في حوار مع الدكتور محمد بازي حول مؤلفه ” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون ” : ” تأليف “الجوهر المكنون” جاء في قلب الإحساس بضرورة حفظ التراث المحلي، وتحويله من الطابع الشفوي إلى الطابع المُدَوَّن والمكتوب ” 1-كيف ابتدأت قصتك مع الكتابة، وكيف اخترت البحث والتنقيب في التراث المحلي لمنطقة أولاد ميمون؟ قصتي مع الكتابة ابتدأت منذ فترة مبكرة من الطفولة، وتحديدا في السنة النهائية من الأقسام الابتدائية، ثم انصرفت عنها للقراءة والمطالعة وحفظ النصوص والمقطوعات، لتطفو على السطح بشكل أوضح وبغزارة في المرحلة الثانوية، واتجهت ميولاتي وقتئذ لكتابة المسرحيات، والنصوص النثرية والخواطر الأدبية، التي وجدت لها منفذا في صفحات الجرائد. توطدت صلتي بالكتابة والأدب عندما اخترت كلية الآداب بأكادير لمتابعة دراساتي، لتتعمق علاقتي بالكتابة، حيث كنت أكتب أكثر مما أنشر، لأنصرف عن النشر مطلقا منذ سنة 1992 إلى حدود سنة2010، ومرد ذلك قناعة شخصية ملخصها أن مسارات الكتابة لازالت لم تتضح لدي بشكل جيد، كما أنني لم أجد أي معنى للنشر غير الظهور والحضور، وهي أشياء لم تكن ضمن أولوياتي حينئذ، ولذلك صرفت اهتماماتي للبحث الأدبي، وتعميق المعارف التخصصية، والإبحار في كتب نظريات الأدب والنقد والتأويل، كما أن الأعمال التي كتبتها لم أكن راضيا عنها رضى تاما، لعلمي أن الأدب صناعة، وأن الأعمال الأكثر قدرة على الاستمرارية هي التي تنضج على نار هادئة، وبكثير من التروي والاختمار، ينضاف إلى ذلك أني وجدت نفسي مشدودا إلى البحوث الأكاديمية التي كان علي إنجازها في إطار الدراسات العليا والدكتوراه، فانصرفت إلى التراث العربي قراءة واطلاعا، وإلى نظريات القراءة والتأويل في النقدين العربي والغربي الحديثين ، وهذا ما لم يدع لي وقتا كافيا لإعداد أعمالي للنشر، وكان خيرا هذا الذي حصل؛ إذ بعد الفراغ من هذه الاهتمامات ذات الصبغة الأكاديمية وجدت نفسي مرة أخرى أعود إلى مدوناتي وكتاباتي، فعاودت تنقيحها ومراجعتها مرات عديدة، هذا باختصار شديد ما يمكن قوله عن مسارات الكتابة لدي واختياراتها تبعا للأولويات والاهتمامات والإكراهات العملية، غير أن كتابة نصوص الأدب والزجل لم تكن تنضبط في كثير من الأحيان لهذه القيود التي وضعتها لنفسي، فكنت أنصرف بين الفينة والأخرى إلى عالمي الخفي والمنسي حيث يكلمني المجاز وأكلمه، وتنأى بي العبارات في إشراقاتها، تبعا لتموجات الروح في أرخبيلات الزمان والمكان وتبدلات الناس والأحوال من حولي. 2- اِحكِ لنا عن تجربة مؤلفك ” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون ” ؟ لم يكن البحث في التراث الميموني ضمن اهتماماتي الأكاديمية الصرفة، غير أن اهتمامي بالأمثال والأقوال ما فتئ يتزايد عندي من خلال إحساسي بأهمية القول المأثور، والأمثال والعبارات الحِكَمية، وقد كان يشدني إلى هذا كتابة الزجل، وحاجتي في هذا النوع من الكتابة إلى ثقافة شعبية عميقة، وإلى عدد كبير من النماذج النصية من قبيل أغاني الظاهرة الغيوانية التي تأثرت بها كثيرا، والمسرح الشعبي.