1- التضخم الشكلاني و"اللاوطنية في اللباس"*: قد يتساءل البعض عن جدوى إثارة مثل هذا الموضوع في هذه الظرفية الدقيقة والحساسة التي يمر منها المغرب السياسي، والتي تستلزم العكوف على البحث عن الحلول الواقعية للانتظارات والتساؤلات التي تؤرق بال المواطن المغربي، والتي ترتبط بمعيشه اليومي، وتفرض على من يهمه الأمر من الحكام، والسياسيين، والمثقفين، والعلماء، والإعلاميين، وسواهم ممن يعلق عليهم الشعب المغربي الكادح، كل الآمال، لينتشلوه من مستنقع البؤس والفقر والاستبداد و"الحكرة"،... بأنْ يصرفوا جهودهم كلها في تدميل الجراح ، وكفكفة الدموع، و تخفيف الآلام ... فهل هذا الإبَّانُ وقتٌ للترف الفكري، والسجال الفقهي، ومواضيع " الموضة " وال"fashion " ؟ !! وهل هذا الوقت، هو وقت إثارة الخلافات، و"شد الحبال" ؟ ! ما لنا والقوم ؟ وما يضيرنا أن يظهر السلفيون بهكذا مظهر ؟ وهل في ذلك مس بخبزنا اليومي ؟ أو بكرامتنا حتى نثيره أو ننشغل به ؟ وهل ،وهل...؟ لأنَّا نقول : إن إثارتنا لمثل هذه المواضيع البسيطة شكلا /المعقدة مضمونا ومقاصدَ، يروم إلى الكشف عن جزء من العقليات التي بدأت تتململ بين ظهرانيْنا، تبغي تحريك "الراكد" من القناعات الفكرية والفقهية والمجتمعية التي توافقت حولها الأمة المغربية منذ قرون، وتوجيه المسار نحو "تشدد" لا يحتمله التنوع والتعدد اللذان شكَّلا صمام أمان الاستقرار والتعايش الذي ينعم به المغاربة، بين المسلمين، والمسيحيين، واليهود، ومختلف الإثنيات، والأطياف السياسية والفكرية التي شكلت، و تشكل، النسيج المجتمعي المغربي المتوافق حول القضايا الكلية الضامنة للوحدة والاستقرار النفسِيَيْن والاجتماعيَيْن . إن مثل هذه العقليات التي ترى الحق المطلق هو مذهبها واجتهادها، وما عليه "الأغيار" عين الباطل، وأسُّ البلوى والبلايا، والتي عرفنا منها نماذج في أفغانستان، ثم مصر، فليبيا، وتونس، وسوريا؛ لا يمكن أن تقبل بالتعدد، ولا يمكن أن تقبل بالرأي الآخر. وقبولها به، في الآن واللحظة، ليس سوى من قبيل "التكتيك الاستدراجي" نحو "فرض" الذات ليس غير !!. ويوم تقدر أن تَزَعَ بالسلطان ما لا تستطيعه، اليوم، بالدعوة والكلام؛ فسيرى فيها شعبنا العظيم ما لم يكن في الحسبان !. فكيف يعقل- مثلا- أن يشكك في إيمان المغاربة بسبب مظاهر اختاروا أن تكون على مهيع سلفهم المغربي المسلم العربي الأمازيغي الإفريقي. لا لشيء، سوى لأنها على غير مهيع السلف المشرقي الذي اعتاد هؤلاء أن يستاقوا منه اجتهاداتهم، ورؤاهم، وأسلوب حياتهم، والآن مواقفهم السياسية الشاردة(!!)، دون مراعاة للخصوصية التي تمتاز بها الأمصار، وتتفارق بها الأعصار. والتي اعتمدها سلف هذه الأمة الصالح – حقيقة لا ادعاء- حينما كان يؤسس بالدين، ويبني بالاجتهاد، ويوجه بالفتوى، ويقود بالدعوة؟! أجل ..