تاريخ القبيلة الغمارية نموذجا تقديم: يعتبر تاريخ التمدن بالمغرب تاريخا غير ذي أهمية، إذا قورن بتاريخ القبيلة، فالمدن كمراكز للقرار ومراكز للتدبير والتسيير، لم يكن لها حظ كبير في الاهتمام الذي كان يوليه السلاطين لهما، لأن أغلب مراكز القوة التي كانت مهيمنة على الساحة، هي التكتلات القبلية القوية، التي حظيت من طرف السلاطين بالتقدير والاحترام، وكّذا التقريب من البلاط، لأن جل المجموعات القبلية كانت نواة الجيوش ومنبعها، بحكم تركيبة الجيش التقليدية، حيث كان الارتباط بالقبيلة دائما ارتباط قويا ومتينا، وذلك لحفظ الاستقرار وضمان الولاء. فالمتأمل في بزوغ فجر الدول وانبعاثها، يرى بوضوح أن نشأتها وازدهارها لا يخرج في إطاره عن نطاقين مهمين، يتعلق إحداهما بالأثر الديني، ويتعلق أخراهما بالأثر القبلي، حيث نجد أن التكتلات القبلية والرباطات الدينية، كان لها أثر واضح في نشوء الدول وارتقائها في المغرب، حتى أننا لا نكاد نلمس أي وجود للحضر في هذه النشئة أبدا، بل كانت القبيلة هي السباقة بكل مكوناتها إلى هذا الأثر العظيم، فهكذا هو الحال لدى الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينين، وباقي الدول التي تعاقبت على حكم المغرب منذ الفتح الإسلامي إلى فتنرنا الحالية، فدائما يكون قيام الدولة كما قلنا متأسس على قوة القبيلة الأم، أو بشرف النسب، أو بدعوة إصلاحية، تكون القبيلة هي العامل الأساس في النهوض والارتقاء والتوسع. وقد حملنا الفضول نحو البحث عن أسباب اندثار أدبيات بعض هذه القبائل وغياب الحديث عنها، وعن أهميتها، اللهم من بعض الإشارات القليلة التي لا تشبع الظمأ، ولا تطمئن النفوس، التي تتشوف لمعرفة دور القبيلة الأمازيغية وأثارها، وتاريخ رجالاتها وأوليائها وصلاحها، ولما لا تاريخها العريق الضارب في القدم. ولكثرة القبائل وأدوارها وتاريخها، قررنا أن نركز في مقالنا هذا، على إحدى أهم القبائل المغربية قدما، وأكثرها عراقة وتأثيرا في مفاصل هذه الدولة الكريمة، إنها القبيلة التي تقع في الشمال المغربي، والتي تعرف بقبيلة غمارة أو بقبائل غمارة المصمودية، هذه القبيلة التي سنحاول تسليط الضوء على كثير من وجوانب نشأتها، وأدوارها طيلة أربعة عشر قرنا من التواجد الفعالي لها، وذلك انطلاقا من عدة محاور مهمة سندمجها حسب الأهمية. وانطلاقا مما سبق لنا ذكره، فماذا نقصد بالقبيلة الغمارية؟ وما هو تاريخ بروزها وانتشار أثرها؟ وما هي حقيقة الأساطير التكوينية والدينية لهذه القبيلة وساكنتها؟ وما هي أهم المميزات التي جعلتها تحظى بهذا الاهتمام من طرف المؤرخين والناقدين؟ وهل حقا أنصف المؤرخون القبيلة، وأبنائها ورجالاتها، وأيضا أسطورية تناولها؟ أولا: غمارة الجذور، التاريخ، التطور. 