تشييع جنازة الراحل محمد الخلفي إلى مثواه الأخير بمقبرة الشهداء بالبيضاء    "التقدم والاشتراكية" يحذر الحكومة من "الغلاء الفاحش" وتزايد البطالة    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جامعة الفروسية تحتفي بأبرز فرسان وخيول سنة 2024    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تثمين الاسهامات الجهوية : قبيلة الاخماس العالمة و دورها في حماية الموروث الوطني
نشر في تطوان نيوز يوم 25 - 02 - 2013


ذ/ السعيد ريان ابو خير الدين
قبيلة الاخماس أو بني يلصوت ذات الاشعاع العلمي و المتصوف هي احدى المناطق المتوسطية من " بلاد غمارة الكبرى " فيما كان يسمى بالماضي ، اي قبل ان تتحول غمارة الى وضعها الراهن و تنحصر في مجال ترابي يتحدد جغرافيا بتسع قبائل() تشكل في مجموعها قطاعا ترابيا يمتد على جزء كبير من ساحل المتوسط . فهذه البلاد التي كان ينتسب اهلها حسب العلامة ابن خلدون الى غمار بن مصمود () قد لعبت على امتداد التاريخ بعد دخول الاسلام اليها مع بلاد الهبط دورا لا يستهان به على مستوى حماية الموروث الثقافي و الروحي المتصوف للمغاربة . بل اكثر من ذلك ظلت الحصن الحصين و المدافع عن الوطن ايام اشتداد الاطماع الاجنبية في الاستيلاء على ارض المغرب و تغيير انتمائه الحضاري ذي الجذور العربية الامازيغية و الافريقية
و نود في هذه الورقة ، و في سياق تثمين الاسهامات التاريخية لجهات المملكة و كذا للتعريف بالمعالم المضيئة على ارض المغرب ، ان نرسم للأجيال في مشهد تاريخي كيف ان إحدى قبائل هذه البلاد و هي قبيلة الاخماس قد ساهمت من خلال دورها المشهود مساهمتها الفعالة في حماية الثقافة الوطنية ، و تحديدا تلك الثقافة المتمثلة في الموروث الفكري و الروحي المتصوف الذي شكل عبر العصور اختيارا استراتيجيا للشعب المغربي في مجال الحضارة و العقيدة . فما هو هذا الدور إذن ؟ و الى اي حد يعتبر المغرب مدينا لمنطقة قبيلة الاخماس على صعيد حماية تراثه الروحي و الثقافي و اختياراته الحضارية ؟
قبيلة الاخماس : التسمية و التعريف
تعود تسمية قبيلة الأخماس أو قبيلة بني يلصوت كما يفضل ان يطلق عليها بعض الكتاب ، فيما هو متعارف لدى أهلها الى كونها تضم خمسة " أخماس" أي فرق سكانية كبرى تتفرع إلى الكثير من المداشر و القرى، وهي : خمس بني صالح، وخمس بني دركول، وخمس بني فلواط، وخمس سبع قبايل، وخمس بني زرويل وقد أضيف إليها خمس بني جبارة و بني تليد وآخر لبني جافن. ويقال أن الذي فرض هذا النوع من التقسيم هو وجود خمسة أولاد لسيدي يلصو () الاسم المحرف ل "يرسول" باللسان الدارج فيما نعتقد ، و هو الاسم الذي أطلق على أحد أحفاد سيدنا عثمان ابن عفان (رض) نزيل قبيلة الأخماس زمن الفتح ، و الذي يبقى اسمه الحقيقي مجهولا لحد الساعة . كما قيل ان سبب التسمية يعود الى الرغبة في التيمن بعدد الصلوات الخمس باعتبارها شعار الإسلام الدائم.
ولعل هذا التقسيم من ناحية أخرى، ربما أملته اعتبارات ترتبط بأعمال الجهاد و الدعوة الى الاسلام وسط اهالي غمارة ، حيث يذكرنا اسم الاخماس بالتقليد الذي سار عليه المسلمون منذ زمن الفتح أيام الخليفة الثاني عمر الفاروق رضي الله عنه، فقد كانوا يجعلون من المدن قواعد عسكرية، وكل قاعدة تضم خمس فرق عسكرية تسمى "الأخماس" تتكون من القبائل الخمسة المشاركة في الفتوحات بحيث يتشكل كل خمس من إحداها و هم : الأزْد، و تَميم، و بَكْر، و عبد القيس، و أهل العالية الذين هم أهل المدينة . و يشير العلامة الشريف محمد الصادق بن ريسون الى ما يشبه ذلك حيث يذهب الى أن سيدي يلصو الذي قدم تراب الاخماس بأمر من المولى ادريس جد الشرفاء الادارسة و مؤسس دولتهم و هو خلاف للمروي قد قسم طائفة البرابرة الذين كانوا تحت امرته الى خمسة أخماس، ثم أسكن كل خمس بموضعه الذي هو الآن فيه، وصاروا يدعون من حولهم من البربر إلى الله، فلذلك سميت الأخماس () .
