في حوار أجري بباريس في 20 شتنبر 1967، سألت الصحافية دورانتو الكاتب المغربي محمد خير الدين عما ينتظره من كتبه فكان جوابه: «آمل أن تقرأ و تفهم». بعد أزيد من أربعين سنة عن ذاك الحوار ما يزال حلم الطائر الأزرق، كما يلقبونه، لم يتحقق بعد، رغم أن خير الدين قامة أدبية سامقة و«من أقوى أصوات المغرب العربي و أكثرها أصالة» كما يقول عنه الطاهر بنجلون. في تلك السنة أصدرت منشورات «سوي» روايته الأولى «أكادير»، التي احتفى بها النقاد في فرنسا كثيرا. وفي تلك السنة أيضا ستبدأ آلة المنع تلاحق مؤلفاته في المغرب. كما سيمنع أيضا من الدخول إليه. و كان السبب أسلوبه المتمرد و كتاباته الجريئة المنتقدة للأوضاع بالمغرب، والملأى بمواقف سياسية ملتزمة، رغم أنه لم يكن منخرطا في أي حزب سياسي. الكتابة سلاح اقتحم خير الدين تجربة الكتابة في سن المراهقة ، لكن اسمه سيبرز في الستينيات في مجلة «أنفاس»، إلى جانب مصطفى النيسابوري و عبد اللطيف اللعبي و الطاهر بن جلون و عبد الكبير الخطيبي. في تلك الفترة كان الوضع السياسي بالمغرب محتقنا نتيجة الاضطرابات وأعمال العنف و حالة الاستثناء التي كان تخنق هواء البلاد. وكان خير الدين قد اختار رفقة عدد من الكتاب التخندق في صف الشعب والالتزام بقضاياه، من منطلق نظرته الالتزامية إلى الكتابة. «أنا أريد أن أكتب وأريد أن أناضل معا. الكتابة سلاح... وينبغي للمحب أن يحب أسلحته» يقول خير الدين. لكنه في سنة 1965 سيقرر الرحيل بعيدا عن الوطن. و حين سألته دورانتو عن سبب مجيئه إلى فرنسا، أجابها «لأني كنت أحس بالاختناق في المغرب. النظام السياسي هناك خانق». سنوات المنفى لم تكن فرنسا منفاه الأول. قبلها جرب وجع المنفى حين هاجر صغيرا إلى الدارالبيضاء، تاركا أمه في مسقط رأسه أزارون بضواحي تافراوت. كان خير الدين منذورا دوما للعزلة، يعيش في نفسه وعلى نفسه، محاصرا باستمرار بسوء فهم الآخرين. في فرنسا سيكون المنفى وجعا مضاعفا وستكون السنوات الأولى بباريس أشبه بجمر يكوي الجسد. في رسالته إلى عبد اللطيف اللعبي، سيكتب خير الدين بكثير من المرارة «أمارس عملا حقيرا ولا أتوفر على سكن. أكتب في المقاهي، ثمنا لآلاف الأوجاع، وأعاني من الهلع». فرنسا التي لا تبسم عادة للغرباء الجنوبيين، ستبسم له حين سيشتغل في إذاعة فرنسا الثقافية، وحين سيحتضنه جان بول سارتر في «الأزمنة الحديثة»، وحين سيرتبط بعلاقات وطيدة مع عمالقة الأدب والثقافة بفرنسا، أمثال جاك لاكان وأندري مالرو وصمويل بيكيت، الذي كان يحب كتاباته. ظل خير الدين بفرنسا خمس عشرة سنة كان خلالها منجذبا بمغناطيس خفي نحو جنوب بلاده، وكان حلمه أن يعيش بسلام وأن يرى المغرب مرة أخرى. الكاتب والمنفى كان عمر خير الدين بالتحديد 24 سنة حين أصدرت روايته الأولى «أكادير»، التي تحكي قصة موظف ترسله مؤسسة الضمان الاجتماعي إلى مدينة أكادير عقب زلزال 1960 لجرد ملفات السكان المنكوبين. رواية خلخلت البنية الروائية للرواية المغربية المكتوبة بالفرنسية، واعتبرها النقاد كما يقول إدموند عمران المالح «لا تنبئ فقط عن ميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية، وإنما عن ميلاد استثنائي لشاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية كبيرة». وكاعتراف بخصوصية هذه الرواية الاستثنائية ستتوج «أكادير» بجائزة «enfants terribles»، التي أسسها جان كوكتو. بعد عام ستصدر له منشورات «سوي» روايته الثانية «جسد سالب»، متبوعة برواية «حكاية إله طيب». كما ستصدر دار النشر ذاتها روايات «النباش» و«رائحة المانتيك» و«حياة وحلم وشعب دائم التيه»، إضافة إلى دواوين «شمس عنكبوتية» و«أنا الحنظل» و«هذا المغرب». كل هذه النصوص أبدعها خير الدين وهو في منفاه الفرنسي، لكن هاجسه ظل باستمرار هو النبش في المتخيل الشعبي الأمازيغي والنهل من تراثه. كما ظل مهووسا بخرق الحدود الفاصلة بين الأجناس التعبيرية، إذ المهم بالنسبة إليه ليس الرواية أو الشعر وإنما الكتابة نفسها. المثوى الأخير في أواخر السبعينيات سيعود خير الدين إلى المغرب بعدما أتعبه المنفى. لكن سيقبض عليه ثم يطلق سراحه فيما بعد. في المغرب سيكرس وقته للصحافة، فيما لم ينشر سوى ديوانه «انبعاث الورود البرية»، ورواية «أسطورة وحياة أغونشيش»، ثم ديوانه «نصب تذكاري»، الذي كان آخر ما أبدعه قبل أن يغيبه الموت ذات صباح من صباحات نوفمبر سنة 1995 بسبب إصابته بسرطان الفم. وكانت أمنية خير الدين أن ينهي كتابة عشرة كتب قبل سنة 2005، لكن الموت حال دون أمنيته. توفي خير الدين وظلت كتبه بعده ممنوعة حتى سنة 2002. في تلك السنة رفع المغرب قرار المنع عن طفله المتمرد.