1: الانتماء وخصوصية التسمية لقد دأب المؤرخون العرب في تأريخهم للأمم،إلى محاولة ربط جذور كل القبائل الأمازيغية وغيرها بالجنس العربي، انطلاقا من التفسير الديني للوجود البشري، وبالتالي كان تقسيم الأمم دائما يتصل بالجزيرة العربية، باعتبارها أصل الوجود البشري، كما أن تقسيم التسلسل البشري كان ينتهي دائما إلى أبناء نوح الثلاث، وبالتالي كان العالم بكل طوائفه محصورا في هذا الإطار بين ثلاث أبناء لنوح عليه السلام. وقد ربط المؤرخون القبائل الأمازيغية بالجنس العربي مباشرة، واعتبروها نتاج الهجرات العربية التي وفدت على المنطقة، انطلاقا من أحداث تعتبر في نظر العلم أحداثا تحتمل الكثير من التشكيك، لأنها جاءت ضمن سياق لا يعتمد الدليل العلمي، حيث كانت أغلب المناطق في شمال ، تنسب إلى هذا المكون الذي يتصل مباشرة بأبناء نوح عليه السلام، أو ينسب إما للجد الأكبر إسماعيل أو إسحاق. فكان التفسير الديني أيضا يصاحب التأريخ لنسب البربر، فقيل في هذا الصدد،(أنهم من ولد بربر بن قيذار بن إسماعيل عليه السلام)1.فكانت هذه النسبة هي نفسها التي اعتمدت في التفسير الوجودي لكل القبائل الأمازيغية البربرية، حيث لم تسلم القبيلة الغمارية أيضا من هذه النظرية، التي اعتمدها العرب في تأريخهم للوجود البشري، فكان التفسير الوجودي لهذه القبائل ينحصر في أغلب الأحيان ضمن تفسيرين على أغلب الأحوال. أ: التفسير النسبي: ارتبط التفسير الوجودي الأول للقبيلة حسب المؤرخين العرب بمبدأ النسب، حيث نسب المؤرخون جذور القبيلة الغمارية إلى الجد الأكبر، وهو (غمار بن مسطاف ابن مليل بن مصمود، وقيل غمار ابن أصاد بن مصمود)2.هذا الجد الذي يعتبر حسب الأسطورة التفسيرية، من العرب المهاجرة التي وفدت على هذه الجبال واستقرت بها، لتسمى فيما بعد بهذه التسمية، هذه النسبة الأسطورية لهذه القبيلة، تعتمد الكثير من الشك، لأن لا دليل من طرف المؤرخين قبل الإسلام، يثبت هذه النظرية، هذه التسمية التي تستقي معانيها من التسمية الأمازيغية،وذلك لارتباطهابالتفسير الديني الذي يرجع النسب حسب التفسيرإلى الجد الأكبر لأبناء نوح، وبالتالي فإن الجزم بهذه الفرضية يبقى حشوا لتفادي إظهار عجز المؤرخين عن فهم جذور انتماء بعض الجماعات القبلية التي يشك في تاريخها، وفي تاريخ استقرارها بهذه الأماكن. ب: التفسير الاشتقاقي: يرتبط التفسير الوجود للقبيلة في جزءه الثاني بالاشتقاق اللغوي، هذا الاشتقاق الذي يثبت عروبة هذه القبائل الوافدة، نتيجة للهجرة التي شهدتها الجزيرة العربية، فغمارة حسب هذا التفسير (هم عرب، وإنهم غمروا في تلك الجبال فسموا غمارة)3.هذا التفسير الذي أعطي لعدة قبائل، اعتمد مبدأ الاشتقاق والنسبة إلى العرب، كجزء من التأريخ لها ولوجودها، فكان هذا التفسيري الاشتقاقي حسب نظرنا مجرد تغطية للعجز الواضح في سد الثغرات الموجودة في هذه النسبة، والدليل واضح من قول المؤرخ، أنه مجرد مذهب عادي في التأريخ، فكان هذا التطاول على إشكالية النشأة والوجود، كارثيا في كثير من مضامينه، لأنه غيب الكثير من أسرار القبائل والاثنيات العرقية، حيث جردها من الرمزية التاريخية، وأغلق باب الاكتشاف والبحث في وجه من أراد التنقيب عن أسباب نشوؤها ووجودها. وقد يستغرب الكثيرون من محاولة نزع الهوية التأصيلية لهذه القبائل، وربطها بالموروث العربي بقصد أو غير قصد، إلا أن واقع المفسرين لهذا الوجود يقول: ما دام الأصل غير موجود، فإن التفسير الأسطوري يجوز عند الأقدمين. 