لا يكاد تاريخُ أدبٍ في العالم يخلو من حالات أدباء لحِقتهم عَنْوَةً لعنةُ الدوكسا، سواء أكانت هذه عقيدةً سياسيةً أم نسقاً أخلاقيّاً أم إيديولوجيةً دينيةً أم معياراً جماليّاً. بشار بن برد، أبو نواس، ابن هانئ الأندلسي، George Sand, Le Marquis de Sade, Charles Baudelaire, Arthur Rimbaud, Selby Hubert, David Goodis, James Cain, Jim Thomson, Alexandre Soljenitsyne, Jacques Kerouac, Allen Ginsberg, William Burroughs, Isodore Lautréamont, Georges Bataille, Antonin Artaud, José Giovanni, Arthur Koestler, Henry Miller, محمد شكري ... لن تسعفني الذاكرة على استنفاد القائمة الطويلة لأدباء أفذاذ أقحاح رفضوا الارتصاف في الصف، فاختاروا أفضية الهامش رؤيةً للعالم و أفقاً للكتابة، منتذرين على أنفسهم فرقعة الطابوهات الاجتماعية الكبرى (الأخلاق و السياسة و الدين و الجنس و المخدرات و اليأس و الموت ...)، فكان القبح و الفحش و الصعلكة و الشذوذ و الإلحاد و العدمية و العماء و الجنون و المرض و الليل و الانتحار موضوعاتِ نصوصِهم الأثيرةَ. يُعتبَرCéline Louis-Ferdinand (1894 ? 1961) و Jean Genêt (1910 ? 1986) الفرنسيان من آخر الملتحقين بردهات هذا الجحيم الأدبي الباذخة و من أكثرهم إثارة للجدل بمواقفهما و نصوصهما. و أحسب أن اختياري لهما موضوعاً لمداخلتي في هذه الندوة لا يَدين بأي شيء للصدفة. فقد فرضا نفسيهما عليّ فرضاً : كيف لا و الأول قضى حياته على هامش المجتمع الراقي و عاشر الأفاقين و أبدع روائعه الروائية على هامش المؤسسة الأدبية الرسمية ؟ و الثاني كان مَنْ أرادت له السلطة الدوكسولوجية أن يكون، أي لصّاً و شحّاذاً و شاذّاً جنسيّاً بل و خائناً و قاتلاً، و كانت نصوصه الروائية و المسرحية مستفزة للذوق الأدبي الرفيع المحافظ ؟ فلا غرو إذن أن يكونا معاً نموذجين ناصعين للهامشية الأدبية ! و بالاستناد إلى سيرتيْ هذين الأديبين «الملعونين» و إلى بعض نصوصهما الإبداعية، أستطيع أن أزعم أنّ بين هذه و تلك علاقةً وثقى لا يمكن أن يطمسها ما قد توهم به ألاعيبُ التخييل الروائي و أحابيلُ التورية البلاغية مِن تباعد، لأن تجربة الهامش، بحكم شراسة عنفها و قوة استحواذها، لابدّ من أن تنعكس آثارُها، إنْ كثيراً و إنْ قليلاً، على النصوص. * سيلين : بين إثبات الذات و تنغيل اللغة تفيدنا المعطيات السيرية بأن سيلين عاش حياة اضطراب و قلق و تيهان توحي بالبحث عن شيء ما غيرِ اللعنات التي ظلت دوماً تلاحقه و الكبوات التي كانت باستمرار تترصده. فبعد طفولة فقيرة تخللتها دراسةٌ ابتدائية دون المتوسط و بعض االإقامات اللغوية القصيرة في ألمانيا و إنجلترا، سيُضطرّ في سنّ الثانية عشرة إلى الانخراط في سوق الشغل التي لم تستجب لطموحه في أن يكون ذا شأوٍ و شأنٍ، فتطوّع جنديّاً في الجيش الذي سيغادره جريحاً من جرّاء مأثرة بطولية في الحرب العالمية الأولى، استحق عليها وساماً عسكريّاً ساميّاً سيُشفي غليله إلى المجد، مجدٍ سيعيش على نشوته متسكعاً في فرنسا و إنجلترا و الكاميرون على إيقاع مغامرات مع الرعاع، منحرفين و متسوّلين و مهرّبين و عاهرات و راقصات و قوّادين. لكن حياة الهامش و المجون هذه لم تمنعه من القراءة و سد الثغرات الثقافية بعصامية متفانية ستتكلّل، و عمره خمسة و عشرون عاماً، بشهادة الباكالوريا التي ستخوّله، بعد سنوات من الدراسة، نيل الدكتوراه في الطب، انسجاماًَ مع تهوّسه الغريزي بالصحة و الطهر و النظافة من جهة، و مع استعداده الفطري إلى غوث قاطني الهوامش و الضواحي، تعساء و بؤساء، مرضى و مجانين من جهة اخرى، و هو الاستعداد الذي دفعه إلى التخصص في الطب الاجتماعي. و بموازاة مع هذه الحمية العصامية، سيظل منجذباً إلى حواشي الأصقاع القصية في أوربا و الولاياتالمتحدة و كوبا و كندا و إفريقيا، عارضاً خدماته، قبل أن يستقر في 1927 بباريس، حيث سيفتح عيادة طبية. ما يتحصل من هذه الإفادات البيوغرافية الموجزة هو أن سيلين تُحفّزه في تصوراته و تصرفاته رؤيةٌ للعالم إنسانيةٌ جعلته باستمرار ينحاز إلى فئة المهمشين، و كذا إصرارُه على مسارعة الزمن و مصارعة القدر ليثبت ذاته، اجتماعيّاً مرةً أولى ، على هامش المؤسسة العائلية و التعليمية و الاجتماعية، متجاهلاً بريق «المركز»، مواضعاتٍ طبقيةً و حُظواتٍ معنويةً وإغراءاتٍ ماديةً. لذلك، سيبادله التجاهلَ هذا المركزُ الذي سرعان ما سيفاجئه إقدامُ هذا الشابِّ ذي الأصل الاجتماعي الوضيع، العصامي و غيرِ المعروف في الأوساط الأدبية و الإعلامية، على إطلاق قذيفة روائية في 1932، و عمره 38 عاما، عنوانها»Voyage au bout de la nuit « («رحلة إلى أغوار الليل»)، ستؤهله، حسب مؤرخي الأدب الفرنسي، ليكون مع Marcel Proust أكبر روائيي القرن العشرين، مثبتاً بذلك ذاته أدبيّاً هذه المرة. إن ما فاجأ «المركز»، ممثلاً في المؤسسة الأدبية الرسمية، أمران: أولهما أن الرواية- و هي محكيّ أوطوبيوغرافي مُموّه ? استباحت هيبة الحس المشترك و حرمةَ الفطرة السليمة لدى صفوة المجتمع الفرنسي المحافظ. فعلى غير مثال سابق و على لسان سارد أفاق يدعىBardamu، سيتجرأ سيلين على رسم صورة قاتمة رهيبة عن الحضارة الغربية المنهارة عقب الحرب الكونية الأولى، و ذلك من زاويتيْ نظرٍ غير مألوفتين: زاوية سوسيولوجية، حيث إن Bardamu يرصد بقسوة مازوخية أحوال الحثالة البشرية التي أقصتها التراتبية الاجتماعية الجائرة إلى غيتوهات في أرباض المدن، مثلما يرصد بشراسة سادية أحوال المحظوظين المستفيدين من هذه التراتبية. وزاوية أخلاقية، لأن السارد بطل مضادّ يتصف بالوقاحة و