شكل موقف مصر سحب مشروع قرار ضد الاستيطان الإسرائيلي في مجلس الأمن الدولي يوم 22 دجنبر الجاري صفعة قوية للنظام الحاكم في مصر وصدمة للرأي العام العربي والمسلم خصوصا وأن وضع القضية الفلسطينية مقلق بعد توالي النكسات، وتصاعد العدوان والغطرسة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وانشغال العرب بالأوضاع في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وصعود دونالد ترامب الذي اعتبر دعم إسرائيل ركنا رئيسيا في برنامجه السياسي. القاهرة احتمت بتبريرات واهية سأدحضها في هذه المقالة؛ حيث تذرعت باحتمال استخدام الولاياتالمتحدةالأمريكية حق النقض/ الفيتو ضد مشروع القرار الأممي.. وبحجة منح مزيد من الوقت لإجراء مشاورات مع الشركاء والأطراف المعنية، وأن من شأن اعتماد القرار الإضرار بعملية السلام ؟؟ .. فطلبت مصر في البداية من مجلس الأمن تأجيل التصويت لمراجعة نص المسودة، قبل أن تقرر سحبه نهائيا بسبب ما أسماه التلفزيون المصري " المزايدات التي تعرضت لها مصر جراء طلب التأجيل" ! وكانت مسودة القرار تجدد مطالبة إسرائيل بأن توقف فورا وعلى نحو كامل جميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية. .. مصر – للأسف – هي العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن، وهي التي تحتضن مقر الجامعة العربية، وتعتبر نفسها شريكا رئيسيا في المفاوضات بين الجانب الفلسطيني والكيان الصهيوني، أخجلت كل العرب وكشفت كيف كانت المساومة تتم على حساب قضية يعتبرها كل العرب وكل المسلمين قضيتهم الأولى. هذا هو الشق المخجل في الملف ... لكن الشق الثاني كان بحق مفخرة للقضية الفلسطينية وانتصارا لها، حيث انبرت نيوزيلندا والسنغال وماليزيا وفنزويلا بإعادة طرحه في مجلس الأمن للتصويت، وبالفعل تم اعتماده بشبه إجماع (تصويت 14 دولة وامتناع الولاياتالمتحدةالأمريكية). لماذا شبه الإجماع؟ لأن عدم استعمال الولاياتالمتحدة لحق الفيتو في حد ذاته تصويت إيجابي.. القرار أكد عدم شرعية إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، واعتبر إنشاء المستوطنات انتهاكا صارخا بموجب القانون الدولي، وعقبة كبرى أمام تحقيق حل الدولتين وإحلال السلام العادل.. كما طالب القرار بوقف فوري لكل الأنشطة الاستيطانية على الأراضي الفلسطينية؛ كما أوضح أن أي تغييرات على حدود عام 1967 لن يعترف بها إلا بتوافق الطرفين. على كل حال، لم تعد مصر خاوية الوفاض، فقد نالت الرضى والثناء من الكيان الصهيوني ومن الرئيس الجديد للبيت الأبيض دونالد ترامب ... أما الشعب المصري والشعوب العربية فلا يهم موقفها وردة فعلها ! ! ! الحقيقة التي لا غبار عليها أن طرح الوفد المصري لمشروع القرار من أصله لا ينم عن إيمان قوي بضرورة تعبئة المنتظم الدولي ضد سياسة الاستيطان التي تنهجها إسرائيل، والدليل على هذا ما صرح به الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من كون اعتماد القرار الأممي من شأنه عرقلة المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما أنه لن يفيد عملية السلام ؟؟ إذن، فلماذا تم تقديم المشروع إذا كانت نتائجه تتراءى وخيمة كما يدعي الرئيس المصري؟؟ إن طرحه يندرج في هذا الوقت بالذات في إطار مساومة أمريكا وإسرائيل بمنح مزيد من الدعم لنظام السيسي لتفادي الانهيار، بالنظر للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعيشها مصر، والتي تقترب من حالة الإفلاس، بالإضافة إلى اللخبطة التي يعرفها النظام فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، حيث يغير مواقفه 180 درجة، ويصطف حسب هواه وحساباته الظرفية والمصلحية دون إيلاء الأهمية للمصالح العليا المشتركة لدولة مصر بشعبها وتاريخها وحضارتها الضاربة في التاريخ. إذن طرح مسودة القرار كانت فقط للتسول السياسي، وعندما بلغ النظام المصري مراده - بعد اتصالات من الحاكم الجديد للبيت الأبيض وبنيامين نتنياهو - انبرى يبحث عن المخرج الذي سيؤدي به إلى سحب المسودة/مشروع القرار الأممي. كل الذرائع