2: البعد الأسطوري في التسمية: كل هذه التفسيرات الأسطورية جعلت من ملامسة الحقيقة الانتمائية لهذه القبائل أمرا مستحيلا، لأن الحقيقة العلمية بعيدة كل البعد عن ما أرخ له المؤرخون العرب، لأنهم اعتمدوا في هذا التأريخ أمورا ترتبط في مجملها بنظرية عربية قحة، هذه النظرية التي لا تصلح أن تكون أصلا للمجتمع الأمازيغي، الذي يختلف عن الوسط العربي اختلافا كبيرا. وما يؤكد هذه الطرح، هو غياب المصادر العلمية والتاريخية لهذه التكتلات البشرية، التي يعود تاريخ استيطانها في هذه الجبال إلى قرون عديدة، فكانت هذه التسميات الأسطورية التي تتعلق دائما بالأجداد الأسطوريين، أو التسميات الاشتقاقية، مجرد سد للثغرات التاريخية التي تركها التاريخ في كثير من مساراته، ولا يستبعد أبدا أن يسلك المؤرخون في تأريخهم لهذا التجمعات البشرية مذهب الكتابيين في هذا التأريخ، وخصوصا إذا قارنا بين تناول العنصر اليهودي للتأريخ، وبين تناول العرب المسلمين للتأريخ أيضا، حيث نجد شبها كبيرا في تناول كلا الطرفين للمبادئ والأسس التكوينية للتجمعات البشرية نفسها، وخصوصا أن كلا الطرفين يعتمدان على مبدأ التفسير الديني للوجود البشري، أي ربط كل التجمعات البشرية بالأجداد الأسطوريين اللذين يرتبطون بوقائع تاريخية أسطورية. وما يزكي هذا الطرح أن جميع التفسيرات الانتمائية للقبائل المغربية، كانت لا تخرج عن نطاق التفسير الوجودي الديني، أي ربط القبيلة بالجد الأكبر، كربط قبيلة كتامة بجدها الأكبر كتام، وربط غمارة بغمار، وصنهاجة بصنهاج، ثم يربط هذا التفسير بحادث يلملم جوانب هذا التفسير في قالب تاريخي مرتبط أساسا بالبعد التكويني لكل القبائل. وفي الأخير يسند هذا التفسير التكويني إلى الجد الأكبر، وهو بربر بن قيدار بن إسماعيل، وبالتالي الارتباط بالجذر العربي. كل هذه النظريات الاشتقاقية أو النسبية، تعتري الشك في كثير من مضامينها وجوانبها، وتوجب إعادة النظر في أجزاء مهمة من خصوصياتها، لأنها تفتقر إلى السند العلمي، والمرجعية التاريخية المتينة في التفسير الكوني للوجود البشري في الشمال المغربي، إلا أنها تبقى على كل الأحوال سدا للفراغ الموجود في التأريخ لفترات معينة من التاريخ المغربي المتناثرة أجزاءه وعوالمه. ثانيا: القبائل الغمارية من الدولة إلى القبيلة: 1: الحقيقة التاريخية الغائبة. جرت العادة لدى أغلب المؤرخين، أن يصفو غمارة بالقبيلة لا الدولة، وأن يعتبروها موضع الجهل وانعدام الأخلاق، وقبلة الخوارج والثورة على الدولة المركزية، منذ الفتح الإسلامي الأول،فهل ياترى القبيلة اتحاد قبيلي ذات نطاق اتساعي معين، أم دولة مكتملة الأركان؟ أكد أغلب المؤرخين أن غمارة قبيلة عربية تنتسب إلى الجزيرة العربية، وصاروا في نسبة ذلك على مذهب السابقين دون أي دليل يذكر، ولولا دور القبيلة المحوري في الفتح الإسلامي، لكانت إلى حد الآن وكرا للجهالة والخوارج والثوار، إلا أن المتأمل في تاريخ هذه القبيلة يجد الكثير من التعتيم المتعمد الذي نهجه المؤرخون، من أجل تغطية فشل البلاط في مواجهة هذه القبيلة، التي تمثل قوة الإنسان الأمازيغي، وحرصه على الاستقلال. ورفضه للظلم الممارس بسم السطلة والدين والولاء. وقد وردت إشارات كثيرة على وجود الدولة الغمارية، رغم رفض المؤرخين التصريح بهذه الأمر، ومن أوائل هذه الإشاراتالواردة، هي ما تناولها المؤرخون إبان الفتح الإسلامي، حيث تم التلميح إلى هذا الوجود الضمني لهذا الكيان المستقل ، الذي اعتبر من أبرز أسباب الفتح الإسلامي، ومن أكبر ما ساعد عليه. وهذا جلي في حديث ابن خلدون وغيره عن هذا الأمير الغماري الذي ساهم بشكل فاعل في فتح المغرب والأندلس معا، في كلا الفتحين، حيث كان ( يوليان الغماري أميرا على هذه القبيلة) 4 أو الدولة، ولما كانت الإمارة في هذا الأمير الذي فتح أبوابه للفاتح الغريب، الذي فتح أبواب الشمال المغربي، مقررا عدم محاربته خوفا على دماء المغاربة، فكان بذلك أقوى سند للفاتحين العرب، وأكبر باعث له. هذا الأمير الذي ذكره التاريخ بالتمجيد والتفخير، باعتباره أميرا لا شيخ قبيلة أو وصيا عليها، ولقد كثر الكلام حول هذا الأمير، فأكد أغلب المؤرخون أن (عقبة ابن نافع تركه واليا على القبائل الغمارية حتى مجيئ موسى ابن نصير، الذي استماله من أجل ادخال بني جلدته إلى طاعة الخلافة الأموية) 5. وخيرا ما فعل، لأن ذلك جنب المغاربة إراقة الدماء الكثيرة، لتشهد التواريخ التي عقبت الفتح الإسلامي، على قوة هذه القبائل ونزوعها الدائم للاستقلال والتحرر، وهذا ما شهد به التاريخ وشوهه المؤرخون بعمد وغير عمد. وقد قامت في هذه القبائل وبأكتاف أبنائها دول عديدة منها وبعد الفتح الإسلامي، منها (دولة بني عاصم في سبتة) 6. ودولة (سبع بن مغنداف في جبل تيزران الذي وصل إلى فاس)7. وضرب السكة لنفسه، واختط الدولة الغمارية بكل مؤسساتها، إلا أن المؤرخين اعتبروه ثائرا لا غير، رغم أن المسح التأملي لواقع ثورته تثبت قيام الدولة لديه، لأنه استطاع أن يضرب العملة لنفسه، وكان له جيش ومؤسسات، وبالتالي حقق جزء أساسيا من عوامل بناء الدولة، رغم أن فترة حكمه لم تستمر طويلا. وحديثنا هذا يجرنا إلى دولة النكور في غمارة، التي كانت أول إمارة إسلامية مستقلة في المغرب، كان لها دور حضاري راسخ، ولم تفنى إلا بعد مجيئ المرابطين، اللذين مسحوا المدينة عن أخرها،لاستماتة أهلها في الدفاع عنها.هذه الدولة التي تسمى بالنكور نسبة إلى المدينة التي سطر بنائها القائد الحميري، الذي بنا صرحها وشيد جدرانها، هذه الدولة التي تنتمي إلى الدولة الغمارية، لا إلى المدينة التي اختطها قائدها، وذلك واضح وضوح العيان، حينما يقول ابن خلدون في تاريخه، (الخبر عن دولة بني صالح ملوك النكور ودولتهم في غمارة وتصاريف أحواله)8. هذه الإشارات واضحة لا تحتاج إلى تأويل، لأن المؤرخ يتحدث عن دولة غمارة وأحد أمراء هذه الدولة، وهم عرب حسب قول ابن خلدون، لأن هؤلاء الأمراء قبل أن يختطوا مدينة النكور لأنفسهم، كانت دولتهم تسمى غمارة وليس النكور، وهذا ما يجعل التشكيك في كثير من ادعاءات المؤرخين حول حقيقة الكثير من الأحداث التاريخية أمرا يحتمل الكثير من التشكيك، وخصوصا أن المؤرخين كانوا ينزعون إلى محاولة تشويه تاريخ القبائل المتمنعة عن الولاء للسلطة المركزية، وهذا جلي وواضح في كثير من دروب هذا التاريخ المتشعبة روافده. 