الصلافة إزاء كل أشكال السلطة، عسكرية كانت أم كَنَسِيَّةً أم سياسية أم عائلية، حافزه على ذلك الاستخفافُ الفوضويُّ بنسق القيم الشائعة و الحقدُ العدميُّ على الرأي العام. أما الأمر الثاني الذي فاجأ «المركز» وأثار سخطه، فهو أن سيلين قد تجاسر في روايته على انتهاك قداسة اللغة الفرنسية الأكاديمية بتلويثها المقصود بالكلام الشفهي، لا على ألسنة الشخصيات المتحاورة فحسب، بل كذلك و بخاصة على لسان السارد. فالشّاذ و المربك في هذه الرواية الفضائحية فعلاً هو إنجازها الأسلوبي الذي يستمد تميزه من ازدواج صفائية اللغة المعيارية بنيوءة كلام أخلاط الناس و فظاظة استعاراتهم و لا نحوية تراكيبهم. و الحاصل هو لغة معنّفة و مهجّنة يُجْمِعُ النقادُ على ألاّ أحد من الروائيين يضاهيه فيها ما عدا James Joyce في التقليد الإنجليزي، مما يغري بالقول إن اللغة هي بدون منازع البطل الحق لرواية «Voyage au bout de la nuit «، مثلما قيل ذلك عن رواية «Ulysse». ذلك أن أصالة الكتابة بالنسبة إلى سيلين لا تتأتّى مثلاً من الدفاع عن فكرة أو من إيصال موعظة، بل من إبداع أسلوب حوشي إرهابي قادر وحده على تفجير تلك الهالة من القدسية القدرية التي تجثم على اللغة الفرنسية و تحنطها منذ 1632، تاريخ إنشاء الأكاديمية الفرنسية الجليلة ! و ما زاد حفيظة «المركز» إثارةً، إضافةً إلى تعبؤ عدد من النقاد و الروائيين للدفاع عن سيلين و روايته والإشادة بمأثرته الأسلوبية، من عيار André Malraux و Léon Daudet و Georges Bataille و Blaise Cendrars و Louis Aragon و Elsa Triolet ، هو مضاعفة سيلين لتصريحات صَحفية عاكسة بعمق و دقة لتصوره للكتابة، تنضح غروراً و تحديّاً، من هذا النوع: «ليست الأفكار و المواعظ ميدان تخصصي. فأنا لست رجل مواعظ. أنا لست رجل أفكار. هذا شأن الكنيسة. أنا رجلُ أسلوبٍ و كفى. إنني أكتب مثلما أتكلم. و قبل هذا، فأنا ابن الشعب، الشعب القح، المهمش بعيداً عن الأنظار في تلك الأرباض التي أفهمها و أحسها. إنها تهيّجني تلك الأفضية الضاحوية الكئيبة. يجب أن يكون لك أسلوب خاص لتكتب. و بعد هذا يمكن لك أن تتكلم عن المطر و الجو الصحو، عن الحب و الكراهية. فالأسلوب هو ما يتكفل بكل شيء. الحكايات و الموضوعات يكفيك أن تنحني لتلتقطها، يكفيك أن تجيل نظرك في الشارع لتراها. أما الكتابة، أما التعبير عن إحساسك بالحمى، بالخوف، بالجوع، بالحب، بالغيظ، فهذا يتطلب ابتكار أسلوب. أنا، كالصانع الحِرفيّ، صاحبُ أسلوبٍ يُشيع حرارة الانفعال في لغة الكتابة التي صدئت و تكلست. أداتي هي لغة الشعب التي تؤلفها صور خشنة حِرِّيفَةٌ منبثقة من مشاعر الحقد و الكراهية، و التي تستطيع وحدها التعبير عن لوعة الإحساس بالغبن و الإقصاء. لغة الشعب التي تسعف وحدها العامل على أن يقول لمُشغّله