و يبدو ان هذه التسمية او التحديد الترابي على اساس الفرق و التجمعات البشرية الخمسة فيما يتعلق بالأخماس كان متداولا بين الناس و معترفا به رسميا منذ القرن العاشر الهجري اذا ما عدنا الى كتابات هذه الفترة من تاريخ شمال المغرب ()، و ليس من المستبعد أن يكون الاسم دخل مدخل التداول قبل ذلك بكثير أي منذ زمن المرابطين و الموحدين و ربما قبل ذلك . ما دام ان القبائل الغمارية بدأت تستقيل بأسمائها و تتميز منذ ذاك الحين ، كما يمكن ان نلمس ذلك في تسمية قبيلة بني عروس ، التي اتخذت لها هذا الاسم نسبة إلى الولي الصالح سيدي سلام العروس بن سيدي مزوار الجد الخامس للشيخ المولى عبد السلام، وأحد أسلاف الشرفاء العلميين قاطبة (). و هو الذي سمى ولده بالعروس و زفه الى تلك المنطقة من بلاد غمارة التي ستشتهر باسمه . و معلوم ان الولي الصالح و الناسك الزاهد سيدي مزوار والد سيدي سلام قد توفي بحجر النسر عام 350 ه اي خلال القرن الرابع الهجري مما يستفاد منه ان تسمية القبيلة بهذا الاسم يعود الى فترة قريبة من هذا التاريخ .
و من الناحية الديموغرافية ، فإن سكان الاخماس هم في الاصل مزيج من العناصر الصنهاجية الامازيغية التي عرفت بصنهاجة السراير و العناصر العربية و الاندلسية التي تمازجت فيما بينها ، و صهرتها في الفكر و العادات اصول العقيدة و قيم الشريعة الاسلامية . كما ان تركيبتها السكانية قد عرفت نزول الكثير من ذرية الاشراف و سلالة ال البيت من الادارسة خصوصا من ابناء سيدي عمر بن مولاي ادريس الذي كان قائما على حكم غمارة من قبل اخيه سيدي محمد الذي تولى خلافة المغرب بعد ابيه . و من هذه السلالة سيظهر قطب التصوف الكبير في العالم الاسلامي المولى ابو الحسن الشاذلي ، و هو الذي ستزداد القبيلة به شهرة .
قبيلة الأخماس :
سبق متميز للحركة العلمية بشمال المغرب
و لقد ظلت قبيلة الأخماس بشمال المغرب عبر تاريخها فضاء متميزا لحركة علمية نشيطة ساهمت في نشر الكثير من علوم الشرع والمحافظة على مكونات الثقافة الإسلامية المتصوفة و المتسننة . و ذلك بفضل شبكة مساجدها و رباطاتها المباركة التي كانت تتوزع بشكل متوازن على مجمل ترابها من بني داركول الى بني تليد ، و من بني فلواط الى الخزانة و مكو و تيسوكا حيث معهد المواهب و زاوية سيدي محمد الهبطي ، الى غيرها من الجهات و المداشر الشهيرة بنشاطها الروحي و العلمي و تخصصها في علوم القرآن و قراءاته ، وخاصة مسجدها التاريخي الشهير الذي سيسمى بمسجد الشرفاء ، والذي أسسه القائد العسكري طارق بن زياد الليثي زمن الفتح بموضع الشرفات ببني فلواط من نفس القبيلة حسب ما اشار اليه الوزير و قاضي بلاد غمارة و الهبط أيام السعديين ابو عبد الله محمد بن عسكر الشفشاوني في كتابه دوحة الناشر ، معتمدا في ذلك على الرواية المتوارثة لدى اهل بلاد غمارة. فقد كان هذا المسجد في مشاريعه العلمية و الروحية و ما حققه من اشعاع معرفي على مستوى المنطقة يضاهي دور القرويين بفاس . و في اطار المقارنة الكرونولوجية فهو يمثل مؤسسة روحية و علمية تعتبر الاقدم بشمال افريقيا لحد الساعة . و من المؤكد ان هذه المعلمة التاريخية كما انها تشهد على استخدام العرب الفاتحين الاوائل لموضع الشرفات و ما حولها قاعدة عسكرية لهم لكون المسجد هو اول منشأة كانوا يقومون بتشييدها و رفع دعائمها ، تعد من