2: أهمية القبيلة في التاريخ المغربي: لعبت القبيلة الغمارية دورا مهما في استقرار الإسلام في المغرب، وترسيخ جذوره وتشديد قوته،وهذا واضح منذ الوفود الأول للفاتح العربي (عقبة ابن نافع الفهري، الذي استمال أهلها إلى السلم والدخول في حوزة الخلافة الاسلامية الاموية)9.التي بسطت يديها على بلاد الفرس والهند واجزاء كبيرة بلاد من الروم،وامتد سلطانها ليقرع أبواب المغرب الأقصى، ولن يقف دور غمارة عند هذا الحد، بل سيتجاوزه إلى مواطن تأثيرية كثيرة، سيكون من أبرزها الدفاع عن وحدة الأندلس وحدودها، أمام زحف حركة الاسترداد المسيحية. فبحكم القرب الجغرافي للقبيلة القبائل الغمارية من شواطئ الأندلس، كان أبناءها من أشد المتحمسين لجواز البحر اتجاه جزيرة الأندلس، وذلك بعد التحفيز الذي لقيه موسى ابن نصير من طرف الأمير الغماري السبتي يليان الغماري، هذا (الأمير الذي كان ناقما على على لذريق ملك القوط بالأندلس بسبب فعلة فعلها بابته الناشئة في داره، فغضب لذلك) 10، الأمر الذي شجعه على تشجيع موسى ابن نصير على عبور البحر من أجل الاستيلاء على الجزيرة، بحكم الضعف والتضعضع الذي تواجه الأندلس في تلك الفترة،جراء الظلم والبطش الذي كان يتعرض له الأندلسيون من طرف حكامهم القوط، فكان له ما أراد بعد أن استشار موسى ابن نصير عبد الملك ابن مروان، ونزل موسى ابن نصير وطارق ابن زياد وجيشه ذي الغالبية البربرية الغمارية في طنجة، فدانت بلاد الأندلس لحكمه بعد أيام قليلة من المعارك التي شارك فيها الغماريون بشكل كبير، حيث كان تعدادهم حسب ابن خلدون ( عشرة ألاف من البربر) 11. وبالتالي فإننا حينما نذكر دائما بلاد الأندلس في جميع المراحل التاريخية،نستحضر دائما الدور المهم للقبائل الغمارية في صيانة وحدتها والدفاع عن ربوعها وثغورها، فالأوضاع السياسة بالأندلس دائما كانت تتسم بالحروب وكثرة الفتن والصراعات والانقلابات، حيث برز دور القبائل الغمارية بشكل واضح وجلي، في عدة محطات تاريخية مهمة، كان أبرزها قيام المرابطين بنصرة الأندلسيين. في أخطر مراحل تضعضع الكيان الأندلسي. فكان جواز الجيوش المرابطية إلى الثغور الأندلسية في فترة حكم يوسف ابن تاشفين، من أكبر المحطات التاريخية التي شهدت على غيرة المجتمع الغماري وشدته، (وقدمت على عليه بها جنود الله من المغرب والصحراء والقبلة والزاب، فشرع في إجازتها إلى الأندلس)12، فاقتحموا ربوع الأندلس، بمعية جيوش ابن عباد، وكسروا إرادة الجيوش النصرانية، فدحر ابن تاشفين قواتها في أشهر المعارك في تاريخ المغرب والأندلس، التي أبلى فيها الجيش المغربي ذي الأغلبية البربرية الغمارية بلاء عظيما. كما أننا لا ننسى الدور المهيب لقوات الموحدين في معركة الأرك، التي حسمت الأمور وتركت جيوش النصارى تندحر إلى ما وراء الحدود،كما نستحضر أيضا الدور المهيب للمجاهدين المرنيين في الدفاع عن قرطبة عاصمة الحكم لدى ملوك بني الأحمر، بعد أن انتهى السلطان المرني يعقوب (إلى قصر المجاز، وقد تلاحق به الناس من كل جهةلما رأو من عزمه وتصميمه)13.