الذي يكرهه، تعيش أنت حياة الرغد و الرخاء و أنا أعيش حياة الكمد و الشقاء. تستغلني و تتنقل في سيارة فارهة : لذلك، سأخرج مصارينك...». لكل هذا، شعُر «المركز»، هويةً و مؤسساتٍ و لغةً و ثقافةً و قيماً و تقاليدَ و امتيازاتٍ و مصالحَ، بالخطر الذي يمثله هذا الكاتب المارق المارد. فانبرى لمحاربته، مستنفراً الكُتّاب الذين أربكهم قولُه المستفزُّ عنهم ذات تصريح صحفيّ آخر: «لماذا أكتب؟ سأقول لكم لماذا: أنا أكتب لأجعل الآخرين غير مقروئين»، و مستنفراً أيضاً محافل شَرْعَنَةِ الخيرات الرمزية، و في طليعة هذه المحافل جائزةُ Goncourt، أكبرُ الجوائز الأدبية في فرنسا، التي تَسَرَّبَ من مكاتبها أن الفائز بها عن سنة 1932 سيكون بدون منافس هوLouis-Ferdinand Céline على روايته، و التي ستتراجع عن ذلك في آخر لحظة بإيعاز غاشم من المؤسسة الأدبية الراعية لسلامة اللغة و الأدب لتمنحها إلى كاتب آخر مغمور و تافه هو Guy Mazeline. فكانت هذه المؤامرة الخسيسية فضيحة كبرى في تاريخ الأدب الفرنسي المعاصر، سيكون ردّ فعل محبّيه عليها هو منحه جائزة Renaudot. أما ردّ فعله هو على هذه المؤسسة و على سلطة «المركز» ككل الذي تنتمي إليه، فكان هو إمعانه العنيد في الاستخفاف بهيبتها، و في تخريب مناعة اللغة الفرنسية في رواياته السبع اللاحقة، و في معاكسته السلطة السياسية المركزية باتخاذ مواقف تعارض مواقفها الرسمية، كمناهضته للسامية اليهودية و دفاعه عن الإيديولوجية النازية، و هي الأمور التي أدت إلى منع كتبه تارة، وإلى نفيه تارة أخرى، وإلى اعتقاله تارة ثالثة. * جوني: بين أخلاق مضادّة و صفائية اللغة بالاستناد إلى شذرات متناثرة من حياة جوني، يتضح أن تجربته مع الدوكسا كانت شاقة مريرة. فقد تكالبت عليه مؤسساتها بضراوة منذ ولادته، مصدرة في حقه حكماً قاسياً بالتهميش و التحريم، سيردّ عليه طيلة حياته بإصراره على العصيان و التمرد، مما طبع رؤيته للعالم و ممارسته للأدب بالعدمية و المأساوية. تنكرتْ له أولاً المؤسسةُ الأبوية: فهو مجهول الأب و متخلَّى عنه من لدن أمه، حيث احتضنته في البداية مؤسسة للرعاية الاجتماعية قبل أن يتم إيداعه لدى أسرة فلاحين. و ستظل هذه اللعنة القدرية الأولى جرحاً تهجس به استيهاماته و تلهج به معظم نصوصه. و سيقابلها بنزوع مكين إلى بُغض النساء. بالفعل، سيتشكل هذا الجرح الغميق اللا يندمل طيمة مركزية ستستحوذ على لاوعيه، إذ منه ستنبثق الشخصيات النسائية لرواياته و مسرحياته، شحاذاتٍ و منحرفاتٍ و سارقاتٍ و مومساتٍ و معتوهاتٍ... لا تستثرن سوى الحقد و النفور بسبب تخاذلهنّ و تقاعسهنّ عن تحمّل مسؤولياتهنّ أمّهاتٍ و مربّياتٍ. ولعل روايته » Pompes funèbres « («مواكب جنازية») (1947) أحسن مثال للتشخيص الغروطيسكي الذي خص به المرأة. و