نحن لسنا- ولن نكون أبدا- مع إطلاق العنان " للهوى " يتحكم فينا كيفما اتُّفِقَ، فنقبل بكل ما يأتينا من "الآخر" دون مراقبة أو تمحيص، من الأزياء والموضة وما شاكل . فلدينا ضوابطنا ومعاييرنا التي نقيس بها ما يصح من "منتوج" القوم ؛ فنقبله، وهو ما وافق ضوابط ديننا الحنيف. ونرد منه ما خالفه -دون مركب نقص-؛ فنرفضه. فشرعنا الحنيف ينآنا عن "التقوقع" في أشكال، وجزئيات، و"اجتهادات نمطية"، لا نحيد عنها، مهما تغيرت الأزمنة، وتبدلت الأحوال. فللباس في ديننا الحنيف ضوابط عامة يجب الالتزام بها، وهي ضوابط وشروط تخدم مقاصد كلية (السِّتْر، إظهار نعمة الله ، ...)، ولا تقف عند الجزئيات التي تخضع للتغير بتغير الأمصار و الأعصار. فاللباس الشرعي للمرأة المسلمة – مثلا- هو كل لباس تتحقق فيه ضوابط اللباس الشرعي المعروفة ( فضفاض، لا يشِفُّ، لا يصِفُ، ليس بثوب شهرة، ...)، وهي ضوابط تتوفر "بالقوة" في لباس أمهاتنا المغربيات الأصيلات، وفي لباسنا المغربي الأصيل. فدعوة أهل المغرب للبس لباس أهل المشرق-عربا وعجبا- (اللباس الخليجي بالنسبة للنساء ، والأفغاني بالنسبة للرجال) في تفاصيله وجزئياته، باعتباره اللباس الشرعي، والإفتاء بذلك؛ ثم إيهام الناس بأن هذا اللباس، الذي ترتديه نساؤهم، ويدعون إليه؛ هو عين اللباس الشرعي الذي أمر به المصطفى – صلى الله عليه وسلم- والتزمته نساء الصحابة في زمن الرسالة؛ شُرُود وتَقَوُّلٌ لا يقوم على أي أساس شرعي ؟ !!. فلقد صارت بعض النساء "السلفيات"عندنا-للأسف- يتصرفن بطريقة الخليجيات في التحجب والتنقب؛ شكلا، ولونا. ظانات أنهن على الهدي الصحيح يَسِرْنَ. والحقيقة أنهن ضحية موضة شرقية، ورسم خليجي، لا صلة له بالدين البتة !!. ولقد (كان أولى بهن – كما يقول العلامة الدكتور فريد الأنصاري – رحمه الله- لوصدقن في تدينهن حقا- أن يتنقَّبْنَ- إن كان ولابد – بطريقة المغربيات الأصيلات، كما كان الأمر عندنا لدى الجدات والأمهات في السابق. والجلباب النسوي المغربي الأصيل أسْتَرُ وأَوْقَرُ، لو كانوا يعلمون ! ولكن لعن الله الأهواء ! فالشيطان يزين لكثير منهن التعمق في الإغراب والغلو في الاختلاف !) [الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب، 165]. كما أصبحنا نرى في شوارع وأزقة مدننا شبابا يلبسون قمصانا قصارا (الزي الأفغاني)، ويدعون إليها بحجة أنها اللباس الشرعي الذي أوصى به الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – والتزمه سلف هذه الأمة الصالح، في حين (أعرضوا عن القمصان المغربية، وكأنما هذه لا تستر عورة ولا تفي بسنة !) [فريد الأنصاري- نفسه، 165]. ولقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، الذي يتبجح هؤلاء باتباع سنته، واقتفاء آثاره؛ يلبس أصنافا وأشكالا من الألبسة ولم يلتزم بنوع محدد منها أبدا. فقد لبس البرود اليمانية ، والبرد الأخضر ، والجبة، والقباء، والقميص، والسراويل، والإزار، والرداء، والخف، والنعل، وكل ما تيسر في زمانه من الألبسة،... وقد استنكر الإمام ابن سرين على قوم التزموا نوعا واحدا من اللباس فقال : " أظن أن أقواما يلبسون الصوف ويقولون : قد لبسه عيسى ابن مريم ، وقد حدثني من لا أتهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لبس القطن والصوف والكتان ، وسنة نبينا أحق أن تتبع " .