وكنت أجد متعة كبيرة في قراءة كتب الأمثال لما فيها من معانٍ عميقة، ومن أسرار وحكم وجمال في التعبير والتصوير، ولم أكن أفكر أبدا في تأليف كتاب موضوعه الأمثال. غير أن محبتي للبلدة وإلحاح بعض الأصدقاء والمهتمين بهذا التراث سارت بي رغما عني وعن التزاماتي في هذا الاتجاه، حيث تمكن هؤلاء المهتمون من جمع مادة هامة من الكلام الميموني المأثور، أو المتداول على الأقل بأولاد ميمون، وبعد مناقشة في الموضوع تبين أن كثيرا من الأقوال والأمثال بدأت تُنسى وتغيب عن التداول، و إذا لم يتم تداركها فستؤول إلى العدم والزوال، والنتيجة ضياع ثقافة متداولة محليا، أو مُنتَجة محليا وهي ذات قيمة ثقافية كبيرة، وتعكس نمط حياة وتفكير وعوائد وأحوال من اللازم حفظها للأجيال القادمة، ووضعها بين أيدي الباحثين والمهتمين ودارسي الثقافات الشعبية. أقنعني هؤلاء المتحمسون بهذا الأمر، ثم تركوا في يدي الجمل بما حمل، وما حمله وقتئذ لم يكن كافيا للظهور به أمام الناس أو السفر به إلى أزمنة وأمكنة أخرى من العقل الجماعي، فقررت دون تردد إتمام المسيرة رغم ما يعتورها من صعوبات وعراقيل، فكانت رحلة جميلة مع المثل المُنتَج محليا أو المتداول عندنا، أي الصائر إلى الثقافة الميمونية من ثقافات مجاورة؛ وقد أوضحنا هذا في مقدمة” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون” فليُنظر هناك، فكنت أجمع ما تَأتَّى سماعه من الناس عبر محاورتهم، ثم أدون ذلك أو أحفظه إلى يتم رقنه على الحاسوب، فلما تكاثرت المادة أصبح من العسير ترتيبها حسب الموضوعات والقضايا لتداخلها، فقمت بترتيب المتن المُكَوَّن من أزيد من ألفي مادة ترتيبا معجميا، وهو نظام سارت عليه كتب الأمثال قديما وحديثا، ثم قمت بشرحها شرحا أدبيا حسب ما وصل إليه فهمي الشخصي، أو مما تمت إفادتي به من الناس الأكثر قربا إلى البيئة التي أنتجته أو تُدووِل فيها، وحاولت أخيرا تقديم خلاصات المعنى للقارئ بنكهة ميمونية صرف. وقد ظل هاجسي أن يكون الكتاب مفيدا للقارئ وممتعا، وأن تظل الحكمة مقصده ومبتغاه، وهي ضالة المؤمن، ولما قمت بمراجعته نهائيا للطبع أدركت أن ذلك قد تحقق فيه ، والحمد لله أولا وأخيرا. إن تأليف “الجوهر المكنون” جاء في قلب الإحساس بضرورة حفظ التراث المحلي، وتحويله من الطابع الشفوي إلى الطابع المُدَوَّن والمكتوب، ومن النطاق المحلي الذي يُتداول فيه إلى فضاءات ثقافية أوسع؛ ولْنَقُل إنه نوع من الواجب الثقافي نحو الهوية المحلية، أما اهتماماتي الأساس في مجال الكتابة والأدب- خاصة- فتنصرف إلى التأويليات العربية القديمة والحديثة، ولازال هذا هو اهتمامي في المقام الأول، أي ما يرتبط بإعداد مشاريع في الفهم وبناء المعنى تسعى إلى اقتراح أدوات قرائية للتعامل مع النصوص والخطابات، ويجد القارئ المهتم تفاصيلها بشكل واضح في كتابيْ” التأويلية العربية: نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات”، و” تقابلات النص وبلاغة الخطاب”.وعما قريب بحول الله في ” الكون المتقابل، أسرار تكوين المعنى وتأويله”. 3- هل يمكن تصنيف كتاباتك بأنها تندرج في إطار أدب التدوين المحلي أم أنها مجرد حفريات هاوية في الذاكرة ؟ كما ذكرت لك، اهتماماتي الأدبية والنقدية تسير في المقام الأول نحو التأويليات، ونحو قراءة النصوص ودراستها، والإسهام في اقتراح طرائق جديدة للتعامل مع النصوص، والتي تتوجه أساسا إلى المتخصصين ، وإلى الطلبة والتلاميذ، وهي تستند أساسا إلى بلاغة التأويل، ومنهاجية التساند القرائي، ثم أخيرا التأويل التقابلي؛ ومن الواضح أن مثل هذه الاهتمامات تتجه نحو القارئ العربي في كل مكان، دون أن يعني هذا أن الثقافة المحلية لها أهمية أقل من الأولى، فالاهتمام بالمثل والحكاية الشعبية بدأ يثيرني مؤخرا لإنجاز قراءات انطلاقا من منهجية التأويل التقابلي في أبعادها النصية والخطابية، وهذا ما يبين مرة أخرى أن المتن المتنوع- وإن اتخذ أحيانا طابعا محليا- فإن بوسعه أن يدعم مقترحات قوية في مجال تحليل الخطاب ودراسة الذاكرة الجماعية، وتنقلات النص، وألوان التفاعل معه وتلقيه، وغير ذلك من الاهتمامات النقدية والثقافية كل من منطلقه ورهاناته وأهدافه. بمعنى آخر وباختصار، يمكن التأسيس لمقترحات قوية في مجال النقد الأدبي من خلال هذه النماذج التراثية، كما حصل في تاريخ النقد الغربي . لذلك وجوابا على سؤالك، تنطلق اهتماماتي بالتراث إلى حد ما من حب هذا التراث والافتتان به، وسرعان ما أسعى إلى تقاسمه مع الآخرين،ثم قد يتحول بعد التأمل فيه إلى تناوله بالبحث والدراسة، وهي اهتمامات تتبادل التأثير والتفاعل، وإن كان من الصعب أحيانا تفسير علاقتنا بتراثنا الثقافي، لتداخل الأبعاد فيه نفسية واجتماعية وثقافية ومنهجية وأكاديمية. وفي كل الأحوال، ومن أي منطلق كان الاهتمام بهذا التراث الثقافي المحلي- أيا كانت اللغة أو المكان أو الزمان الذي تلون به أو تشكل فيه- فإن الحفاظ عليه جزء من الكينونة والحضور، وعلامة على احتفالنا بما هو جميل وقابل للحياة والاستمرارية ، بل ومفيد أولا وأخيرا للناس في أزمنة وأمكنة مختلفة. إن من يواظب على قراءة المدونات العربية في الأمثال والأخبار والروايات والوقائع يشعر بقيمة ما أنجزه هؤلاء الكتاب الكبار. كانوا يدونون ويُصرون على التدوين وتقييد العلوم بالحروف، وربما لم يخطر على بال أيٍّ منهم من سيحفل بكتبهم، ومن سيطلع على ما فيها ، وأكثر من ذلك لم يطلبوا مقابلا عن ذلك، تلك هي الأدوار الكبرى لحرفة الكتابة والتدوين، أي أن تكتب للحفاظ على استمرارية النصوص ، وجعلها حية بالكتابة، قابلة للتفاعل معها، وهذا سر حصول هذا التراكم المعرفي الذي نشهده في زماننا، فلا بد أن نسهم فيه كل من منطلقه وقدراته واهتماماته، ذلك في نظري ما يجعل للحياة معنى، وللكتابة والقراءة معان كثيرة لا يطولها العد أو الحصر، ولا تبليها الأيام. 4- كلمة أخيرة؟ أتقدم ببالغ شكري للمكتب التنفيذي الحالي لجمعية أولاد ميمون ، والذي سبقه على الثقة التي وضعاها في المؤلف من أجل الدفع بهذا العمل ليرى النور، حيث قامت الجمعية بدعمه وطبعه. كما أشكر الإخوة الذين ساهموا في وضع اللبنة الأولى لهذا المشروع: العربي بازي، وعمارة بنداود، وعبد المالك بنداود، وكل الذين كان لهم الفضل في إعداده وإغنائه. وأوجه تحية إجلال وإكبار لوالدتي خديجة بنداود التي رافقت هذا العمل خلال تكونه بملاحظاتها وإضافاتها وشروحاتها القيمة، بل وكانت ذخيرة لا تنضب من الكلام الميموني. الشكر كذلك للأستاذ إبراهيم بنداود الذي كان له فضل المراجعة والتقديم والدعم المعنوي، وللسيدان حسن بنداود ومبارك العبوبي