على أثر لعنة النبذ هذه التي فتح عليها عينيه، ستترصد له المؤسسة القضائية لتدينه بتهمة السرقة و عمره عشر سنوات. فكان ذلك ثاني جرح في حياته سرعان ما سيقاومه، على نحو غريب و مفارق، بالتكيف معه، حيث سيوجب على نفسه بكل مازوخية أن يتصالح مع شخصية اللص التي حُكم عليه بأن يكونها و أن يتآلف مع تبعاتها، و ذلك بإدمانه السرقة فترة طويلة من حياته القلقة. وهي التجربة العسيرة التي ستقوده باستمرار إلى مؤسسات إصلاح الأحداث و إلى السجون، التي كان أحياناً ينجح في الفرار منها ليعود إليها باعتبارها «جنّته»، و التي سيقول عنها بعد سنوات في روايته الأوطوبيوغرافية » Journal du voleur « (1949) : «لأجل مقاومة الإحساس بالخراب الذي كان ينخرني، كنت أجبر نفسي على الالتزام بهذا المبدإ الصارم: أن أردّ من صميم قلبي بقول «نعم» على كل تهمة ضدي بالسرقة، حتى و لو كانت جائرة. ففي كل مرة كنت أقول «نعم» ? أو أي جملة دالة عليها- كنت أحس في قرارة نفسي بالحاجة إلى أن أصبح مَنِ اتُّهِمْتُ بأن أكونه». و سيكتشف جوني عند بلوغه أن مؤسسةَ الفطرةِ نفسَها جبلته على أن يكون شاذاً جنسيّاً، و هي لعنة أخرى سيردّ عليها باستعذابها (من العذاب و العذوبة)، حيث لن يستنكف أبداً من التعهر العلنيّ بوضع جسده البض رهن نزوات اللواطيين الذين كان يتصيدهم في السجون و الموانئ و الشوارع و الحانات و الفنادق، و الذين كان يقترن بهم بِزِيْجَاتٍ عابرة يختلط فيها الحب بالغيرة القاتلة. و تطفح رواياته بمشاهد صادمة للحس البورجوازي السليم تصور بكل حرية و تلقائية، و شاعرية أيضاً، طقوس مهرجان المداعبة و المغازلة و التعري و المضاجعة بينه و بين «أزواجه». فهذه رواية Notre ? Dame ? des fleurs مثلاً، الصادرةُ في طبعة سرية سنة 1944، تحكي مغامرات جوني الغراميةَ في سجون مختلفة مع منحرفين و مجرمين شُغِفَ بهم على نحو جنوني، جعله تارةً يشبّه هذا بِ «وردة بهية ملغزة»، و ذاك ب «زهرة صوفية» و آخر ب «ملاك نورانيّ» و آخر ب «رئيس ملائكة بلّوري» و آخر ب «ندفة قطن». أما في روايته » Miracle de la rose « (1946)، فإن الهيام و الحمية يستبدّان به إلى درجة ترقيته هذا «الخطيب» أو ذاك «الزوج» إلى مقام القداسة، مبرّئاً إيّاه من كل جريمة اقترفها باعتبارها فعلاً مشروعاً. و هي الأمور التي ألّبت عليه سلطة الرقابة الأخلاقية التي كانت تحاكمه و تصادر رواياته و تمنع مسرحياته من العرض. فكان محبّوه من الأدباء، أمثالJean Corteau و Jean-Paul Sartre و André Malraux و سواهم يتدخلون لأجل الإفراج عنه و فك الحصار عن كتبه. و إضافةً إلى المؤسسة العسكرية، التي لم تنج من نقده و سخريته في مسرحية »Les Paravents « (1961) («الستائر») التي تدور أحداثها على خلفية الاحتلال الفرنسي للجزائر- فإن له قصةً