إذا كان الدارسون والباحثون قد اختلفوا في أصول الأمازيغيين بين أصل مشرقي وغربي وأفريقي محلي، فإنهم اختلفوا - كذلك- في تعداد القبائل الأمازيغية، وتبيان أنواعها، وكيفية تصنيفها، ولم يقتصر هذا على النسابة والمؤرخين العرب فقط، بل تعدى ذلك إلى الباحثين الكولونياليين والمستمزغين(Berbèristes)، وقد اتخذ تصنيف القبائل الأمازيغية أبعادا سياسية، ونفسية، وعرقية، واجتماعية ، وإيديولوجية... هذا، وتسعفنا معرفة القبائل في استكشاف مكونات المجتمع المغاربي، وتبيان تركيبة الدولة الأمازيغية من الناحية الديموغرافية، ورصد خصائص قبائلها من النواحي النفسية والمعيشية من جهة، ومن حيث العادات والأعراف والتقاليد من جهة أخرى. هذا، ويتكون المجتمع الأمازيغي أو البربري، في شمال أفريقيا، كباقي الشعوب الأخرى، من جذوع سلالية كبرى، تتفرع عنها قبائل عديدة ومتنوعة، تتجمع وتتحالف فيما بينها على أساس العصبية القبلية القائمة على القوة والغلبة. وقد شكلت بعض القبائل الأمازيغية - حسب قوة عصبيتها، وشدة شكيمتها- دولا وإمارات في دول تامازغا، كانت لها مكانة سياسية واقتصادية كبرى في المنطقة، مثل: المرابطين، والموحدين، والمرينيين، وبني عبد الواد...وما تزال النزاعات القبلية بين أمازيغ شمال أفريقيا تشتعل من لحظة إلى أخرى لأسباب سياسية ، واجتماعية، واقتصادية، وإثنية، وثقافية، ودينية، وحضارية. وما يهمنا ، في هذا الموضوع، هو التوقف بالتحليل والدراسة عند أهم التشكيلات القبلية للمجتمع الأمازيغي في شمال أفريقيا، بغية استجلاء مختلف الدلالات التي يحملها هذا التصنيف القبلي والعرقي والمجتمعي والجينيالوجي. القبائل الأمازيغية القديمة: من المحتمل أن تكون العائلات والأسر والعشائر قد تحولت إلى قبائل في شمال أفريقيا، وقد دخلت بعض القبائل الأمازيغية في تحالفات عسكرية مع قبائل أخرى لرد العدوان الداخلي أو الخارجي.وبعد ذلك، تشكلت من هذه القبائل نطاقات سياسية واجتماعية كبرى، مثل: موريطانيا، ومازيسولة، وماسولة، والكناري، ولواته، وفزاني، والقارمانتي، وماكاي، والجيتول... هذا، وقد أشار المؤرخ اليوناني هيرودوت إلى بعض القبائل التي كانت تسكن تمازغا بقوله:» فهناك في الداخل؛ صحراء ليبيا؛ وعلى أرض هذه القفار؛ تقوم مساحات واسعة من الرمال تمتد من طيبة في مصر إلى أعمدة هرقل...ويعيش الأمونيون على بعد عشرة أيام من طيبة، وعلى بعد عشرة أيام أخرى منها إلى الغرب ، تقع أوجيلة؛ وهي واحة يزرع فيها أهل نسامون أشجار النخيل...وعلى بعد عشرة أيام أخرى من أوجيلة؛ جبل رملي آخر؛ فوقه ينبوع وواحة من أشجار النخيل كغيرها من الواحات.وفي هذه المنطقة، يعيش شعب قوي وعظيم يدعى القارمونت.وهذا الشعب يغطي الأرض بالملح ثم يزرع القمح...؟؟ ! وهنا، تعيش أيضا الثيران التي ترعى الكلأ، وهي تسير إلى الوراء للسبب التالي: فقرونها ملوية إلى الأمام. ولذا، فهي تضطر إلى المسير إلى الخلف عندما ترعى الكلأ...ويطارد هؤلاء القارمونت الأحباش الذين يعيشون في الكهوف بعربات تجرها جياد أربع. ويعتبر هؤلاء الأحباش الذين يعيشون في الكهوف أسرع الناس عدوا. لكن ساكني الكهوف يأكلون الأفاعي والسحالي وغيرها من الحيوانات الزاحفة. ولا تشبه اللغة التي يتحدثون بها لغة أي شعب آخر؛ فهم يهذرون مثل الوطواط أو الخفاش.»1 إذاً، يشير كتاب هيرودوت إلى مجموعة من القبائل التي كانت تعيش في شمال أفريقيا جنبا إلى جنب، أمثال:القورينيين، والناسمونيين، والجيليكام، والأسبيست، والأسخيس، والباكال، والفسيل، والمكاي، والكندان، واللوطوفاجيون، والماكلييس، والأوسيس، والأطلسيين...