بعد سقوط رئيسين عربيين في ظرف شهر واحد على يد الشعب الغاضب الذي خرج يطالب بالتغيير، ووجود رؤساء عرب آخرين في لائحة الانتظار، بات من الضروري أن نطرح السؤال الكبير الذي يغذي مسامرات المغاربة في المقاهي الشعبية وجلسات العائلات في بيوت الطبقات الوسطى وسهرات البورجوازية في صالونات الرباطوالدارالبيضاء المترفة. هذا السؤال هو «وحنا، كيفاش زعما؟». المغاربة، بكل طبقاتهم السياسية والاجتماعية وألوان طيفهم الإيديولوجي، يطرحون هذا السؤال ولا ينتظرون أن تأتي الإجابة من الحكومة، وإنما من القصر. ولذلك، فكل الحركات الشبابية، التي نادت عبر المواقع الاجتماعية بالتظاهر يوم 20 فبراير في المغرب، توجهت بخطابها إلى الملك من أجل أن يقوم بالإصلاحات التي تراها هذه الحركات، والأحزاب السياسية المساندة لها، ضرورية لاستقرار المغرب السياسي والاجتماعي. الشعب المغربي، بجميع أطيافه، يجمع على ضرورة اعتبار ما حدث في تونس ومصر، وما سيحدث في بقية دول العالم العربي، درسا يجب أن يستفيد منه المغرب لكي يقوم بالإصلاحات الضرورية العاجلة في بيته الداخلي المبعثر، بمعنى أن من يحكمون المغرب عليهم أن يفهموا أن مغربا آخر يجب أن تتشكل معالمه. بالعربية تاعرابت، إما أن يحث الحاكمون الخطى سريعا نحو القطع مع العادات السيئة في الحكم، وإلا فسيكون محكوما على المغرب بأن يدخل في سلسلة من الاضطرابات الشعبية التي ستبدأ اجتماعية قبل أن تتحول إلى مطالب سياسية تركب عليها جهات داخلية وخارجية لتصفية حساباتها القديمة والعالقة مع النظام. إن ما ينتظره الشعب المغربي اليوم هو إشارات واضحة إلى كون من يحكمونه فهموا الرسالة جيدا. وهذه الإشارات، التي يجب أن تتحول إلى أفعال، هي الوحيدة التي بإمكانها أن تمنح المغاربة الثقة في المستقبل. لقد طبق المغرب طويلا سياسة «إن الوطن غفور رحيم»، وتساهل مع اللصوص وتغاضى عن المرتشين. واليوم، حان الوقت لكي يقطع مع هذه السياسة وينتهج سياسة أخرى يكون شعارها هو «إن الوطن شديد العقاب». يجب أن يشعر لصوص المال العام والمفسدون في المؤسسات العمومية وأصحاب الامتيازات وحراس اقتصاد الريع وحماة المجرمين في المحاكم، بأن مغربا آخر يرى النور.. مغرب يستوعب حكامه عمق الحديث الشريف الذي قال فيه الصادق الأمين «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». يجب أن يفهموا أنه ما عاد مسموحا في مغرب اليوم بأن نجرح حناجرنا كل يوم بالصراخ وراء اللصوص بالحجج والوثائق والأرقام، وفي الأخير نكتشف أن من يقادون أمام المحكمة هم نحن وليس اللصوص. لقد تحدى القاضي العلوي، الذي حكم علي بغرامة 650 مليون سنتيم، إضراب المحاكم الأسبوع الماضي، واجتهد في البحث عن كاتب ضبط وأحضره لكي يقوم بمحاكمتي من أجل عيون مدير المركز السينمائي المغربي، الذي لم نفعل غير إعادة نشر تقارير قضاة المجلس الأعلى للحسابات التي تتحدث عن إهداره للمال العام. وعوض أن تنادي المحكمة على مدير المركز السينمائي لمساءلته حول أموال المغاربة التي يبددها كل سنة في أسفاره وحفلاته ومأدباته الفاخرة، بشهادة قضاة محلفين، فضلت أن تجرجرني أمامها، وعلى يد من؟ على يد قاض سبق له أن حكم بإعدامي. على هذا القاضي وأمثاله أن يفهموا أنني لن أقف أبدا أمامهم، لأنهم ليسوا قضاة وإنما جلادين في لباس القضاة. فلينطقوا بأحكامهم الظالمة كما يشاؤون، فالتاريخ سيحكم بيننا وبينهم. ويبدو أن التغاضي عن اللصوص الحقيقيين ومختلسي المال العام والتفرغ كلية لجرجرتنا أمام المحاكم بتهم واهية وتكليف أزلام المخابرات لتشويه سمعتنا في المواقع البوليسية المشبوهة واتهامنا بسرقة المقالات، أصبح الشغل الشاغل لبعض مرضى النفوس. «هضرو على الشفارة ديال بصح إلى كنتو رجال، أما المقالات راه هادي 16 عام وأنا كانكتب فيها يوميا». إن ما يحدث في العالم العربي من مخاض وحراك اجتماعي يدفعنا إلى التساؤل حول مدى استعداد المغرب لتحقيق ثورته الخاصة، مستثمرا كل المؤسسات العمومية التي كان سباقا في العالم العربي إلى إنشائها لمراقبة أموال دافعي الضرائب. ما عاد مسموحا اليوم في المغرب بأن يصدر المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية مئات الصفحات التي تتضمن إحصائيات مفزعة للتبذير والسرقة التي تتعرض لها مؤسسات الدولة، دون أن يجرؤ أحد على