طريفةً مع المؤسسة الأدبية، و خاصة النقد الأدبي. ففي 1952، أصدرJean- Paul Sartre دراسة رائعة عن جوني في 700 صفحة بعد أن كانت ستكون مجرد تقديم في بضع صفحات لطبع أعماله الكاملة. و قد كانت لهذا الكتاب المعنون ب: «Saint Genêt : Comédien et martyr»، أهميةٌ مزدوجة: أولاً، نظراً لقيمته النقدية، حيث مثّل حدثاً بارزاً في مجال النقد الأدبي المعاصر، وثانياً، نظراً لأثره الكبير في جوني و في كتابته. فعلى رغم عمق تحليلاته و سداد استخلاصاته و كذا فضله في ذيوع صيت جون جوني، إلاّ أنه كان ذا أثر سلبي لم يتوقعه جوني الذي أصيب باحتباس فادح أعاقه عن مواصلة الكتابة الإبداعية طيلة، يقول جوني، «ستة أعوام لم أنتج خلالها سوى الرداءة و الغباوة». و السبب هو الارتباك و القلق الكبيران اللذان شعر بهما حين «رأيتُ نفسي مُعَرّىً من لدن شخص آخر غيري» هو سارتر. فلقد تعوّد جوني فعلاً أن يكشف بنفسه عن نفسه للقارئ، لكن مع بعض المخاتلة و المكر و التمويه الذي هو أسّ الإبداع الأدبي الحقيقي. و حين قرأ الكتاب، أحسّ «بفراغ شديد نجم عنه تَلَفٌ نفسي». فكأنّ صديقه سارتر قد خانه، دون تعمّد، إذ فضحه بشكل صريح و مباشر. فماذا كان رد فعله ؟ رمى بالكتاب في نار المدفأة و ظل ينتظر. «في جميع كتبي أتعرّى. لكنني في الآن نفسه أتنكّر بواسطة الكلمات، أتنكّر بواسطة التخريف، أتدبّر أمري لكي لا أتضرّر كثيراً. أما سارتر، فقد كشف عن عورتي دونما لطف أو مراعاة». أفلا يمكن اعتبار رد فعل جوني ذاك إزاء دراسة سارتر موقفاً منحرفاً من المؤسسة الأدبية في شكلها النقدي، هذه المؤسسة التي تتقن بخبث لعبة إضفاء الشرعية على هذا الكاتب و تهميش ذاك؟ يحق لنا هذا الافتراض، خاصة إذا تذكّرنا نزعة جوني العدمية. علماً بأنه استغل تلك الأعوام الستة ليتأمل في ممارسته للكتابة، تأمّل سيقوده إلى الإقلاع عن كتابة الرواية و التفرغ كلّياً للمسرح. و تجدر الإشارة إلى أن معاناة جوني «للهامش» و تمرّده الدائم على «المركز» تحفّ بهما مفارقة حقيقية حيّرت النقاد، بمن فيهم جون- بول سارتر. فبخلاف لوي- فيردينان سيلين الذي لم يستثن، كما رأينا، مؤسسة اللغة من حملات انتهاكه للسلطات المؤسسية، فإن جوني يحرص حدّ الهوس على معاملة اللغة الفرنسية بمنتهى المراعاة و الرقة و العناية. فهو، على رغم استيحائه مادةَ نصوصه من تجاربه في الهامش و مع المهمشين، لم يكن يهتم بما يقوله قدر اهتمامه بأسلوب قوله، باعتبار أن وظيفة الأسلوب، في تقديره، هي تحويل مادة رذلة دنيئة إلى موضوع نبيل، بواسطة الكلمات و الصور و الأخيلة. و لذلك، فإن لكتابته قيمةً أدبيةً رفيعةً خلصت تجاربه من حموضتها و اعترافاته من نيوءتها. و قد كان هو نفسه واعياً بهذه القيمة من خلال قوله المشهور: «إن مفخرتي لغوية، وأنا مَدين بها