جهة اخرى خصوصية اركيولوجية استثنائية بمنطقة شمال المغرب لم تأخذ حظها من العناية على مستوى التوثيق والكتابة التاريخية أو اعمال الحفريات لتحديد مدتها الزمنية الحقيقية ، هذا الى جانب ما تضفيه على قبيلة الاخماس من أهمية كبرى في مجال السبق الثقافي و الروحي لهذه القبيلة ، و بالتالي على مستوى دورها في مجال ترسيخ قيم الثقافة و الحضارة التي حملها المسلمون الفاتحون الى بلاد المغرب و الاندلس . و الواقع انه لو لم يكن بهذه القبيلة إلا هذه المعلمة لكفتها فخرا ، بل هي مفخرة و قيمة حضارية و اثرية كبيرة حينما يتعلق الامر بالحديث عن الاثار الاسلامية القديمة المتبقية ببلاد المغرب و شماله ، اذ أنها تعد الاقدم التي ما تزال حية الى يومنا هذا مقارنة مع معالم دينية و علمية اخرى هي توأم لها اندرست مثل مسجد الجامع البيضاء ببني حسان الذي بناه القائد موسى ابن نصير ، و مسجد جامع بومنار في قبيلة بني زجل ، و مسجد دار اسقفان قرب مدينة سبتة و الذي لم يبقى منه إلا بعض اطلاله () .
و هو ما يستوجب معه تنزيل هذه المعلمة الفذة منزلتها التاريخية و الحضارية حيث مازالت قائمة بشموخها بقرية الشرفات تتحدى الزمن برغم ما عرفته المنطقة من اهوال نتيجة العديد من الحروب و الفتن السياسية و الاجتماعية تحدث عنها التاريخ السياسي لبلاد غمارة على وجه أخص ،كما يتوجب من خلال هذه المعلمة ضرورة تثمين هذه القبيلة اليلصوتية لما قدمته من عطاءات شكلت سبقا تاريخيا قل نظيره في مجال استمرار و حماية الموروث الفكري و الروحي للبلاد . فضلا عن التعريف به على صعيد العالم الاسلامي .
و مما لا ريب فيه ، فإن قبيلة الاخماس هذه التي اتاحت لها منظومة مساجدها و رباطاتها الصوفية الدخول الى فضاء الاشعاع الفكري و الروحي من بابه الواسع منذ فترة مبكرة . قد استطاعت بفضل ذلك و بما توارثته جيلا بعد جيل أن تنجب الكثير من العلماء و قادة التربية في فترات مختلفة منهم من اسعدهم الحظ ، فتحدث التاريخ عنهم و حفظ لهم بعض الانجازات ، و منهم من اغفل التاريخ ذكراهم لسبب او آخر و هم الاكثرية بطبيعة الحال . و لعل ابرز الاسباب في ضياع تراث القبيلة و اسهاماتها شأنها شأن باقي منطقة شمال المغرب يعود الى السلوك الزاهد و المتصوف لأعلامها الذين كانوا يميلون الى الستر و الاعراض عن الشهرة مهما كانت .. هذا فضلا عن احداث الفتن و الشغب التي كانت تندلع بالمنطقة بين فترة و اخرى خصوصا في الفترات الانتقالية للدول التي تعاقبت على عرش المغرب . مما كان يعرض بلاد غمارة الى الكثير من الاضطرابات تأتي على الاخضر و اليابس بما في ذلك الاثار العلمية التي من شانها توثيق تاريخ المنطقة و الاحتفاظ بذاكرتها للأجيال . و قد نضيف الى هذا العامل سببا آخر هو الاخطر في اختفاء الكثير من ذاكرة الاخماس و القبائل المجاورة هو تلك الحركة السرية التي كانت تهدف عن قصد الى طمس ذاكرة المنطقة من خلال الاستيلاء على الوثائق و المخطوطات و العمل اما على احراقها او تمزيقها .. و هو بالذات ما نجده ملمعا اليه من خلال الرواية التي نقلها الينا العلامة سيدي محمد الصغير الهبطي (ت 1001ه) عن والده الشيخ سيدي عبد الله الهبطي (ت 963ه) في شأن الكتاب القيم عن تاريخ الاخماس و السلالة الشريفة بها المسمى ب " المنهاج المبارك " . كما حكى لنا ذلك في كتابه "الفوائد" () .