وفي تعليقه على هذا الكلام، قال ابن القيم الجوزية: " ومقصود ابن سيرين أن أقواما يرون أن لبس الصوف دائما أفضل من غيره ، فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره ، وكذلك يتحرون زيا واحدا من الملابس، ويتحرون رسوما وأوضاعا وهيئات يرون الخروج عنها منكرا، وليس المنكر إلا التقيد بها، والمحافظة عليها، وترك الخروج عليها. والصواب أن أفضل الطرق طريق الرسول – صلى الله عليه وسلم – التي سنها، وأمر بها، ورغَّب فيها، وداوم عليها ؛ وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس ..." ( زاد المعاد 1/143). لكنهم –لحسن حظهم- وُجِدوا بين ظُهْرَانَيْ قوم يعتبرون هذا التصرف داخلا في حرية الفرد التي يكفلها له القانون، ما دام ليس ثمة قانون أو تشريع يجرِّم لبس هكذا لباس، بل كل ما يدخل تحت مسمى اللباس يعد مقبولا على الجملة، وإن اختلف الناس في حدود "الستر" الذي يحفظ للأفراد و المجتمعات نسبا معقولة من الفضيلة والعفة . كما اعتبروا – من جهة أخرى – ظهور هذا النوع من اللباس جاء ردا عاديا وطبيعيا على ظهور أصناف وألوان من الألبسة لا تحمل من مسمى اللباس إلا الاسم. فما دام هناك تفريط من جانب فلا ضير أن يكون ثمة إفراط من جانب آخر !! ويبقى التوسط والاعتدال مطلب الجميع !! ولكن مع توالي ظهور "دعاة" يشككون في إيمان الناس بسبب ملابسهم، و يقيسون مقدار هذا الإيمان بطول اللحية وقصر الثوب؛ بل ويجزمون بأن زيهم هو الزي الشرعي الذي أمر به الله و رسوله – صلى الله عليه وسلم-والتزم به سلف هذه الأمة، مستدلين على ذلك بنصوص شرعية- إن صحت- لم تقم حجة إلا عليهم ! قلت: لما أصبح الأمر تشكيك المغاربة في إيمانهم بسبب مظاهرهم؛ أصبح التصدي لهذا التطرف " واجب الوقت " الذي يجب أن يضطلع به العلماء قبل غيرهم. خصوصا إذا علمنا أن غالبية المقتنعين بطروحات هذا "الفريق"(فئة قليلة من المحسوبين على التيار السلفي لكنها مؤثرة !!)(1) لا يعدمون مبررات لينقلوا إلينا مواقف شيوخهم المشارقة، الشاذة والشاردة، حول قضايا سياسية ومجتمعية خالفوا فيها عموم الإسلاميين؛ سلفيين وسواهم. وذلك حينما انزاحوا عن الشارع، ووضعوا أيديهم في أيدي حكام الدم والاستبداد (حكام التَّغَلُّب زعموا !!!)؛ تماما كما ينقلون إلينا اليوم عنهم أشكالا وأنماطا من الألبسة، ينافحون دونها بالحق والباطل، كأنها الدين الذي جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- !!! (يتبع) صالح أيت خزانة ------------------------------ (*) عبارة للدكتور فريد الأنصاري –رحمه الله تعالى-. (1) السلفيون حساسيات وتوجهات وتحزبات مختلفة؛ وإنما مقصودنا-هاهنا- في هذا المسطور، تلكم الفرقة التي انتقلت من العبث بفقه الأمة وسلوكها الديني الوطني، من خلال الدعوة ل"تشريق" الحياة الدينية للمواطنين والمواطنات؛ فقها وسلوكا، إلى التورط في الاصطفاف إلى جانب أنظمة الاستبداد، لضرب الحركات الاسلامية المشاركة في الحكم.