يحتل النظام القبلي مكانا مرموقا في الحياة العامة للأقطار المغربية، وإستمر يحتلها ويطبعها بطابعه إلى عهد قريب، فخلال قرون طويلة كانت القبيلة هي المحور الذي تدور عليه جميع الحركات السياسية والتقلبات الإقتصادية والتطورات الفكرية والإجتماعية، فالقبيلة هي أعلى قمة في النظام السياسي والإجتماعي الذي عرفه البربر، فتبدأ من الأسرة المكونة من الأب وأبنائه إلى العشيرة المكونة من مجموعة من الأسر، لتصل إلى العمارة أو البطن الذي يجمع عشائر شتى، لتنتهي بالقبيلة والتي تضم عدد من البطون يؤلف بينها وحدة الدم والنسب. هكذا عرف الأستاذ محمد المنصور مفهوم القبيلة في مقدمة كتابه، قبائل المغرب. وللسير على هذا النهج حاولنا أن نلامس جانبا من جوانب البادية المغربية، هذه الأخيرة التي شكلت طول فترات التاريخ الملاذ والحصن الأمن لمجموعة من المتنصلين أو الفارين، هذا من جهة ومن جهة أخرى كانت القبيلة بثقلها وكيانها الموحد تشكل دعما مباشرا للسلطة المركزية في البلاد، وإعتمد عليها الكثير من سلاطين المغرب مشكلين عصبية قوية ساهمت في تقويت الدولة والدفاع عنها من كل خطر محدق يهددها بالزوال. إن البحث في تاريخ البوادي المغربية يشغل حيزا هاما من إهتمامات الباحثين والمهتمين بالتاريخ المغربي بصفة عامة، فتم تداول البوادي من زاوية التصوف والحركات الدينية كثيرا، ولم يتم تناولها من الناحية المنوغرافية، والإثنوغرافية، اللهم بعض المحاولات القليلة التي قام بها ثلة من المؤرخين المغاربة مثل الأستاذ أحمد التوفيق، وبخلاف ذلك نجد الباحثين الأجانب، وخاصة المدرسة الفرنسية قد قاموا بمجموعة من الأبحاث والدراسات الميدانية بغية تفكيك وفهم نظام القبيلة في المغرب ومعرفة مكونتها سواء الطبيعة، أو البشرية، أو الثقافية ممهدين بذلك لإستعمار هذه القبائل. فالقبيلة المغربية لطالما شكلت حجرة صعبة المنال في وجه المد الكولونيالي. ومن ناحية البحوث نجد فقرا كبيرا سواء في المصادر أو الدراسات التي تتحدث عن البادية المغربية عموما وأنجرة خصوصا، فحتى لدى أهالي القبيلة لم نجد نصوص توثق لتاريخ القبيلة، اللهم بعض التراجم لعلماء ومشايخ القبيلة، أما ما إعتمدنا عليه من نصوص فجلها نقلها باحثون إما من مخطوطات خاصة، وللأسف لم نستطع الوصول إليها. أو من روايات شفهية سجلوها من سكان القبيلة، وبعض ما ساقه المؤرخون حولها مما جعل الحديث عن تاريخ المنطقة أمرا صعبا، فقد إقتصرنا على بعض المعلومات التي وفقنا في العثور عليها، محاولين تمحيصها والعودة بها إلى مصادرها الأصلية. ومن هذا المنطلق نطرح سؤال من أين إكتسبت قبيلة انجرة هذه التسمية؟ إن الحديث عن أصل التسمية لقبيلة أنجرة يعد من الأمور العسيرة، فكل النظريات والأطروحات أدلت بدلوها في هذا الموضوع ولم يتفق الباحثين على أصل مشترك لهذه التسمية، فمنهم من يرجعها للمكان، ومنهم من يقول بالأصل الأندلسي ومن الباحثين من يرجع لدول المغارب " فلا غرابة إذا وجدنا عدة قبائل في شمال المغرب تحمل أسماء جغرافية تدل دلالة واضحة على أن العلاقات الإجتماعية في نطاقها لا تستند إلى روابط دموية وإنما أساسا إلى روابط مكانية. فتسمية قبائل الساحل الغربية، وجبل الحبيب ذات طابع جغرافي واضح، وإسم أنجرة كذلك يشير إلى مكان، هكذا عبر الأستاذ المختار الهراس عن هذه الظاهرة. ولعل النص المكتوب الأول الذي ذكر إسم أنجرة : هو ليون الإفريقي، حيث سماه بجبل "غنجرة" وفيه أراضي زراعية طيبة لأن أهل هذه البلاد جردوا الأرض من الأشجار لصنع القوارب في القصر الكبير، حيث كانت تقوم دار الصناعة. وكان من عادتهم زراعة الكتان وكانوا حاكة أو بحارة. ومن قبله من المؤرخين، أو الجغرافيين لم يورد هذا الإسم، فالمصادر العربية تتحدث عن المنطقة بالتفصيل لكن تكتفي بذكر المصامدة، كما ورد عند البكري في المسالك والممالك، وقد ميزهم عن صنهاجة الذين قطنوا بمدينة طنجة، في حين أن الإدريسي بعده يشير إلى حصن كبير تصنع فيه السفن، والتي كانت تستعمل على وجه الخصوص في إجتياز المضيق نحو الأندلس،… وهذا الحصن الذي حدد الجغرافي السبتي موقعه