يشكل موضوع اللباس في فكر واهتمامات التيارات السلفية الوهابية بمختلف تلويناتها وأشكالها وأطيافها( التقليدية والدعوية والحركية والجهادية...) الشغل الشاغل والهم المؤرق الذي يعتبر الالتزام بشكل محدد منه عنوانا على صدق الالتزام بهذا الدين، وحسن اتباع سنة المصطفى –صلى الله عليه وسلم – ! "" فالسلفيون يتحرَّوْن هيئات وأشكالا من اللباس(اللباس القصير والطاقية) يعدون الخروج عنها منكرا عظيما ، وشرا مستطيرا ؛ يَخِْرم الدين ، ويُثلِم الإيمان . إذ أصبح همهم الكبير، وهدفهم الأساس الذي يرومون تحقيقه، بل مشروعهم المجتمعي الذي سيحقق للأمة الإقلاع الاقتصادي، والاستقرار السياسي، والنماء الاجتماعي و... ! هو تحقيق هذا " الالتزام اللباسي " في الأمة. لذلك فهم يتوسلون بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لإقناع مريديهم ومدعويهم بصحة ما يدعون إليه، وبأن هذا النوع من اللباس هو من صميم الدين؛ إذ لا معنى للالتزام بهذا الدين- حسب زعمهم - دون الالتزام بمظاهره، وهذا الزي يشكل المظهر الأهم الذي يتحتم الالتزام به حتى تكتمل صورة " العبد الملتزم " !!. فذهبوا- أمام ما وجدوه من الصد والتجاهل – إلى رشق كل من رغب عن هذه التقليعة الجديدة، بالفسق والضلال، والتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى !! كل هذا في سعي حثيث لخلق نوع من" التميز" بين " المؤمنين " أو " الفرقة الناجية " التي يمثلونها – كما مثلتها فرقة الخوارج الضالة قديما – وغيرهم من أنصاف أو أرباع المؤمنين داخل النسيج المجتمعي المغربي !! فهل الالتزام بشكل مميز من اللباس شريعة شرعها الله لعباده يأثم من رغب عنها و لبس على غير هيئتها ومقاسها؟ أم هي " فلسفة لباس " تميز المجتمعات والأوطان، كما الثقافات والحضارات ؟ يقول الدكتور أحمد الأبيض: " يعد اللباس شكلا ثقافيا يجسد رؤية المجموعة والفرد للجسم والجسد، وفهما معينا لمجموع القيم والمعايير التي تحدد صور التفاعل مع هذا " الجسد ". فلا غرابة إذا قلنا: إن اللباس يعكس رؤية الفرد لجسده وتفاعله معه ثم مدى تجسيده أو إلغائه للقيم التي تحدد ذلك التفاعل داخل تلك الثقافة و الحضارة " (فلسفة الزي الإسلامي، ص: 7.) ففي مقابل" التغريب " الذي أدخل أنواعا و أنماطا من أزياء الحضارة الغربية لغزو أحد مظاهر الثقافة العربية الإسلامية الممثل في اللباس الذي يجسد رؤية المسلمين المعيارية لمفاهيم " العراء" و " الحياء " و " الستر " ؛ ظهر نوع من " التشريق " ، ولكن هذه المرة في اتجاه الذات العربية الإسلامية ، في تبادل عجيب للأدوار بين مختلف مجتمعات وبلدان العالم العربي الإسلامي ، مما أوقعنا في الاستلاب الذاتي بدل المثاقفة ، والذوبان بدل التكامل لكل ماهو مغربي في ما هو مشرقي وليس العكس تماما. فمنذ أواخر الثمانينات، ومع ظهور التيار الوهابي / السلفي بالمغرب، أصبحنا نرى في شوارع وأزقة مدننا مظاهر عجيبة لأناس من بني جلدتنا – شبابا وشيبا – يلبسون ثيابا قصارا، ويدعون إليها بحجة أنها اللباس الشرعي الذي أوصى به الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - ويهاجمون سائر الألبسة باعتبارها ألبسة بدعية لا تصح. فقد سعى هذا التيار بكل ما أوتي من قوة الحجة، وحجة القوة، إلى " أفغنة " مظاهر اللباس في الشارع المغربي، ونشر تقليعة جديدة من اللباس غريبة