في 18 نونبر 1995، فقد المشهد الثقافي المغربي والعالمي أديبا استثنائيا بكل المقاييس: محمد خير الدين أو الطائر الأزرق كما كان يلقب. رحل ابن تافراوت بعد صراع مرير مع المرض اللعين الذي قاومه بنفس الروح التي قاوم بها أدوات اللغة لينحت بها عباراته الثائرة المبهرة لكل النقاد والقراء. جاء محمد خير الدين إلى الوجود في يوم من أيام سنة 1941 بقرية أزرو واضو بتافراوت جنوب المغرب. وعرف عنه تمرده على كل السلط المعروفة ، وهذا ما يمكن أن نستشفه من نصوصه الكثيرة، هذا التمرد جعله كثير الترحال تماما مثل الطوارق الذين احتفى بهم كثيرا في روايته Il était une fois un vieux couple heureux، فانتقل بداية من قريته العميقة إلى الدارالبيضاء ومنها إلى باريس، علما أن هذا الترحال الدائم -وحسب معظم نقاده- كان ضروريا ومطلوبا بالنسبة لحالة أدبية وظاهرة إبداعية اسمها خير الدين، كان ضروريا بالنسبة إليه لكي يستمر في التعبير ويواصل مسيرته الإبداعية التي بدأها بنشر نصوص شعرية في الصفحة الأدبية لجريدة La vigie marocaine المعروفة منذ عهد الحماية. اختار خير الدين الكتابة في زمن حالك ومرير بالنظر إلى الوضع العام بالمغرب في فترة الستينيات، خصوصا وأن اختياره في الكتابة ترافق مع اختياره التموقع إلى جانب قضايا وانشغالات شعبه، واختياره الالتزام أدبيا وإيديولوجيا مما يعنيه ذلك من رفض للاضطهاد والاستبداد. في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب، كان هذا الأخير يغلي غليانا شديدا: انتفاضات واضطرابات، حالة الاستثناء، رقابة... فترة اختار فيها خير الدين الانضمام إلى جبهة الرفض من المثقفين الذين أسسوا مجلة souffles أنفاس التي كان ضمن هيئة تحريرها إلى جانب مصطفى النسابوري وعبد اللطيف اللعبي. في سنة 1967، أصدر خير الدين روايته الأولى أكادير Agadir في فرنسا عن دار لوسوي الشهيرة، رواية جعلت النقاد يعتبرونها لا تنبئ فقط عن ميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية وإنما عن ميلاد استثنائي لشاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية. عاد إذن محمد خير الدين ذات أبريل 1979، وإذا كانت فترة منفاه زاخرة وزاهرة من حيث وفرة إنتاجه الأدبي، فإن الفترة الممتدة ما بين 1979-1989 تميزت بقلة إصداراته لأنه لم ينجز خلال هذه المرحلة سوى كتابين هما ديوان Résurrection des fleurs sauvages سنة 1981 عن دار النشر الستوكي، ثم رواية Légende et vie d’Agoun’chuch سنة 1984. فماذا حصل بالضبط في هذه الفترة ؟ طيلة العامين الأولين من عودته التزم محمد خير الدين نوعا من الصمت والسكوت، لقد كان سعيدا بسبب عودته لبلده بعد طول غياب في المنفى البارد، وهكذا فقد قام بالتجول على طول مجموعة من مناطق المغرب لاستكشافها مجددا ولم يكن يكتب سوى بعض النصوص الصغيرة في الصحف والمجلات. وهنا بدأ العمل في المجال الصحفي، حيث أصبح متعاونا صحافيا طيلة نونبر 1980 إلى غاية يونيو 1981 مع يومية Al Maghrib التي أصبح مشرفا على ملحقها الثقافي، كما انضم إلى هيئة تحرير مجلةReptures الصادرة بالدارالبيضاء في شتنبر 1981. وخلال الفترة الرابطة ما بين 1982 و1983 ظهرت له مجموعة من النصوص الشعرية والمقالات التحليلية والقراءات الأدبية في معظم منابر المرحلة: الأساس، أمازيغ، سندباد، لاماليف، البيان. في حين أسس رفقة الفنان الساخر أحمد السنوسي جريدة ساخرة اسمها «الهدهد»، التي أشرف على تحريرها طيلة شهري يونيو ويوليوز 1983 قبل أن تصادرها سلطات الرقابة بسبب خطها التحريري القوي والملتزم في تلك الفترة الحساسة جدا من تاريخ المغرب. ومن شتنبر 1983 إلى غاية ماي 1984 أصبح محمد خير الدين يكتب عمودا أسبوعيا في مجلة Le Message de la nation التي يديرها الصحفي عبد الله الستوكي. إلا أنه توقف عن هذا العمل الصحافي بسبب اشتغاله على روايته « أسطورة وحياة أكونشيش» من يونيو 1984 إلى يونيو 1985. وخلال فترة 1990-1995، عاد محمد خير الدين مرة أخرى إلى باريس، مشتغلا على مسرحيته الوحيدة Les Cerbères وروايته Tobias كما عمل على نشر مقالاته بكل من مجلتي جون أفريك وإسبري، غير أن باريس بداية التسعينيات لم تكن مثل باريس الستينيات. في سنة 1991 أصدر ديوانه الشعري Mémorial، وفي أبريل 1992 أثناء تقديم هذه الأضمومة الشعرية في إحدى الأنشطة الثقافية التي احتضنتها عاصمة الأنوار بدا خير الدين متعبا ومنهوكا مبحوح الصوت، لقد كانت تلك علامة على مرضه. قليلا بعد ذلك، عاد إلى المغرب بشكل نهائي حيث أخذ يعمل بدون توقف وسط وضع صحي ومعاناة مع المرض اللعين حتى يكمل ما بدأه من أعمال ومنها ديوانه الشعري Proses الذي سبق له وأن نشر معظم نصوصه بالمنابر التالية: المغرب، إسبري، تيدمي، الأساس، البيان، تيفيناغ. موازاة مع ذلك واصل كتابة سلسلة في النقد التشكيلي خصصها للوحات الفنان الحبيب المسفر، فكان كتابه L’Hbib M’seffer vu par Khaïr-Eddine الصادر سنة 1992. إضافة إلى كل هذا الركام الإبداعي الغني والنوعي والمتنوع، كتب خير الدين أعمالا أخرى لا تقل إبداعية عن سابقيها، لقد كتبها وهو على سرير المرض بجسد منهك بالعلاجات الكيميائية: Le dernier journal- Il était une fois un vieux couple heureux.