فوق " رأس المجاز" الأقرب إلى الساحل الأندلسي سماه "قصر مصمودة " نسبة إلى السلالة البربرية التي كانت تقوم في هذه المنطقة. فكل هذه المصادر تشير إلى حركة صناعة السفن بالمنطقة مما يوحي لنا بأن الإسم ربما قد يكون إستقي من هذه الصناعة. وفي هذا الصدد يورد الأستاذ التهامي الوزاني " وما اكتسبت إسم "أنجرة" إلا بعدما أصبحت تشتمل على ثلاث مراسي كبرى : طنجة، وقصر المجاز، وسبتة، زيادة على الشواطئ الرملية الموجودة فيها في وادي الليان، والجالية، ووادي المرسى، وبليونش، وكثرة رسو السفن بهيها، وما كان بها من مضارب صيد البحر، كانت شطآنها الرملية ممتلئة بالأنجرة جمع أنجر وهو المخطف الذي ترسو به السفينة، وهذا ما ذهب إليه مجموعة من الباحثين. وهنالك من الدارسين من يرجعه إلى أصل محلي، فيرد الأستاذ حسن الفكيكي ظهور إسم أنجرة إلى العهد المريني، وبصفة أدق بداية القرن الخامس عشر الميلادي، مرتكزا في ذلك على كون المؤرخ البرتغالي زورارا zurara كان أول من ذكره في حولياته عن سبتة والقصر الصغير. بينما كان إسم مصمودة قد صار في هذه الفترة " مقتصرا على تجمعات سكنية منعزلة ومعدودة "إرتقى إسم أنجرة إلى مصاف " علم معروف منطبق على مجموعة سكانية تعيش في نطاق جغرافي محدد المعالم" وأورد زورار آنذاك أسماء ما زالت قائمة إلى الآن، من بينها "جبل أنجرة " جبل بني أبي لعيش" الرمان" دار حمران" عين الرمل" إلخ. وتحدث عن تناوب الأودية والجبال في التضاريس الأنجرية، وكذا عن المنطقة الساحلية الممتدة ما بين " مصب واد الرمل شرقا المجاور لرأس سيرس، ومصب واد ليان غربا وعن مصب واد القصر الصغير ( في الوسط) كما أبرز موقع أنجرة الداخلي " بين جبال مجكسة شرقا، وجبال ودراس جنوبا وجبال بني حزمار غربا. وفي مقابل هذا نجد من الباحثين من يرجع أصل التسمية إلى الأندلس خاصة غرناطة، حيث يعرض لبلدة الأنجرون والتي وردت في كتاب صلة الصلة. وفي هذ الصد يؤكد الأستاذ رشيد العفاقي " أن إسم أنجرة ذاته نجد له نظيرا في الأندلس، ونعني بلدة الأنجرون lanjaron من بشر غرناطة " مرجحا أن الأهالي الأندلسيين لما إستقروا بالمنطقة سموها تيمنا ببلدتهم بغرناطة خاصة بعد الطرد التعسفي الذي تعرض له المرسكيين نتيجة لمحاكم التفتيش الإسبانية، ناهيك عن وجود أسماء عديدة لمداشر بالمنطقة لها نظير في الأندلس. من خلال هذا العرض الوجيز يتبين لنا أن إشكالية التسمية وأصلها تظل موضوع تباين وإختلاف بين الدراسين، حيث ينقسمون إلى من يقول بالأصل المحلي كالأستاذ حسن الفكيكي، ومن يقول بأنها تحمل دلالة المكان كما ذهب إلى ذلك كل من الأستاذ المختار الهراس، والأستاذ التهامي الوزاني، ومن ذهب إلى القول بالأصل الأندلسي كالأستاذ رشيد العفاقي مستندين إلى مجموعة من النصوص التاريخية لدعم نظريتهم. وفي هذا الإطار نشيد بالمعلومات القيمة التي قدمها لي الدكتور والباحث رشيد العفاقي حول هذه الإشكالية، بقوله أنه وقف على إشارتين الأولى في نص المقتبس لإبن حيان القرطبي والمتوفي سنة (427 ه) يشير إلى لفظة أنجرة كإطار مجالي لقبيلة بشمال المغرب. وكذلك نص رحلة الرحالة الطنجي إبن بطوطة، المتوفى سنة (779ه/1377 م )، والذي أشار إلى فقيه من أنجرة . وهذا ما يجعلنا نقف حائرين أمام زخم هذه الإشكالات في تحديد أصل تسمية لهذا الكيان القبلي الفريد من نوعه، ومما يوحي لنا أيضا بمحلية التسمية قول الأستاذ الهراس أن بعض المداشر بأنجرة لها نظير بجبال الأطلس بالمغرب : فعلى سبيل المثال لا الحصر مدشر الزميج، والذي يقال بأن إسمه إشتق من نبات الزمج هذا الأخير الذي يتكاثر في منطقة سوس. ومدشر بني عتاب، والذي توجد منطقة بالأطلس المتوسط تحمل إسم أيت عتاب…. وقس على ذلك ولكننا رغم هذا التباين نسجل أن القبيلة عرفت تناسقا وانصهارا بين كل مكوناتها مما جعلها تشكل كيان قبلي قوي، لا يعتمد على الأواصر العرقية، أو الدموية، بقدر ما يلتحم حول المجال المشترك للقبيلة، مما ولد عصبية قوبة، وكيان دفاعي متين مكنها من مجابهة الأخطار الخارجية، والتصدي للفتن الداخلية وهذا ما سنتعرض له في موضوع لاحق.