الاخماس ..
قبيلة المراجع الروحية و العلمية الكبرى
على أن الوثائق التي تحدثت عن العلماء و النخب العلمية و الروحية بشمال المغرب و بلاد غمارة ، ذكرت انه وجد بقبيلة الاخماس عدد هائل هو مدعاة للفخر من المراجع و اصحاب النبوغ الروحي و العلمي الذين انجبتهم هذه القبيلة ، و الذين يعود اليهم الفضل في تنشيط تلك الحركة العلمية و الفكرية ثم الروحية الدائبة على تراب قبيلة الاخماس التي ستتحول مع الزمن الى قوة جذب روحي و قطب علمي كبير في المنطقة سيجذب اليه وفودا لا تحصى من طلاب العلم الشرعي و التربية الروحية على وجه أخص ، كما سيكون لها اثرا بعيدا على الصعيد الوطني و العالم الاسلامي مع ظهور الشيخين الكبيرين ابي الحسن علي الشاذلي (ت656ه) و ابي الحسن علي الصُّغير الزرويلي (ت719ه) اللذين ستنسب اليهما القبيلة في اوساط العلماء و المثقفين المغاربة فتشتهر بقبيلة الشيخين . و الواقع فإن ظهور هذين الامامين يعتبر ذروة عطاء القبيلة اليلصوتية فى مجال علوم التصوف و الشريعة . و اذا ما عدنا الى رواية ابي عبد الله محمد الهبطي الصغير في كتابه الفوائد سنجده يذكر رواية عن والده انه لحدود عصره وجد من ذرية الشيخ المبارك سيدي يلصو من حفدة ذي النورين سيدنا عثمان رضي الله عنه ستة و ستون و ثلاثمائة عالم بعضهم انتقل الى مدينة فاس () . و لكن للأسف بالرغم من هذا العدد الهائل من العلماء اليلصوتيين لم يذكر التاريخ منهم إلا النزر القليل بحيث بقي اغلب هؤلاء العلماء مغمورو الحال خصوصا في الحقب الاولى من تاريخ المغرب و تحديدا زمن المرابطين و الموحدين . و على سبيل المثال فإنه في العصر الموحدي لم يذكر من علماء المشهورين بالمنطقة سوى العالم الكبير و الامام الحجة المتصوف ابي العباس أحمد اقطران اليلصوتي دفين قرية ابروج قرب باب تازة الذي سيعرف فيما بعد بسيدي احمد العسلاني و سيرتبط اسمه باسم الاساتذة الذين اشرفوا على التكوين العلمي لقطب المغرب في الولاية و التصوف المولى عبد السلام ابن مشيش . اما في عصر المرابطين فإننا لا نعثر و لو على ادنى معطيات ممكنة تسلط الضوء على رجال العلم بهذه القبيلة او غيرها من القبائل الشمالية ، و ذلك لاهتمام المؤرخين في العادة بأعلام الحياة الفكرية التي ارتبطت بالمناطق القريبة من مراكز القرار السياسي و بالعواصم العلمية اللامعة دون غيرهما من الفضاءات التي تدخل ضمن نفوذ البادية و الحياة الجبلية . و نرجح في هذه الفترة تحديدا في مجال القراءات و العلوم القرآنية بروز نجم ابناء الولي الصالح سيدي مولود من ابناء سيدي يلصو (يرسول) دفين مدشر الخزانة ، خصوصا و ان هذا المدشر ظل معقلا حيا لحفظة كتاب الله تعالى حيث تناقلت الاخبار منذ زمان (( أن جل مدشر الخزانة أو كلهم يحفظون كتاب الله العزيز ، [ و انه سُمع ] من غير واحد من أهل الخزانة أنهم في بعض الأيام يرون نورا يصعد من ماء [احدى العيون المشهورة ببركتها في حفظ القرآن الكريم لمن شرب منها ] … )) () . و من ناحية أخرى ، فلا شك انه في هذه الفترة المسكوت عنها تاريخيا فان العديد من الاسر التي استوطنت بجوار مسجد جامع طارق ابن زياد بالشرفات المسجد العتيق المشار اليه سلفا ستكون قد اخذت حظها وافرا من التعليم و احتكت بالعديد من العلوم الشرعية و الثقافة العربية القائمة على المذهب المالكي و قيم التربية الصوفية السنية و عملت على بثها بين ربوع المنطقة . و من الاسر التي اشتهرت بقيامها على مسجد الشرفات