وفي هذا، يقول هيرودوت:» لقد تمكنت أن استعرض أسماء الأقوام الذين يستوطنون الطوق الرملي حتى الأطلانط، ولكن ليس مابعد ذلك.لكن بإمكاني أن أجزم أن هذا الطوق يمتد إلى غاية أعمدة هرقل[يقصد مضيق جبل طارق]، بل وما بعدها.»2 ويتبين لنا ، من هذا كله، أن منطقة تمازغا كانت غاصة بالقبائل البربرية التي كانت تعنى بالزراعة والفلاحة وتربية الماشية، وأغلب هذه القبائل كانت مستقرة بالواحات الصحراوية، تعيش بتمر النخيل، وتستعمل عربات الجياد في طرد الأحباش الذين كانوا يسكنون الكهوف، ويأكلون الزواحف ، وكانوا أكثر الناس عدوا. ومن باب العلم، فقد كان الأمازيغ سباقين إلى صنع العربة التي تجرها الجياد، كما يفهم من شواهد هيرودوت التاريخية. وفي هذا يقول الباحث جورج غيرستر:» لكن الدليل قد قام على أن الليبيين الذين كانوا دائمي الإغارة على حدود مصر الغربية كانوا يستخدمون الخيول في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وتذكر أسطورة عن دولة الفراعنة الحديثة أن جنود الفرعون وضعوا أيديهم في معركة دارت عام1229ق.م على أربع عشرة عربة فردية العجلات؛ غنموها من زعيم ليبي وأولاده.ويظهر هذا الدليل؛ أن الحصان والعربة قد وصلا إلى البلاد الواقعة إلى الغرب من مصر لا من وادي النيل؛ بل من الشمال.ففي القرون الأخيرة من الألف الثاني قبل الميلاد ، جاءت موجة من الشعوب التي تسمى بالبحرية مقتحمة حوض البحر الأبيض المتوسط؛ وقادمة من البحر الأسود.ومن المحتمل أن يكون هؤلاء الأقوام قد هبطوا في برقة، وكانوا مسؤولين عن دفع الليبيين شرقا ضد مصر.ومن المحتمل أن يكون القارمونت قد شكلوا جزءا من هذا الغزو.ويوضح هذا الافتراض الملامح البحر- متوسطية في الصخور الصحراوية القارمونتية كملابس الرجال والنساء، وأفخاذ سائقي العربات الضيقة وأكتافهم العريضة، وكذلك الجياد، وهي في حالة غارة.»3 وهكذا، يتبين لنا بأن شمال أفريقيا قد عرف عدة قبائل متجاورة فيما بينها، قبل الفتوحات العربية الإسلامية، وكان أساس اقتصادها هو الفلاحة وتربية المواشي. القبائل الأمازيغية حسب النسابة والمؤرخين العرب: تنبني قوة التواجد الأمازيغي على العصبية القبلية باعتبارها ظاهرة سياسية واجتماعية وتاريخية. بمعنى أن الحكم كان يؤخذ بالقوة والغلبة، أو على أساس قوة شخص أو مجموعة أشخاص، تشحذهم العصبية القبلية بقوة الإصرار والعزيمة والتحدي والصمود. وقد آلت هذه العصبية القبلية، إبان العصر الوسيط، إلى تأسيس مجموعة من الدول في شمال أفريقيا واضمحلالها، خاصة بعد أن عضدت هذه العصبية القبلية بثابتين أساسيين هما: الدفاع عن الدين الإسلامي، والحفاظ على اللغة العربية . والدليل على هذا التفسير ما قاله حسين مؤنس، وهو يتحدث عن البربر في الأندلس:» وقد ذكرنا هذه المواضع على سبيل المثال لاعلى سبيل الحصر؛ لنستنتج أن البربر انتشروا- منذ العصر الأول- في نواحي شبه الجزيرة كلها.