على دعمهما وتشجيعهما. شكري العميق- كذلك- للفنان الميموني الموهوب الصديق الأعز مصطفى الغرابي الذي ظل يحيطني خلال مساري العلمي بلمساته الفنية ودعمه التقني، والذي تكرم بإعداد لوحة الغلاف، وتصفيف الكتاب وإخراجه، وقد سهر على ذلك أياما وليال طويلة بصبر وأناة. الشكر كذلك موصول للإخوة أزييم حسن وجمال في مطبعة سوس بأكادير على دعمهما للإنتاجات المحلية، إذ لولا تقديرهما للعمل الجمعوي لكانت تكلفة الطباعة أكثر مما انتهت إليه. ولكل من دعم هذا الكتاب من قريب أو بعيد. أجرى الحوار : مصطفى تاج +++++++++++++++++++++++++++++ نبذة تعريفية عن الأستاذ محمد بازي محمد بازي من مواليد أولاد ميمون سنة 1970، أستاذ مُبرَّز في اللغة العربية، انطلقت مسيرته الدراسية من قريته أولاد ميمون ، وعندما حصل على الشهادة الابتدائية انتقل إلى بيوكرى حيث حصل على البكالوريا سنة1989 ، ثم التحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن زهر بأكادير حيث نال شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها سنة 1993. تابع بعد ذلك دراساته العليا بجامعة محمد الخامس بالرباط حيث حصل على دبلوم الدراسات المعمقة سنة 1994، تخرج سنة 1995 من المدرسة العليا للأساتذة بمراكش ليلتحق بالتدريس، في الوقت ذاته واصل مشواره العلمي في التعليم العالي حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا في موضوع: “النص واستراتيجيات التأويل: مقاربة في خطاب التفسير”، سنة 1999. واستمرت اهتماماته الأكاديمية ليحصل على الدكتوراه سنة 2006 من جامعة محمد الخامس بالرباط،في موضوع: “البلاغة التأويلية: تجليات التساند ومستويات الانفتاح على السياق”.إلى جانب ذلك فهو حاصل على تكوين جيد في المعلوميات، وعلى شهادة من برنامج تعميم تقنيات المعلوميات والاتصال : مشروع أنتل التعليم للمستقبل سنة2007. وفي سنة 2009 يحصل على شهادة التبريز في اللغة العربية. يعمل الأستاذ محمد بازي حاليا في ميدان تكوين الأطر التربوية بالمركز التربوي الجهوي بإنزكان. صدرت له مجموعة من الأعمال منها:كتاب” التأويلية العربية: نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات”عن الدار العربية للعلوم/بيروت ومنشورات الاختلاف/ الجزائر، 2010. وكتاب”تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي”عن الدار العربية للعلوم/بيروت ومنشورات الاختلاف/ الجزائر، 2010.ثم كتاب” صناعة التدريس ورهانات التكوين”، منشورات علوم التربية، مطبعة النجاح، الدارالبيضاء، 2010.وكتاب “أمواج الجنة”، من منشورات وزارة الثقافة المغربية، الرباط، 2010.ثم كتاب”الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون”، وهو من منشورات جمعية أولاد ميمون للتنمية والتعاون، طباعة سوس، أكادير، 2010، وستصدر له قريبا “قصص للأطفال”، عن وزارة الثقافة المغربية، الرباط، بتعاون مع غزلان العيادي وهو تحت الطبع. وله كذلك مجموعة أخرى من الأعمال الأدبية الجاهزة، منها كتاب” الجليلة والبحر: ألواني وبهجتي الغريبة “، وكتاب”العنوان والتعاقد التأويلي: مقاربات في إستراتيجية التَّسمية”، وديوان زجلي بعنوان:” صاحبتي لْبحر ودََّاك” . وأعمال أدبية متنوعة في طور الإعداد.