في فترات مختلفة اسرة شرفاء آل ريان و آل بندكون و آل الحداد التي استوطنت جوار المسجد مستروحة بقدسية المكان و اشتهرت بتاريخها في الجهاد و الصلاح . فقرية الشرفات بقبيلة الاخماس ضمت اماكن عرفت بحرمتها و قدسيتها لشدة اعتنائها بالعلم الشريف و خدمة القرآن الكريم و التبتل و تلقي التربية على طريق أهل الزهد و الاحسان .. بل إن هذه القرية مثلت رباطا كبيرا لكثير من اهل الولاية و الصلاح كما نستنتج ذلك من الحدث التي رواه صاحب الدوحة في حديثه عن ترجمة الفقيه الورع و الصوفي سيدي أحمد الحداد الخمسي () احد تلامذة الولي الصالح ابو الجمال سيدي يوسف التليدي من رجالات التصوف و الشريعة بالقبيلة في فترة القرن العاشر ، بل و لا ادل على ذلك من وجود الكهف المسمى بكهف مولاي عبد القادر الجيلاني الموجود بسفح الجبل المطل على مسجد القرية العتيق و جامعها التاريخي . و هو من الآثار التاريخية التي تشهد على الطابع المتصوف القوي لقرية الشرفات و الدور الذي لعبته منذ العصور الاولى في مجال نشر التراث الروحي و ايواء العباد و الزهاد بالمنطقة الشمالية حيث يروى ان الكهف المذكور عرف ايواء قطب المشرق المولى عبد القادر الجيلاني في بعض سياحته الى بلاد المغرب للتعبد و التحنث ، و يقال انه مكث هناك يتعبد منقطعا حسب الرواية الشعبية المتوارثة .
و بالجملة فإن العلامة و المؤرخ الشريف سيدي محمد الصادق بريسون قد ترك لنا شهادة تاريخية ناصعة مثلت في الواقع افضل وصف أو تعبير عن حقيقة هذه القبيلة المتصوفة والعالمة المجاهدة ، إذ قال عنها بعبارة موجزة : (( و بها … من العلماء و الصلحاء مالا يحصى وأهلها إلى الآن موفقون راشدون وللمساجد هم معمرون . و بها من قراء كتاب الله العزيز الأساتيذ وأهل العشر ما لا يستطاع ، وهم ملازمون للطاعة ، متبعون للجماعة . و بلادهم في غاية الإحكام ، لا تقع بها سرقة ولا خيانة . و الجار بها أمين منفردا كان أو في جماعة )) () .
و مع هذا الكتمان الذي ظل يحيط بتاريخ العلم و الصلاح بالقبيلة اليلصوتية رغم كثرتهم إلا أن بعض اقلام المؤرخين و خاصة من البلاد الغمارية مشكورة قد احتفظت لنا بذكرى بعضهم بدءا من القرن الثامن الهجري، و هو القرن الذي سيعرف انتقال السلطة بالمغرب الى المرينيين و اتخاذ المدينة الإدريسية و مهد الشرفاء "فاس" عاصمة سياسية و علمية لهم و بالتالي سيستفيد التاريخ العلمي و الروحي بالمنطقة الشمالية و بقبيلة الاخماس تحديدا من هذا التحول السياسي التاريخي على مستوى الكتابة و التدوين . و هكذا ستشجع الظروف السياسية الجديدة على ظهور كتابات تحدثت عن بعض الاعلام اليلصوتية ممن نبغوا في الدراسات الشرعية و الادبية و كذلك في مجال التربية الروحية و علوم التصوف و أسراره اولائك الذين ظلوا تاجا لألاء على رأس القبيلة و المنطقة الشمالية جملة . كما سيتم التعريف بأسماء وازنة كانت هذه القبيلة بمراجعها العلمية المحلية هي صاحبة الفضل في نشأتها الاولى و تطورها في المجال العلوم و المعارف، و من الجدير و على سبيل الفائدة و الاستشهاد يمكن أن نذكر منها الاسماء الآتية :
1 العالم و الامام المتصوف ابي العباس أحمد اقطران اليلصوتي شيخ ابن مشيش (رض) من رجالات القرن السادس و المتوفى أوائل القرن السابع ، يوجد ضريحه بالقرب من قرية ابروج على مقربة من باب تازة الذي سيعرف فيما بعد بسيدي احمد العسلاني. لم يدون له التاريخ شيئا يذكر عن حياته و لا عن آثاره العلمية .
