محمد خير الدين، اسم محفور على سبائك الأدب الذهبية، نهل نسغ وجوده الثقافي من الشعر، وأثمر بعد ذلك قصصا وروايات. هذا الأمازيغي المتمرد على طقوس السرد سيحس أنه يخطو خطواته الواثقة على أرض الأدب المفروشة بالأسافين الحادة، عندما طلب زعيم الوجودية الأكبر وصاحب النصوص الرافضة جون ول سارتر لقاءه. كان محمد خير الدين، أو الطائر الأزرق كما لقبه سارتر، يرقص على إيقاع كل النغمات وكل النوبات الجنونية للأدب. رشا جمال الشعر ببضع كلمات فأهداه نفسه، وتأنق ذات يوم للقاء الرواية وعادت معه راضية. كان الرجل فوضويا بالمعنى الحقيقي للكلمة. لم يكن يزاول طقوسا خاصة للكتابة، وكان بمقدوره كتابة رواية جيدة في بضعة أيام، بعد اختمارها في الذهن طبعا. لكن محمد شكري صرح ذات حوار أنه لا يعرف متى يكتب ولا متى يقرأ. قال عنه الصافي سعيد في كتاب "لا أنبياء ولا شياطين": "كان متمردا أصيلا ولسانه كحد السيف". لكن جون بول ميشيل قال إنه "لم يعهد لديه ضغينة لأحد". ومع ذلك لم يسلم من بعض الإحن الشخصية، فعن الطاهر بن جلون وكاتب ياسين يقول مثلا: "كتابنا لا يوظِفون لا لغويا ولا بيولوجيا لأنهم جبناء ويخافون الموت. بن جلون مثلا. إنه لا يلد أي شيء حسب معلوماتي لا في كتاب ولا في أي مكان آخر، أما كاتب ياسين فقد وظف كثيرا وفي المجالين". في رصيده الأدبي الآن ما يزيد على اثني عشر كتابا، منها: "أكادير"، "أكنشيش"، "رائحة الودك"، "النباش". وأظن أن ما يحتاجه خير الدين الآن، شأنه شأن محمد شكري ومليكة مزان وغيرهم، هو تكثيف الدراسة الأدبية على نصوصهم، لأنهم في الحقيقة أدباء قادمون من حقول العصيان. في أيامه الأخيرة، كان الطائر الأزرق ينزل بفندق "باليما" المواجه للبرلمان المغربي بمدينة الرباط. كان يعتصره مرض السرطان الذي سببه طبيب أسنان أحمق، عوض أن يقتلع ضرسه اقتلع شحمه أيضا. من هناك بدأت المحنة وأحس المتمرد بقرب زوال تمرده وبدأ يكتب يومياته. لما علم ابنه ألكسندر بوفاته سنة 1995 عبر الصحافة! جاء إلى المغرب من فرنسا، وأخذ معه دفترين صغيرين نُشر محتواهما بالفرنسية وترجما إلى العربية ب"الهدهد الطليق" و"يوميات سرير الموت" على التوالي. هكذا كان محمد خير الدين؛ عاش حياته كما أراد، عابدا وعاصيا، متزوجا ومطلقا، محبا وكارها، ثملا وواعيا. ثار على قوانين النقد الأنواعي، فكان شاعرا تارة وقاصا تارة أخرى، روائيا حينا وكاتبا لنصوص متداخلة أجناسيا حينا آخر. ترى ماذا تكتب الآن يا خير الدين؟