وكيف أظهر الغماريون عنفوانا قل نظيره في الدفاع عن وحدة البلاد وروح العباد، حتى أن سلطان بني الأحمر سمى أحد أحيائها بغمارة تكريما لهؤلاء الأبطال، اللذين كانوا يحرسون ثغور بني الأحمر. ونجد دائما في كتب التاريخ ما يشير إلى وحدة المصير المشتركة بين أهل الأندلس والمغرب،وكيف أن أهل المغرب استقبلوا أهل الأندلس وأسكنوهم في البلاد، وصارت مدن بأكملها أندلسية الأصل، كتطوان وشفشاون وغيرها، وهنا يتجلى هذا الترابط العضوي المتين بين أبناء الوطن الواحد، لارتبط استقرار الأندلس في كل حقبه التاريخية،باستقرار الأوضاع في بلاد المغرب،فكانت الأندلس بذلك الحديقة الخلفية للمغرب كما يصح القول. ثالثا: الحركة الثقافية والعلمية للقبيلة 1: النفس الثوري والنزوع للاستقلال أدى لتغيب تاريخ أمة. إن للقبائل الغمارية أدبا راقيا زاهيا زاهرا، لا يقل في رقيه ونماذجه وديباجته وبلاغته قوة عن الأدب المغربي الذي أنتجته بلاد المغرب الأقصى وربوعه الواسعة، إلا أنه لمن الأسف البالغ أن تختفي أغلب مصادره ، وتندثر إلى غير رجعة، ولا يبقى منه سوى صفة احتضان العلم والعلماء، قبل وبعد الوفود الإسلامي عليه. وكثير من الباحثين يتساءل عن هذا الدور الذي شغلته هذه القبائل على مر التاريخ المغربي قبل وبعد الوفود الإسلامي الأول، إلا أن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب على الأذهان، أن القبائل الغمارية كانت السباقة إلى ما يسمى بالتلاقح الثقافي بينها وبين جميع الحركات الوافدة، انطلاقا من الفنيقين وانتهاء بالمستعمر الإسباني. وقد ظل الشمال المغربي قطبا للعلم والتعلم، رغم سطوع نجم جامع القرويين بفاس، إلا أن جوهرة الشمال الغماري سبتة، كانت هي منبع العلم وسراجا وهاجا له، ظلت لسنين عديدة نبعا يتخرج منه فقهاء العلم وأدباء الأدب، ولا ننسى أيضا القبيلة الغمارية بني زيات الساحلية، التي احتضنت معاهد لتدريس العلوم الشرعية والدينية، وتخرج من بين ربوعها عدد لا يستهان به من العلماء الأكفاء، كأسد إفريقيا الوزان الفاسي وغيره. ويعتبر الإهمال من أشد الأسباب الذي جعل من ضياع المادة الأدبية والعلمية والتاريخية لهذه المناطق أمرا محتما، فما وصلنا من طرف المؤرخين أمر لا يشفي الغليل، بل يحز في النفس ذكره، لأن تاريخ المنطقة تاريخ ارتبط بحضارات قديمة لم يبقى من تاريخها إلا اسم القبيلة، الذي يرجع إلى أصل أمازيغي قح، لا يعرف سبب تسميتها به، ولا بداية نشأتها، اللهم من بضعة خرافات وأساطير ترتبط بالجانب اللغوي العربي لا غير. كما أننا لا ننسى الضياع المهول الذي لحق بالمادة الأدبية لهذه القبائل، حيث أن الدول المتلاحقة كانت تعمد إلى ترسيخ مبادئ حكمها عن طريق تغييب نتاج الدول المتهالكة، وقد لقيت عدة مصنفات تاريخية الحرق علي يد الدول التي كانت تحاول إخفاء تاريخ الدولة السابقة، كما فعل المرابطون مع أهل النكور وبرغواطة، هذا الإتلاف الذي كان يطال المصنفات العلمية والأدبية والتاريخية، بدعوى أنها ترتبط بالحاكم الفلاني أو الدولة الفلانية، وعلى إثر هذه العصبية للرأي والثقافة والحاكمية،كان ضياع مادة تاريخية هامة أمرا غير مستغرب، وخصوصا أن العصبية القبلية كانت هي عنوان كل عصر، حيث أن ضياعها أو إتلافها جعل من فهم بعض الظواهر المتعاقبة على المجال أمرا مستحيلا. 