محاسبة المسؤولين عن هذا المنكر. إن مشكلتنا الكبرى في المغرب هي أننا نتوفر على جميع آليات مراقبة المال العام والشطط في استعمال السلطة واستغلال النفوذ، لكن هذه الآليات عاطلة عن العمل. لدينا ديوان للمظالم لا يدفع مظلمة ولا يرد حقا، كل منجزاته هي أن رئيسه، الذي شارف على الثمانين، يوظف مقربيه إلى جانبه ويهدر أموال الدولة في تشييد مقرات جهوية فاخرة لديوان مظالمه في المدن، ويقضي كل أشهر السنة متنقلا بين العواصم العالمية على حساب دافعي الضرائب. لدينا مجلس لمراقبة المنافسة يقف عاجزا أمام لجم جشع الشركات الكبرى التي تفرض قوانينها المجحفة على السوق وتشتري صمت النواب في البرلمان. ولدينا هيئة وطنية للوقاية من الرشوة، منذ رأت النور والرشوة في ازدياد. وكم من الصفقات العمومية التي تفوح منها رائحة الارتشاء كتبنا عنها بالأسماء والأرقام، في قطاع الصحة كما في قطاعات أخرى، ومع ذلك لم تتجرأ هذه الهيئة ولا غيرها من الهيئات القضائية على فتح تحقيق حولها، وكأننا نتحدث عن رشاوى تقع في كوكب زحل وليس في المغرب. ولدينا مجلس أعلى للسمعي البصري، كما هو الحال في كل الدول الديمقراطية، سوى أن مجلسنا أصبحت قراراته غير دستورية بحكم انتهاء مدة صلاحية أعضائه. كيف سيراقب هؤلاء الحكماء القنوات والإذاعات ويطبقون عليها القانون إذا كانوا هم أنفسهم يوجدون في وضعية غير قانونية؟ لدينا مجلس أعلى للجالية لا يتحدث سوى بالفرنسية، يهدر الميزانيات الضخمة التي تمنحه إياها الوزارة الأولى في تعويضات أعضائه وحفلات الأكل والشراب وملتقيات الثرثرة الفارغة، بينما ملايين المهاجرين المغاربة لازالوا يعانون من أجل الحصول على نسخة تافهة من سجل الحالة المدنية في قنصليات المغرب في مختلف بلدان العالم. لدينا مصلحة مراقبة دائمة تابعة لمجلس مدينة الدارالبيضاء أنجزت تقريرا مفصلا بالصور والأرقام يثبت مسؤولية شركة «ليدك» في ما لحق المواطنين من خسائر جراء الفيضانات الأخيرة. ورغم أننا كنا الوحيدين الذين نشرنا التقرير الصادم، لأن الآخرين فضلوا نشر إعلانات شركة «ليدك» مدفوعة الأجر، فإن الشركة التي تدبر قطاع الماء والكهرباء لثمانية ملايين مواطن في الدارالبيضاء الكبرى، أي ما يوازي مجموع سكان بلد كتونس، ظلت بعيدة عن المساءلة والمحاسبة ولم يتجرأ أحد على مطالبتها بتعويض المواطنين عن خسائرهم التي تتحمل مسؤولية جسامتها. لدينا كل المؤسسات الدستورية والقانونية التي توجد في كل الأنظمة الديمقراطية، لكن ولا واحدة من هذه المؤسسات تشتغل مثلما تشتغل مثيلاتها في الدول الديمقراطية. إنها مؤسسات صورية عاطلة عن العمل، تصرف الدولة على رواتب مديريها وموظفيها من أموال دافعي الضرائب دون أن يكون لهذه الميزانيات من أثر سوى على الحسابات البنكية لهؤلاء المدراء ومعاونيهم. نعم، إن المغرب ليس هو تونس وليس هو مصر وليس هو الجزائر، فلا واحدة من هذه الدول جميعها تتوفر على هذه المؤسسات التي وضعها المغرب قبل عشر سنوات. لكن ما جدوى التوفر على مؤسسات للرقابة المالية إذا لم تكن تقارير هذه المؤسسات ملزمة ومصحوبة بإجبارية التنفيذ؟ سيقول قائل إن هذا الكلام فيها دعوة صريحة إلى الإطاحة بالرؤوس ونصب أعواد المشانق ومطاردة الساحرات. إن هذا بالتحديد ما يجب أن يحدث، «اللهم يطيحو الشفارة ولا تطيح البلاد». يجب أن يشعر لصوص المال العام والمفسدون وحماة اقتصاد الريع بأنه لم يعد لهم مكان في مغرب اليوم. فالمثل المغربي يقول: «اللي بغاها كاملة يخليها كاملة». وهؤلاء الجشعون يجب أن يفهموا أنهم إذا استمروا في التهام أموال المغاربة بهذه الوحشية، فإنهم يهددون استقرارهم وليس فقط استقرار الشعب. وأمام هذه الموجة العاتية من الاحتجاجات التي تقرع أبواب بلدان العالم العربي، يجب أن نفهم جميعا أننا معنيون باستخلاص دروسها العميقة والشروع الفوري في تغيير أنماط الحكامة ونظم اقتصاد الريع البالية. وأول خطوة لفهم رسائل هذه الموجة هي التمييز بين ما تريده النخبة السياسية والحقوقية وما يريده الشباب الحالم بالثورة وما تريده دول الجوار، وأخيرا، وهذا هو المهم، ما يريده الشعب. فلكل من هؤلاء أولوياته وأهدافه ومطالبه، حسب قناعاته السياسية ومشروعه الفكري الخاص. غدا، بحول الله، نحاول تحديد ملامح كل جهة على انفراد، حتى تتضح الصورة أكثر.