والتبريرات مردودة .... فالخوف من التجاء الإدارة الأمريكية إلى استعمال حق الفيتو غير مطروح بالنظر لعلاقة أوباما بإسرائيل على وجه عام، ولموقفه من قضية الاستيطان على وجه التحديد، مع استحضار أن أوباما أبرم الاتفاق النووي مع إيران بالرغم من المعارضة الشديدة من جانب رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقات بشكل كبير بينهما. أما ذريعة منح مزيد من الوقت .. فتنم عن استبلاد العرب، حيث عامل الزمن يلعب لصالح إسرائيل التي تنتظر بفارغ الصبر تسلم الجمهوري دونالد ترامب لمفاتيح البيت الأبيض لتنفيذ وعوده التي يأتي على رأسها اعتبار إسرائيل حليفا استراتيجيا، واعتبار الفلسطينيين إرهابيين؛ بالإضافة إلى دفاعه عن يهودية إسرائيل، ما يعني إقفالا لملف اللاجئين الفلسطينيين، وإنهاء حق العوده المعترف به دوليا.. زيادة على وعيده الفلسطينيين بنقل سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى أورشليم/القدس، أي اعترافه الصريح بأنه سيعمل لتكون القدس هي عاصمة إسرائيل؟؟؟؟ هذا غيض من فيض "مزيد من الوقت .." الذي ظهر فجأة كمشجب للنظام المصري ليعلق عليه إخفاقه أو بالأحرى خيانته؛ فيعمد إلى طلب تأجيل التصويت على مسودة قرار أممي بوقف الاستيطان، ثم سحبه نهائيا. ... إن دلالة اعتماد القرار الأممي قوية على المستوى الدولي، يخدم القضية الفلسطينية. وأن موقف القاهرة يزيد من عزلتها ويهمش دورها في إدارة المفاوضات، ويؤلب الشارع العربي ضدها. إن مواقف إدارة السيسي المتسمة بالحربائية والمصلحية الضيقة ما هي سوى الشجرة التي تخفي غابة الارتجالية التي يعرفها النظام المصري سواء على المستوى الداخلي الذي يعيش أزمة سياسية واجتماعية وركودا اقتصاديا لم تشهد له البلاد مثيلا، أو على المستوى الخارجي الذي يسجل لعب النظام المصري على أوتار التقاطب الدولي بحثا عن الدعم الذي يأتي ولا يأتي. ولو افترضنا جدلا أن مشروع القرار الأممي جوبه بالفيتو فإن الرسالة قد وصلت للعالم، وأن الجهة التي تقدمت به ستتمكن من تسجيل نقط مهمة لفائدة الكفاح الفلسطيني والقضية الفلسطينية.. فكيف وأن الشروط الموضوعية متوفرة لاعتماده .. وهو ما تبين خلال الجلسة المنعقدة يوم الجمعة 23 دجنبر الجاري. هذا الموقف المخجل أعاد ذاكرتي إلى سنة 1978 حين اخترقت إسرائيل الوطن العربي من خلال أكبر دولة فيه وهي مصر - بشكل لم يكن أكبر المتفائلين في تل أبيب يحلم به - عبر معاهدة كامب ديفيد المشؤومة التي كان لها ما بعدها في سياق العمل العربي المشترك والقضية الفلسطينية معا. لقد فقد الوطن العربي الكثير من قوته ومناعته عقب هذه المعاهدة التي تم توقيعها بالولاياتالمتحدةالأمريكية تحت إشراف الرئيس الأميركي جيمي كارتر، والتي عرفت انبطاح الرئيس السادات للعدو الإسرائيلي لأجل انسحاب إسرائيل من سيناء، والذي تم على مراحل وخلال سنوات أعقبت توقيع الاتفاقية.. في المقابل لم تشر هذه المعاهدة المشؤومة لا من قريب ولا من بعيد إلى القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المغتصبة. توقيع مصر مع الكيان الصهيوني معاهدة السلام بصفة منفردة أغضب الدول العربية التي جمدت عضويتها في جامعة الدول العربية في البداية، قبل أن توقفها بشكل نهائي سنة 1979 ببغداد. . وتم قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية مع الحكومة المصرية، وسحب سفراء جميع الدول العربية من مصر. بالإضافة إلى حظر تقديم أية مساعدات اقتصادية للحكومة المصرية.. كما تم نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، بالرغم من أن المادة العاشرة من ميثاق جامعة الدول العربية تشير إلى أن القاهرة هي المقر الدائم للجامعة العربية. ألا يحتاج موقف مصر بمجلس الأمن الدولي إلى استنكار عربي رسمي وشعبي ؟؟ وألا يستحق ما وقع أقوى عبارات الشجب والإدانة ؟؟ ما أشبه اليوم بالبارحة ! وما أحوجنا إلى جامعة عربية قوية وفاعلة ومؤثرة ! تعكس توجهات الشارع العربي، وتستنهض هممه، وتعبر عن طموحاته، وتحقق انتظاراته ! ! ! - ولي عودة للموضوع -