وقد اكتفينا بذكر المواضع المتطرفة؛ في أقصى الشمال الشرقي، والشمال الغربي؛ وتركنا غير ذلك؛ من مواضع الوسط، والجنوب، والجنوب الشرقي، والجنوب الغربي؛إذ لاتكاد تخلو ناحية من هذه النواحي أو مدينة من مدنها من منازل بربرية...بيد أننا نستطيع القول بأن المواضع التي ولي عليها أمراء بني أمية، وخلفاؤهم ولاة من البربر؛ كانت منازل بربرية من قديم الزمان؛ لأن الأمراء لا يولون أميرا بربريا على ناحية معظم سكانها عرب، أو من أهل البلاد.ومن غير الممكن كذلك أن تقوم إمارة بربرية في ناحية لايغلب على سكانها العنصر البربري؛ لأن حكم هذه النواحي كان لايقوم إلا على عزوة، وعصب متأصلين.»4 هذا، وإن أحسن تقسيم للبرابرة هو تقسيم ابن خلدون، كما ورد في كتاب العبر، حيث قسمهم إلى جذعين سلاليين كبيرين هما: البتر والبرانس، وهما من نسل مازيغ بن كنعان. ويرى ابن حزم أن برانس والبتر من أب واحد هو كنعان بن حام. بينما يرى بعض نسابة البربر ، وبينهم سابق المطاطي، أن البرنس جدهم من نسل كنعان. في حين، ينتمي البتر إلى بر بن قيس بن غيلان بن مضر. وفي هذا ، يقول ابن خلدون» وأما شعوب هذا الجيل وبطونهم، فإن علماء النسب متفقون على أنهم يجمعهم جذمان عظيمان، وهما برنس ومادغيس، ويلقب مادغيس بالأبتر. فلذلك، يقال لشعوبه البتر، ويقال لشعوب برنس البرانس، وهما معا ابنا بر، وبين النسابين خلاف هل هما لأب واحد، فذكر ابن حزم عن أيوب بن أبي يزيد صاحب الحمار أنهما لأب واحد على ما حدثه عنه يوسف الوراق، وقال سالم بن سليم المطماطي وصابى بن مسرور الكومي وكهلان بن أبي لووهم نسابة البربر أن البرانس بتر، وهم من نسل مازيغ بن كنعان، والبتر بنو بر بن قيس بن غيلان ، وربما نقل ذلك عن أيوب بن أبي يزيد، إلا أن رواية ابن حزم أصح؛ لأنه أوثق. (وأما) شعوب البرانس، فعند النسابين أنهم يجمعهم سبعة أجذام ، وهي أزداجة، ومصمودة، وأوربة، وعجيسة، وكتامة ، وصنهاجة، وأوريغة، وزاد سابق بن سليم وأصحابه لمطة، وهسكورة، وجزولة...»5 وما يهمنا، في هذا الصدد، أن البربر ينقسمون - وراثيا- إلى جذعين كبيرين هما: البتر والبرانس. كما ينقسم البرانس إلى سبع أو تسع قبائل هي: أزداجة، ومصمودة، وأوربة، وعجيسة، وكتامة ، وصنهاجة، وأوريغة، ولمطة، وهسكورة، وجزولة. في حين، ينقسم البتر إلى القبائل التالية: زواغة، وزناتة، وزواوة، ونفزة، ولواتة، ومزاتة، ونفوسة، ومغيلة، ومطماطة، ومطغرة، ومديونة، وصدينة. ويلاحظ أن هذا التقسيم مزدوج، يشبه تقسيم المؤرخين للعرب إلى مضر ويمن أو عرب الشمال وعرب الجنوب . كما أنه تقسيم عربي، وضعه النسابة والمؤرخون العرب، وليس تقسيما أمازيغيا محضا. ويشير هذا الازدواج النسبي (الجينيالوجي) إلى ثنائية التوازن أو التناوب السياسي، فإذا رجحت كفة البتر، تراجعت كفة البرانس، والعكس صحيح أيضا، وقد تتعادل الكفتان معا، إذا تعادلت القوتان سياسيا واقتصاديا وعسكريا. ويرى محمد حقي في كتابه (البربر في الأندلس) أن هذا التقسيم المزوج له خلفيات نفسية وسياسية:» يبدو من خلال مبررات النسابين أن أصل التقسيم هو النسب.لكننا نشك أن يكون الدافع الوحيد لظهوره.فهذا التقسيم يتشابه مع تقسيم العرب شمال (مضر) وعرب جنوب( يمن)، وربما كان هذا النموذج هو الذي طبقه العرب على بيئة مغربية لاتعرفه.