على حس المواطن المغربي الذي عهد منذ عقود لبس الجلباب والطربوش، واعتزازه بهما لكونهما يشكلان عنوان تميز هويته المغربية العربية الإسلامية الأمازيغية الإفريقية. فأصبحنا إزاء ما اصطلح عليه بظاهرة الزي الأفغاني الذي بدأ يغزو شوارعنا بشكل ملفت. فكان رد المغاربة – أمام هذا " الغزو " اللباسي – أن اعتبروا هذا التصرف داخلا في حرية الفرد التي يكفلها له القانون ما دام ليس ثمة قانون أو تشريع يجرِّم لبس هكذا لباس، بل كل ما يدخل تحت مسمى اللباس يعد مقبولا على الجملة، وإن اختلف الناس في حدود "الستر" الذي يحفظ للأفراد و المجتمعات نسبا معقولة من الفضيلة والعفة . كما اعتبروا – من جهة أخرى – ظهور هذا النوع من اللباس ردا عاديا وطبيعيا على ظهور أصناف وألوان من الألبسة لا تحمل من مسمى اللباس إلا الاسم. فما دام هناك تفريط من جانب فلا ضير أن يكون إفراط من جانب آخر !! ويبقى التوسط والاعتدال مطلب الجميع !! ولكن مع توالي غزو " اللباس الأفغاني " للشارع المغربي، وظهور دعاة يفتون بحرمة اللباس المغربي وغيره من اللباس (مقصودنا –هاهنا- لباس الرجال) بل يجزمون بأن زيهم هو الزي الشرعي الذي أمربه الله و رسوله والتزم به سلف هذه الأمة ، مستدلين على ذلك بنصوص شرعية- إن صحت- لم تقم حجة إلا عليهم ! قلت: لما أصبح الأمر " غزوا لباسيا " للشارع المغربي، وتشكيك المؤمنين في إيمانهم بسبب مظاهرهم؛ أصبح التصدي لهذا التطرف " واجب الوقت " الذي يجب أن يضطلع به العلماء قبل غيرهم، خصوصا إذا علمنا أن غالبية المقتنعين بطروحات هذا التيار من محدودي العلم الشرعي وعديمي الثقافة الإسلامية. ولعل من أوضح الأدلة التي يعتمدها هؤلاء لتبرير هذا النوع من اللباس القصير هو الحديث الوارد في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " ( أخرجه البخاري " 10/223 . ومسلم: 2085. والترميدي: 1730. وأبو داود: 4085 . والنسائي 8/206 . وابن ماجة : 3607 ). والحديث كما هو واضح من معناه لا ينتهض حجة لادعاءاتهم: إذ الحكم الوارد فيه جاء معللا بعلة الخيلاء أي الكِبر. والحكم الشرعي – كما يقول علماء الأصول – يدور مع العلة وجودا وعدما. فليس المقصود قص الثوب أو تقصيره، بل اجتناب قصد الكبر من جره . لذلك لما سمع أبو بكر الصديق هذا الحديث قال:" يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده ". فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم:" إنك لست ممن يفعله خيلاء " ولم يأمره بتقصيره. فتأمل!! لذلك نقول: إذا كان لبس الثوب الطويل ، بقصد الخيلاء محرما، فكذلك الحكم إذا كان لبس القصير بذات القصد. فالعلة ليست في القصر أو الطول بل فيما قصد من الكبر أو التواضع. يقول ابن القيم الجوزية عن لبس فاخر الثياب: " لبس الرفيع من الثياب يذم إذا كان تكبرا وفخرا وخيلاء ، ويمدح إذا كان تجملا وإظهارا لنعمة الله " ( زاد المعاد 1/146 ) . واستدل بحديث ابن مسعود الذي جاء فيه أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان " فقال رجل : يا رسول الله ، إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ، ونعلي حسنة ، أفمن الكبر ذاك ؟ فقال : " لا، إن الله جميل يحب الجمال . الكبر بطر الحق وغمط الناس " ( رواه مسلم " 91 في كتاب الإيمان ). وهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي يتبجح هؤلاء باتباع سنته ، واقتفاء آثاره ؛كان يلبس أصنافا وأشكالا من الألبسة ولم يلتزم بنوع محدد منها أبدا . فقد لبس البرود اليمانية ، والبرد الأخضر ، والجبة ، والقباء ، والقميص ، والسراويل ، والإزار ، والرداء ، والخف ، والنعل ، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة ، وتركها تارة... وقد استنكر الإمام ابن سرين على قوم التزموا نوعا واحدا من اللباس فقال : " أظن أن أقواما يلبسون الصوف ويقولون : قد لبسه عيسى ابن مريم ، وقد حدثني من لا أتهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لبس القطن والصوف والكتان ، وسنة نبينا أحق أن تتبع " .وفي تعليقه على هذا الكلام، قال ابن القيم الجوزية: " ومقصود ابن سيرين أن أقواما يرون أن لبس الصوف دائما أفضل من غيره ، فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره ، وكذلك يتحرون زيا واحدا من الملابس ، ويتحرون رسوما وأوضاعا وهيئات يرون الخروج عنها منكرا ، وليس المنكر إلا التقيد بها ، والمحافظة عليها ، وترك الخروج عليها. والصواب أن أفضل الطرق طريق الرسول – صلى الله عليه وسلم – التي سنها ، وأمر بها ، ورغَّب فيها ، وداوم عليها ؛ وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس ..." ( زاد المعاد 1/143). إن عيب هؤلاء--كما يقول القرضاوي- هو: " عدم تعمقهم في العلوم الشرعية واللغوية، الأمر الذي جعلهم يأخذون ببعض النصوص دون بعض، أو يأخذون بالمتشابهات، وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات، ويغفلون القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهما سطحيا سريعا إلى غير ذلك من الأمور اللازمة لمن يتصدر للفتوى ". ( فتاوى معاصرة.ص: 125). لقد بدأ – هؤلاء- بالعبادة قبل العلم ، فانحرفوا عن طريق الله من حيث لم يحتسبوا، فوقعوا فيما وقع فيه الخوارج الذين صحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه كما قال الإمام أحمد . رغم كثرة تنسكهم ، وحرصهم على العقيدة والإخلاص . وما أصدق ما قاله الإمام الحسن البصري في حقهم : " العامل على غير علم كالسالك على غير طريق ، والعامل على غير علم ، ما يفسد أكثر مما يصلح . فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة ، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم ؛ فإن أقواما طلبوا العبادة وتركوا العلم ، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم- ، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا "( فتاوى معاصرة . ص: 125). لقد لبثنا لزمن طويل نعتبر الكتابة في هكذا موضوع مضيعة للوقت ، وإهدارا للجهد ، فكرسنا فكرنا وجهدنا للبحث في المواضيع السياسية والثقافية والتنموية ... حتى بزغ من بيننا أصاغر يحدثون من الضجة والصراخ ما قض مضاجعنا ،و أيقض عزائمنا . فقلنا : إن تركناهم فيما هم سادرون فيه ، هلكوا وهلكنا معهم ، وإن أخذنا بيدهم ، ومنعناهم عن غيهم نجوا ونجونا معهم . إن هذه الظاهرة – في رأينا - لا يمكن أن تعالج إلا بما عولجت به مثيلاتها في تاريخ الإسلام، وذلك بالحجة و البيان وإزاحة الشبهات . أما الذين يستدعون الحلول الاستئصالية فلن يزيدوها إلا انتشارا وتوسعا ، وإصرار أصحابها عليها ، وتكثيرا لأنصارها . والأمثلة على ذلك – قديما وحديثا- أكثر من أن تحصى . [email protected]