم الخطابي كواحد من اكبر زعماء العالم الثالث التي تمثل شخصيته الفكرية والثورية الأنموذج الذي يجب أن تحتذي به هذه الشعوب لمقارعة كل أشكال الاستعمار والتمييز والعنصرية، لقد كان وهو يدون أطروحته الثورية للعالم الثالث يستحضر الأبطال التاريخيين لهذا العالم أمثال الخطابي وعمر المختار وكيفارا وهوشي منه ولومومبا...لان هؤلاء حسب فانون امنوا بقدرة شعوبهم على التحرر حتى لو كانت هذه الشعوب لا تملك شيئا غير إيمانها بعدالة قضيتها، واثبتوا بالملموس المادي والدليل القاطع أن الشعوب إن أرادت فعلت وان عزمت أنجزت، وفي هذا الإطار انتقد فانون الذي جمع بين التنظير والممارسة من خلال مشاركته في حرب التحرير الشعبية بالجزائر، العديد من يقينيات الماركسية اللينينية- رغم انه مفكر ماركسي- فمن خلال دراسته للبنيات الكولونيالية، تجاوز فانون ثنائية الاستعمار و الخاضعين للاستعمار، ورفض " الجدل" الذي اعتبر أن مرور دول العالم الثالث من الاستعمار ضرورة تاريخية لتحول مجتمعاتها نحو الحداثة والاشتراكية، فبالنسبة لفانون فان أحد هذين الطرفين زائد ويجب أن يزول. وهذا الزوال عليه أن يكون تاما و شاملا وبلا رجعة : " إن محو الإستعمار على أي مستوى درسناه هو إحلال نوع إنساني محل نوع إنساني آخر كليا شاملا مطلقا بلا مراحل انتقال" ويذهب فانون بعيدا في تحليله ليؤكد أنه لا وساطة بين طرفي العالم الكولونيالي، وأن الحدود الفاصلة بينهما هي الثكنات ومراكز الشرطة والدرك، لأن هذا العالم مطلوب منه أن يبقى منقسما إلى عالمين وإلا ما عاد عالما كولونيالي.
كما كان مولاي موحند محل تقدير من الحركات القومية العربية في كل من العراق ولبنان وسوريا وفلسطين إضافة إلى قيادة ثورة الضباط الأحرار بعد1952، في الوقت نفسه وظفت الحركات السياسية المغاربية شخصيته العالمية من اجل الترويج لنفسها عربيا ودوليا. وعلى الصعيد الغربي كان لكفاح الخطابي صدى كبيرا رغم الكتابات العنصرية والاستعمارية والتضليل الإعلامي الغربي والذي كان يصور الحاضنة الشعبية للمقاومة و المجاهدين الريفيين همجا معزولين ومجردين عن أي قيم حضارية وإنسانية. وقد تمكن مولاي موحند من ربط اتصالات عديدة بشعوب العالم وبمنظمات عديدة ساهمت بفعالية في التعريف بكفاح الريفيين، ويمكن الإشارة في هذا الصدد لجهود اليساريين الفرنسيين والإسبانيين والأممية الثالثة ، وكانت شعارات التضامن الأممي والحملة الأممية المناهضة لحرب الريف تتلخص في أربعة مبادئ أساسية أولا: السلم الفوري مع الريف، ثانيا: الجلاء عن المغرب، ثالثا: استقلال المغرب، رابعا: التآخي. وكانت وسائل هذه الحملة متعددة: كراسات وملصقات، ومناشير وإعلانات صغيرة وترويج عرائض تطالب بالصلح الفوري مع الريفيين، وكانت التجمعات تظل هي الشكل المفضل لدى الحركات اليسارية، هكذا تم إحصاء من 15 مايو إلى 15 أكتوبر 1925 مائة وخمسة تجمعا في المنطقة الباريسية وأربعمائة وثمانية وخمسين تجمعا في الأقاليم الأخرى. كما ساهمت النقابات العمالية بشكل كبير في هذه التعبئات كنقابة س.ج.ت الوحدوية. وتعددت المنابر الإعلامية اليسارية التي ساهمت في التعريف بنضال الريفيين ك"الاومانيتيه" و"الثورة البروليتارية". واخذ يتشكل في صفوف المثقفين تيار جديد معاد للاستعمار من خلال مجلات أدبية وفلسفية عديدة: مثل"الثورة السريالية" التي ظهر عددها الأول للوجود سنة 1924 و"فلسفة" مجلة طلبة السوربون وكذلك "كلارتي" التي رثت إحدى افتتاحياتها استسلام الخطابي معتبرة "انهيار الجبهة الريفية…هي هزيمة كبيرة للبروليتاريا الفرنسية". كما تم توظيف الأغنية من اجل نفس الهدف حيث ذاع صيت أغنية كانت متداولة بشكل كبير في أوساط العمال والشباب والجنود الفارين من الخدمة وهذه مطلع الأغنية:
تحت الشمس المغربية
نهلك جوعا وعطشا وبؤسا
لماذا المضي عند الريفيين؟
الذين هم في وطنهم، ولماذا شن الحرب؟
وبالتآخي سيتركون أخيرا
المغرب للمغاربة.....