وعندما يجعلون البتر من أصل عربي أجنبي عن المنطقة، ألا يعني هذا محاولة لكسب جزء مهم من البربر إلى جانب العرب الفاتحين في البداية، ثم الحاكمين فيما بعد؟ فهذا عمل نفساني بالأساس يعمل على ربط البتر بالعرب، وجعلهم جزءا منهم، مادامت مسألة النسب في آخر المطاف مسألة اصطلاحية وإحساسية.ويتأكد لنا الرأي عندما نصعد مع التاريخ لنتوقف عند محطة القرن العشرين، ومع أحد من اهتموا بهذا التقسيم وهو كوتيي(GAUTIER) الفرنسي الذي عاد لينبش في هذا الموضوع ، ويعطيه بعدا آخر، لكنه لايختلف عما سبق.فهو يقر هذا التقسيم، ويرى أنه لايرتبط فقط بنمط العيش6، بل هو نتيجة لاختلاف الأصول، فالقسم الكبير من البتر أجانب، أما البرانس فهم سكان المنطقة، فهم أصليون متحضرون تشبعوا وتأثروا بالحضارة الرومانية والمسيحية.فهو -هنا- يحاول اجتذاب البرانس إلى فرنسا، أكثر مما يناقش مسألة الأنساب والتقسيم. نخلص إلى أن تقسيم البربر إلى بتر وبرانس، على الرغم من الخلفيات التي تحكمت فيه، قد استطاع أن يتحول إلى واقع وعمل على تطور أحداث المنطقة، و كثيرا ما أثير هذا التقسيم في إطار صراعات بربرية داخلية.»7 ويذهب الدكتور إبراهيم حركات إلى وجود ثلاث مجموعات بربرية كبرى هي: «( زناتة، وينتمي إليها بربر الجزائر ماعدا القبائل. كما ينتمي إليها بربر تونس وليبيا.أما في المغرب، فينتمي إليها بربر الأطلس المتوسط الجنوبي، ومنطقة الريف، وجبل بني يزناسن، وزكار، وشرق الأطلس الكبير جهة بوذنيب، ثم توكورت، ومزاب، ووراغلة في الصحراء. ( مصمودة، وينتمي إليهم قسم من غمارة غرب الريف، وشلوح الأطلس الكبير الغربي، وأكثر بلاد السوس والأطلس الصغير. (صنهاجة ، وينتمي إليهم قسم من بربر التخوم المغربية الجزائرية، والقبائل، والأطلس المتوسط، وتافيلالت، وطوارق الصحراء، ووسط الأطلس الكبير، وملوية العليا.8» وعليه، تعد زناتة ومصمودة وصنهاجة من العصبات القبلية الكبرى، إذ تضم زناتة بني مرين، وبني عبد الواد، ومغراوة، وتجين،، وزواغة، وبني فتن، ومغيلة، ومطغرة، ومديونة، وكشانة، وملزوزة، ولواتة، ومطماطة، ولهاصة، ومرنيسة، وبني دمر، ونفوسة، وبني يصونة، وبني يجيش، وبطيوة، وكزناية، وبني ورتطغير، ونفزة، وجراوة، ومكناسة، ولماية، وبني مستارة، وأوربة... وتمتد منطقة زناتة من جبال الأوراس شرق الجزائر إلى المحيط الأطلسي عند مدينة أصيلة، مرورا بالسهول العليا الجزائرية، وممر تازة وسهل سايس، ومعظم هذه القبائل هم من صنف البتر. أما صنهاجة، فتضم لمتونة، ولمطة، وجزولة، ومسوفة، وكتامة، وجدالة، وهوارة، وزواوة...ويسكنون جبال الأطلس المتوسط والصغير، وبعض الجزر في الأطلس الكبير، وجبال القبائل، ثم الأراضي الصحراوية التي تمتد من جنوبتونس حتى سواحل المحيط الأطلسي. وتتكون مصموة من غمارة، وهسكورة، وإيلانة، وغدميوة، وهرغة، وكندافة...ويستقر هؤلاء في الريف الأوسط والغربي، ثم الأطلس الكبير والسهول الأطلسية والحوز وسوس من المغرب الأقصى9. ويقدم ابن خلدون، في كتابه التاريخي، تفصيلا دقيقا عن هذه القبائل ومواطنها وأنسابها. بيد أنه يلاحظ أن تصنيف بعض القبائل إلى زناتة أو صنهاجة أو مصمودة فيه تداخل وشك وتضارب بين النسابة والمؤرخين العرب، فقد نرى بعض القبائل الأمازيغية تنتمي إلى زناتة تارة، وعند بعض النسابة تنتمي إلى صنهاجة أو مصمودة تارة أخرى... أما ليون الأفريقي، في كتابه (وصف أفريقيا)، فيصنف البربر إلى خمس مجموعات قبلية كبرى هي: صنهاجة، ومصمودة، وزناتة، وهوارة، وغمارة. فقد بين بأن مصمودة تسكن الجزء الغربي للأطلس من حاحا إلى وادي العبيد، وكذلك الجهة المواجهة للجنوب وجميع السهول المجاورة.