2 الامام الحجة و قطب العالم الاسلامي في التصوف على هدي النبوة المولى ابو الحسن علي بن عبد الله الشاذلي شهرة الزرويلي منشأ السكندري اقامة . و هو من سلالة ال البيت الادارسة و العنصر الشريف الذي استوطن ارض قبيلة بني يلصوت ، كان شأنه تماما كشأن استاذه شمس الولاية و العرفان قطب المغرب المولى عبد السلام ابن مشيش دفين التربة المباركة بجبل العلم . فقد ولد ابو الحسن الشاذلي رضي الله عنه بقبيلة الأخماس السفلى بمدشر اشتنوغل من بني يفرح من بني زرويل () في القرن السادس الهجري زمن الموحدين . و بقبيلته واصل تعليمه الاول بعد حفظ القرآن الكريم على عادة المغاربة .. مستفيدا مما كانت تزخر به قبيلته من شيوخ العلم الذين كانوا على تواصل دائم بمدينة السبتة عاصمة الدراسات الشرعية و علوم الحديث و اللغة و الادب ثم مدينة فاس التي بدأت تعرف انتعاش و ازدهار الحياة العلمية بها .
3 أبو الحسن علي الصُّغير الزرويلي من اعلام المذهب المالكي خلال المائة السابعة ، كان صدرا في زمانه في علوم الشرع و من الذين دارت عليهم الفتيا ببلاد المغرب زمن المرينين .اشتهر بالصُّغير الزرويلي، تلقى تكوينه الاول بقبيلته الاخماس ثم انتقل لمجاورة شيوخ عصره بفاس و الاخذ عنهم منهم الفقيه راشد بن أبي راشد الوليدي الذي كان عليه اعتماده في استكمال تكوينه العلمي. اثنى عليه الكثير من العلماء لمقامه و رسوخ قدمه و وصفوه بالحافظ و الحجة و المفزع في حل المشكلات و الفتوى . بعد أن تخرج على يديه الكثير من الطلاب و أهل العلم ذكرتهم كتب التراجم . خلف أبو الحسن جملة من الاعمال و الآثار العلمية قيدها عنه تلاميذه منها : نوازله المعروفة بنوازل الزرويلي و تقييد على تهذيب المدونة للبراذعي و تقييد على رسالة ابن أبي زيد القيرواني . وقد لقيت مؤلفاته اهتماما كبيرا من قبل الجم الغفير من اهل العلم ، توفي أبو الحسن – رحمه الله- بمدينة فاس سنة 719 ه عن سن تقارب مائة وعشرين سنة . ()
4 الولي الصالح سيدي ابو البقاء عبد الوارث اليلصوتي الجد . كان صاحب صولة و مكانة شهيرة بفاس . اخذ عن الشيخ ابي النجاء سالم الرداني الشامي و قرأ عليه ثم صحب الشيخ سيدي الصغير السهلي بعد ابي النجاء ، فاخذ عنه علم التصوف ، و لبث في صحبته عشر سنين الى ان توفي ، ثم انتقل الى صحبة الشيخ سيدي عبد الله الغزواني الذي اشتهر به و على يديه كان فتحه في طريق القوم ولد سنة 888 ه و توفي سنة 971 ه بتانزررت ببني دركول و بها قبره عى مقبرة من نهر ورغة () .