2: خصوصية الحركة العلمية والأدبية للقبيلة الغمارية: تعتبر قبيلة غمارة من أكثر المناطق استقطابا للعلم للعلماء، ومن أكثرها إنتاجا للمادة الأدبية والعلمية، وتعتبر مدينة سبتة إحدى أهم العواصم العلمية لها ،وقد اهتم الغماريون بتدريس كثير من العلوم المختلفة، وبنو كثيرا من المدارس في مختلفة التخصصات ،وقد اشتهرت هذه القبيلة دون غيرها بامتهان مهن الطب والتنجيم والسمياء والكيمياء، طيلة فترات حكم الدول المتعاقبة على حكم المغرب وقبلها، وقد برع الغماريون في هذا المجال وغيرها من المجالات الأدبية والعلمية والفنية والثقافية، وتعتبر قصة الطبيب الغماري سعيد الغماري خير دليل حينما كان بحضرة يوسف ابن عبد المومن وخاطبه الخليفة بقوله، (من عجائب الدنيا شاعر من كروان وطبيب منغمارة)14. كما لا نستثني أيضا الوجود الكثيف للقضاة بهذه القبيلة، حتى إن بلاد الشام استقبلت عددا لابأس به من القضاة والفقهاء المالكية، وكانت هذه الظاهرة منتشرة في عصر بني مرين، وكان أغلبهم من قبيلة غمارة، (كالقاضي برهان الدين الصنهاجي وبدر الدين الغماري وكلاهما توفيا بدمشق، و أحمد بن يعقوب الغماري قاضي حماة796ه).15 وغيرهم.وقد تخرج من هذه المنطقة علماء كثيرون، أثروا في مسار العلم منذ بداية الفتح الى وقتنا المعاصر، ممن تركوا لنا نوادر كثيرة ومتميزة، لم يذكر عنهم المؤرخون إلا النذر اليسير. إننا في هذه الإنارة البسيطة نطمح إلى تأريخ شامل لهذه القبيلة،لأن ما أعطي لها من اهتمام جانبي هو في الأصل دون المستوى المطلوب في الحقيقة ، (وإذا كانت العصبية القبلية، بما هي عصبيات بدوية، تقوض الدول وتبنيها في جدل لا ينتهي، ألم تكن هذه العصبيات تقوض العمران أيضا وتبنيه ،أي تبني وتهدم أخرى ؟أو على الأقل ،ألا تفسر لنا ضياع مادة أدبية هائلة ،بفناء المجموعات القبلية التي أنجبتها، أو بصمتها ادثرتها....وإلا فأين هو أدب الأدارسة، وبرغواطة ، والخوارج الصفرية ، وغمارة والنكور؟)16 3: كيف ننهض بالتراث المنسي تتحمل الدولة جزء من التقصير الذي يطال التعريف وذلك للمناهج الدراسية الغير متكاملة، والتي تضع البعض وتترك الكثير،وتركز على تفاهات الأمور متناسية القيمة الحقيقية لهذا الأدب، لتضع بذلك مناهج نسبية تسويقية لا تلبي حاجيات المتعلم ولا طموحاته المعرفية الراغبة في تلمس تاريخ ما يزال في أغلبه دفين مخطوطات مترامية بين مكتبات العوام والخواص. ولا ننسى أيضا أن تعقب المخطوطات المنهوبة لمن اختصاصات الدولة التي لا يجب عليها أن لا تستهين مع هؤلاء اللصوص، لأن المنهوبات ماهي إلا تاريخ كتب وأريد منه أن يخفى لكي لا يرى أهله حقيقة بلادهم، لكن