لبذخ كلماتي» » Ma victoire est verbale et je la dois à la somptuosité des termes «. لذلك، و خلافاً لسيلين، فقد قاوم الاستسلام كليّاً إلى إغراء لغة المهمشين البذيئة. يقول في روايته Pompes funèbres : «إذا رضختُ للغة اللصوص الخاصة، فسأكفّ نهائيّاً عن الكتابة. سأفقد نعمة لغة الشعر التي أسعفتني على الارتقاء مع نصوصي إلى أعالي السماء. لقد كان عليّ أن أختار أو أن أناوب أو أن أخرس(...). فلتتحمّلوا إذن أن يكلّمكم شاعر هو أيضاً لصٌّ بصفته شاعراً و لصّاً». ألا يكون موقف جوني هذا من اللغة الفرنسية هو ما سيدفع «المركز»، في شخص الدولة الاعتباري، إلى تتويجه بالجائزة الوطنية الكبرى للآداب ثلاثة أعوام قبل وفاته، معترفاً بقداسته التي صنعتها و كرّستها أسطورتُهُ الشخصية لصّاً و صعلوكاً و شاذاً جنسيّاً مازوخيّاً ؟ فيا لخبث هذا «المركز» و نفاقِ مؤسساته ! *** لوي- فيريدنان سيلين، جون جوني: قامتان أدبيتان شامختان باذختان، مصيران وجوديّان استثنائيان مشتركان. ماذا تقول لنا اليومَ نصوصُهما مجتمعة ؟ لعلّ الأمر لدى هذين الملعونين لم يكن يتعلق برغبة ما في «تغيير العالم» بواسطةِ شعريةٍ جديدةٍ (كما طمعت إلى ذلك بعض الطلائع الأدبية، مثل السوريالية) بمقدار ما كان يتعلق بالحرص على تشخيص العالم بأكثر الطرق حدة و لذاعة و إكلينيكية، من خلال تعرية ما يخفيه تحت مواضعاته من شرّ و لؤم و رياء. لذلك، أوجبا على نفسيهما تفجير كل المحرّمات. و من ثم، فنصوصهما تفضح الوجه الخفيّ للنظام، تكشف عن كل ما يهتاج تحت مظاهر المجتمع الملساء المقولبة، تحتج على التهميش الذي يحوّل البشر إلى أهماج و مجانين، تستهجن السّويّ و تمتدح اللا مألوف، تحث على عصيان القوانين و القيم الراعية لمصالح الصفوة. لكنها أيضاً نصوص تمجد الحياة في بكارتها، تحتفي بالإنسان في فطرانيته. ألا يحق لنا أن نعتبر كل هذا ليس لاأخلاقاً بل أخلاقاً مضادة ؟ ألا تضمر هذه النصوص مشروعاً فلسفيّاً ما ؟ و اختيارات و مواقف مؤلفيْها، أ ليست حاملة لرسالة ما ؟ إن نصوص سيلين و جوني، حتى و هي تتغنى بالفحش و البذاءة و تمتدح الهرطقة و الزندقة، ليست في جوهرها أعمالاً انتهاكية إباحية تمجّد الشر بما هو قيمة عكسية للخير. فالفنان، يقول جوني، «ليس أبداً مخرباً تماماً». إنها بالأحرى أعمال انقلابية تخون معنى الكلمات باسم أخلاق جديدة. لذلك، فهي بمثابة «بيانات سياسية» لا بد من أن تزعج السلطة الدوكسولوجية. أما مؤلفاها، فليسا أبداً في حاجة إلى جوائز أدبية أو تدبيرات رادّة لاعتبار ما. يكفيهما أن أسطورتهما الشخصية الموحدة قد حوّلتهما حيّين إلى قديسين، و ميّتين إلى شهيدين. (٭) نص المداخلة التي شاركتُ بها في ندوة نظمها اتحاد كتّاب المغرب بمدينة أصيلا حول موضوع: «الهامش والهامشية في الأدب».