وتحتل أربعة أقاليم هي: حاحا، وسوس، وجزولة، وناحية مراكش.في حين، تسكن غمارة جبال الريف الأوسط والغربي.10 وعلى العموم، يتفرع الأمازيغ كلهم من جدين كبيرين هما: الجد برنس، والجد مادغيس الأبتر. إلا أن الباحث المغربي علي صدقي أزايكو يشكك في هذا التقسيم النسبي الذي اعتمده ابن خلدون وغيره من النسابة والمؤرخين العرب في العصر الوسيط، ويعتبره تقسيما عربيا إيديولوجيا مستوردا لاعلاقة له بالإنسان الأمازيغي في شمال أفريقيا.وفي هذا يقول أزايكو:» وقد تناول ابن خلدون هذا الموضع في( كتاب العبر ) بكثير من التفاصيل ماكان له أن يدرجها في موسوعته لو لم تكن متوفرة لديه. وكونها متوفرة دليل على أن الناس قبله اهتموا كثيرا بمسألة أنساب الأمازيغيين. ونسجوا تاريخهم كله على منوال النظرية النسبية أو الجينيالوجية المعتمدة عند الساميين في الشرق الأوسط.وعلى الرغم من أن الواقع الجغرافي والتاريخي لايزكيان البناء الجينيالوجي المطبق على سكان شمال أفريقيا الأمازيغيين ككل، خصوصا على المستوى العام. أي: على مستوى التقسيمات الكبرى، فإن النظرية النسبية لعبت دورا بينا كإيدولوجية مجمعة على المستوى المتوسط والأدنى، خصوصا عند تجمعات الرحل من زناتة وصنهاجة مثلا.»11 وأكثر من هذا، فقد فسر علي أزايكو اختلاف البتر والبرانس اختلافا مجتمعيا ومعيشيا ومظهريا، وركز بالذات على عنصر الملبس، فالبتر - انطلاقا من الدلالات المعجمية العربية- كانوا يلبسون لباسا قصيرا.في حين، كان البرانس يلبسون برنسا طويلا. بينما كلمة البتر ، في اشتقاقاتها الأمازيغية- لاتحمل دلالة القصر والقطع، بل تحمل دلالة أمازيغية إيجابية محضة، توحي بالأنفة، و الإباء، والشجاعة ، والتضحية، والعزة ، وعدم الخضوع للعدو. أدوار البتر والبرانس: تنتمي قبائل زناتة إلى البتر، وهي قريبة من العرب ومن حياتهم الاجتماعية، فقبائل زناتة كثيرة الترحال من مكان إلى آخر بحثا عن الماء والكلإ، يركب أهلها الخيول والإبل، ويتخذون الخيام أمكنة للمأوى، وينتقلون مع مواشيهم من ناحية إلى أخرى، ولا يعرفون الاستقرار في المدن والجبال كباقي القبائل الأمازيغية الأخرى(مصمودة ). وفي هذا السياق، يقول إبراهيم حركات:» لاحظ ابن خلدون وجوه الشبه بينهم وبين العرب من الوجهة الاجتماعية، حيث يسكنون الخيام، ويركبون الخيل والإبل، وينتقلون بخيامهم من مكان إلى آخر. فكانوا يقضون الصيف في التل والشتاء في الصحراء، ولا يخضعون لحكم قار، وتعتبر زناتة أكثر قبائل البربر قابلية للتعريب نظرا لاحتكاكهم المستمر بالعرب، ولكن طبيعة التنقل والحياة البدوية التي فطروا عليها؛ مما أبعدهم عن العناصر البربرية الأخرى التي كانت أكثر قابلية للتمدن والاستقرار كالمصامدة مثلا. وهكذا، فإن القرن الرابع الهجري شهد المغرب خلاله صراعا مريرا بين النزعات الزناتية المختلفة، دون أن تتمكن إحداها من إقرار حكومة منظمة تشمل بنفوذها كل مناطق المغرب؛ ومما يؤكد وجود صلة متينة بين العرب وزناتة أن المرينيين قربوا إليهم البدو والمهاجرين أكثر مما قربوا إليهم سائر العناصر القاطنة بالمغرب. وتتفرع زناتة إلى بطون عديدة، ويبدو أن طلائعهم هاجرت من ليبيا وجنوبتونس منذ الفتح الإسلامي، واستمرت هجراتهم إلى المغرب متصلة بضعة قرون.