وكما يمكن ان نضيف في معرض الاشادة بإعلام الاخماس التاريخيين الذين ساهموا بقوة في ترسيخ اختيارات المغاربة الثقافية و حماية موروثهم الوطني مستعملين عبارة صاحب كتاب العليم الخبير اسماء اخرى مثل :
5 الولي الأشهر والعلم الأظهر أبو الجمال سيدي يوسف بن سيدي الحسن الخمسي التليدي ، و هو من اعلام القرن العاشر الذين اشتهروا بتكوينهم المزدوج في عوم الشريعة و التصوف . فقد ولد بقبيلته ونشأ وعظم صيته بها وضريحه بها مزارة مشهورة وهو من أعظم تلامذة القطب الرباني أبي محمد سيدي عبد الله الغزواني رباه منذ زمن صباه في حجره وتحت ولاية نظره حين كان قاطنا بقبيلة بني زكار مجاورا للمقام المشيشي المبارك بمدشر تازروت . توفي سنة 950ه .
6 و منهم ايضا الولي الصالح الفقيه ابو محمد عبد الله الشريف من اصحاب الشيخ الصوفي الشهير سيدي يوسف التليدي ، كان من مدشر السقيفة من بني فلواط ، و هو ممن ادركه صاحب الدوحة ابن عسكر سنة 954ه و وصفه بأنه كان فقيه جوادا فاضلا .
7 و منهم ايضا صاحب الولاية الظاهرة كما يحليه صاحب صفوة من انتشر ابو العباس احمد بن محمد بن عبد الوارث اليلصوتي اخذ عن سيدي ابي الشتاء الخمار توفي مسموما عام 1021ه . ترجم له غير واحد كصاحب التقاط الدرر و الاعلام بمن غبر و نشر المثاني و ممتع الاسماع .
و منهم حفيد هذا الاخير العارف بالله و المربي الصوفي ابو محمد عبد الوارث الاصغر (ت1076ه) بن سيدي محمد بن ولي الله سيدي احمد بن سيدي محمد بن الولي الكبير ابي البقاء سيدي عبد الوارث بن عبد الله اليلصوتي . و هو من سلالة ابي البقاء عبد الوارث الاكبر دفين بني دركول . من شيوخ الشاذلية المبرزين ، كان قد اسس له زاوية بفاس بناها قرب زقاق الحجر عرفت باسمه ().
كما تجدر الاشارة الى العلامة الفقيه سيدي الحسين الزرويلي توفي سنة 1031ه ، و ضريحه يوجد بعقبة سيدي على المصالي بفاس . و هو الفقيه العالم كان مقيما بالمدرسة المصباحية () . ومن جملتهم كذلك العلامة الأديب الشاعر المفلق أبو الحسن سيدي علي مصباح صاحب كتاب : ( أنس السمير في مهاجات الفرزدق و جرير ) و غيره من المؤلفات و دواوين الشعر الرفيع ، و أيضا العلامة القدوة الصالح الصوفي أبو عبد الله سيدي محمد بن حيون شارح الصلاة المشيشية المتوفى في حدود الثمانين ومائة وألف بزاوية تازروت العَلَمية و بها دفن رحمه الله بجنان الشرفاء أولاد سيدي محمد بن علي ابن ريسون. و له كتاب في التصوف سماه الفتوحات الربانية يوجد مخطوطا عند بعض الخواص ().
فهؤلاء هم بعض علماء قبيلة الاخماس و رجال صلاحها في الماضي تحديدا ، و هم كثير على كل حال و ان لم نواصل استقصاء مجمل اسمائهم كما حفظتها الوثائق و كتب التراجم . و هم يشهدون على مبلغ هذه القبيلة و خصوبتها في الجانب العلمي ،و من ناحية ثانية على مدى مساهمتها التي تستحق منا كل تثمين و اكبار ، خاصة و انها مثلت عبر حقب مختلفة مساهمة متميزة و عميقة احدثت الكثير من التحولات الايجابية ليس فحسب على مستوى نهضة المنطقة و عقليات الانسان بها التي كانت شديدة الارتباط بعادات محلية موروثة عن عهود ما قبل الاسلام من مظاهر وثنية و سلوكات فكرية و اجتماعية منحطة بائدة ، و لكن ايضا احدثت تحولات على مستوى اعادة بناء صورة المغرب و علاقة المغاربة الروحية و الثقافية بالعالم العربي و الاسلامي من خلال سفيرهم التاريخي الشهير ابي الحسن علي الشاذلي ذي الاصول الخمسية مولدا و نشأة و تعليما . مما يؤكد ان نضج المغاربة و قدرتهم على انتاج القيم و المساهمة في اعادة بناء الانسان المسلم يبقى عنوانا كبيرا يجعله في مصاف البلدان الاكثر طاقة على مستوى تحريك مسارات التاريخ في مجالاته الفكرية و الروحية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.