من جهة أخرى كانت لدى القائد الخطابي رؤية واضحة للاستعمار فهو عنده مشروع تدميري استلابي للإنسان والوطن غير قابل للتجزيء. من هذا المنطلق دعا إلى التضامن مع كفاح شعوب العالم من اجل نيل استقلالها واتضح هذا بشكل جلي عندما وجه نداءه إلى شعوب المغرب والجزائر وتونس التي كان يجند المستعمر الفرنسي العديد من شبابها لمحاربة حركة التحرير في الهند الصينية قائلا: "إن واجبكم أيها الإخوان هو أن توفروا دمكم وأرواحكم، وان تحفظوها إلى غاية اليوم الذي لن يكون فيه مخرج آخر سوى أن نهب دماءنا للدفاع عن حريتنا ولاسترجاع سيادتنا، إن انتصار الاستعمار ولو في أقصى العالم، هو هزيمة لنا وفشل لقضيتنا، وانتصار الحرية في أية بقعة من بقاع العالم، هو انتصار لنا وعلامة على قرب استقلالنا. فكونوا إذن مع بلدكم ولا تكونوا عليه…"كما انه وجه عدة رسائل وخطابات لشعوب العالم من اجل التعريف بقضية الريف والحرب العادلة التي
يخوضها رفقة شعبه، ومن ضمنها الشعب الأمريكي الذي خاطبه قائلا:" أحييك أيها الشعب -الأمريكي- المحترم، باسم الشعب الريفي الفتي والذي يعاني دائما من أهوال الحرب نتيجة إيمانه مثلكم بالحرية، إن الشعب الريفي يتمنى أن ينال يوما مكانة مماثلة لمكانتكم، والتي أحرزتموها نتيجة الجهود والتضحيات الضرورية من اجل تطلعاتكم، في فترة كنتم خلالها في كامل إيمانكم بها، كما كل الريفيين الآن".
ويمكن القول في الأخير أن استحضار شخصية الخطابي في سياقنا اليوم له أكثر من دلالة ورسالة. فالرجل بشخصيته الأممية و العالمية كما أثبتت الأحداث والوقائع، ساهم في تحرير الأمم من قيود الاستعمار وكان الحاضر الغائب بفكره ومدرسته الثورية في كل الحركات التحررية العالمية خلال القرن العشرين وكان وما يزال نبراسا للشعوب التواقة للحرية من أمريكا الجنوبية إلى أسيا وإفريقيا وكان شعاره أينما انتصرت الحرية فهذا مكسب لنا وأينما انتصر الاستعمار فهذه هزيمة لنا، وفي هذا جواب واضح على كل من يريد أن يختزل محمد بن الكريم الخطابي في شعار معين أو أيديولوجية معينة، فشعاره كان تحرير الإنسان بما هو إنسان و أيديولوجيته كانت هي من لا يكون شاهداً على عصره ، شاهداً على صراع الحقّ و الباطل في مجتمعه ، فلا يهم أن يكون "إسلاميا" أو يساريا أو قوميا أو أمازيغيا أو ريفيا أو حتى خطابيا، أو أن يكون في أي موقع و مكان واقفاً في محراب العبادة، أم جالساً على مائدة الخمر الأمر سيان.
سفيان الحتاش
باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.