رغم هذه العثرات إلا أن الجهود الوطنية المبذولة من طرف الدولة تظل متوسطة على كل حال وتترقى يوما بعد يوم رغم كل العقبات. ولا ننسى أيضا الدور الكبير الذي يجب على الأدباء والمؤرخين أن يتحملوه إزاء هذا الإهمال للتاريخ المغربي الخصب، ونزوعهم نحو الأدب المشرقي والغربي بحفاوة بالغة، متناسيين بذلك هذا الإرث الحضاري الكبير لبلادهم، وما ذلك إلا رغبة في الشهرة المنتهية أجلها، وفي الربح المادي القليل. إن الاهتمام بالتاريخ المغربي وأدبياته أمر لواجب على كل فرد، وخاصة الأجيال التي تتوفر على جميع ما يأهلها لذلك، من تكلونوجيا وحداثة وعلوم، كانت قليلة أو منعدمة في السابق، وهذا ما يوجب مزيدا من الاهتمام بهذه الأجيال الصاعدة، عن طريق تحفيزها وترغيبها في السير قدما نحو بناء الذات المغربية المستقلة عن الجميع. خلاصة: إن بلاد المغرب من البلدان الكثيرة التي ما يزال تاريخها وأدبها مدفونا بين دفات كتب ماتزال مغمورة في الخزانات الوطنية والدولية والمتاحف الغربية، إننا وبك حق نحتاج إلى نهضة جديدة تبدأ بفهم الماضي وتجديد الحاضر، وربط السابق باللحق، ليتسنى معرفة الواقع والسير به نحو التجديد والانفتاح ،لأن الجهود المبذولة من طرف المتدخلين لا تزال متواضعة وضعيفة وخجولة أيضا،لهذا وجب علينا أن نأخذ الفرصة أسوة بالباحثين المتمرسين، لأن خوض غمار التجربة يجعل الإنسان يعيش واقعا مغايرا لا يفهمه إلا ذوي الألباب والعقول السليمة. ولهذا وجب على جميع الفاعلين في الساحة العلمية والأدبية تكثيف الجهود وتقوية العزائم ورص الصفوف، من أجل إعادة الاعتبار إلى كل الأدبيات المغربية من المدينة إلى البادية، مرورا بالصحاري والبحار، فلكل مجال بيئة، ولكل بيئة تاريخ يختص به ويميزه. إننا وبكل حقا نحتاج إلى حركة علمية ثقافية جديدة، تنفض عنها غبار التاريخ المشرقي القديم، وتستقل بتاريخها المغربي الحديث والقديم، من أجل الانطلاق إلى المستقبل دون أي تعثر ولا رجوع، والانطلاقة لابد لها من الزاد، والزاد ينحصر في فتح أبواب التاريخ بمصراعيه للباحثين، من أجل تفقد ما غاب واستتر من القضايا والأمور، وربطها مع كل ما هو جديد، طلبا للتجديد والانفتاح . باحث في تاريخ الأدب المغربي القديم – مركز دكتوره النص الأدبي العربي القديم، كلية أداب تطوان المغرب الهوامش: 1: صبح الأعشى الجزء الأول الصفحة 414 2: تاريخ ابن خلدون الصفحة 283 3: مفاخر البربر الصفحة71 4: الاستقصاء للناصري، الجزء الأول الصفحة 72 5: نفسه الصفحة 83 6: تاريخ ابن خلدون الجزء السادس الصفحة 283 7: نفسه الصفحة 320 8: نفسه الصفحة 283 9: الاستقصاء للناصري الجزء الأول الصفحة 70. 10:نفسه الصفحة 85 11: نفسه الصفحة 85 12: نفسه الصفحة 198 13: نفسه الصفحة 395 14: نشر المثاني للقادري،الجزء الأول، الصفحة 65، مطبوعات دار المغرب، للتأليف والترجمة والنشر. 15:ابن العماد شذرات الذهب ج السادس ص:331. 16: فصول في نظرية الدب المغربي والأسطورة لصاحبه الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي ص 35 منشورات جمعية تطاون أسمير.