ويمتاز الزناتيون بمهارتهم في فن الفروسية الذي اكتسبوه بفضل حياة الترحال المستمر. وكانوا في القرن الثاني يشكلون ما لا يقل عن ثلثي المراعي بإفريقيا الشمالية...»12 هذا، وتنتمي صنهاجة ، في مجموعها، إلى البرانس، وقد أرجعها نسابة العرب إلى أصل عربي، ويمكن تقسيم الصنهاجيين إلى قسمين: الرعاة الذي يعيشون على التنقل والارتحال ، و المستوطنين الذين استقروا بالجبال والسهول والمدن. أما أهل مصمودة، فهم من البرانس المستوطنين المتحضرين، استقروا في المناطق الجبلية وسهول المحيط الأطلسي، وقد انشغلوا بالزراعة والفلاحة وتربية المواشي. أما دور البتر ، في تاريخ شمال أفريقيا - حسب علي أزايكو- فقد « كان دورا نشيطا جدا منذ القدم.فقد قاوموا بعنف واستماتة الوجود القرطاجي والروماني انطلاقا من أوطانهم بليبيا، وجنوبتونس الحالية، وجنوب شرق الجزائر.وتميزوا في معاركهم بتفوق حربي بارز.وساهموا مساهمة فعالة في فتح شمال إفريقيا والأندلس في عهد الإسلام.لأن قسما مهما منهم حالف العرب الفاتحين منذ البداية، وانخرطوا في جيوش الإسلام، وخاضوا المعارك لإخضاع باقي إخوانهم.كما أنهم تزعموا ثورات ضد الولاة العرب في إطار الحركة الخارجية التي أدت إلى تقويض أركان السلطة الأموية في شمال إفريقيا بصفة نهائية. كما أسسوا إمارات ودولا معروفة في كل من الجزائر والمغرب بصفة خاصة .كما أنهم لعبوا دورا متميزا في تعريب قسم كبير من الأمازيغيين؛ لأنهم تعربوا قبل باقي إخوانهم، وذلك لأنهم وضعوا أيديهم في أيدي العرب لتشابه الحياة عند الفريقين...»13 وإذا كان البتر يعرفون بالملبس القصير، وباحتكاكهم الشديد بالعرب، فإن البرانس يعرفون بالبرنوس أو اللباس الطويل، وكان يعرفون استقرارا وتمدنا وحضارة.وفي هذا يقول أزايكو:» أما عن الدور التاريخي لشعوب التي تنسب إلى البرانس، فإنه كان دورا هاما جدا؛ لأنهم طبعوا تاريخ شمال أفريقيا أكثر من إخوانهم المنسوبين إلى البتر ببصمات خالدة. بل إن آثار أعمالهم تجاوزت حدود المغارب لتتغلغل في أعماق الصحراء وساحل أفريقيا الصحراوي، وفي شبه جزيرة أيبيريا ومصر. وبذلك، ساهموا في بناء الحضارة المغاربية مساهمة فعالة وعميقة، لا بالمشاركة البارزة في أكبر الأحداث التاريخية فحسب، ولكن كذلك بخدمة التربة الوطنية وإغنائها والحفاظ عليها واستدرار خيراتها في السهول والجبال والصحاري والسواحل.ولم يمنع من اختلاطهم المبكر بمختلف القوى المداهمة لبلادهم الحفاظ على شخصيتهم المتميزة، ومن مقاومة تلك القوى ببسالة وصمود. وقد تمكنت قبائل البرانس بحكم استقرارها ومجاورتها لرصيف البحر أن تتحضر وتتأثل المال، وتستفيد مما كان المهاجرون والفاتحون الأجانب يأتون به من مدنيات وثقافات، كما نمت فيها للسبب نفسه روح المقاومة، وكثر تعلقها بالأرض التي تقيم فيها، والتي لم تألف أن تبرحها كالبتر الرحل، وهذا ما جعلها تستميت في مقاومة العرب لأول الفتح الإسلامي، بينما وضع البتر أيديهم في أيدي العرب.»14 وبناء على ما سبق، يتضح لنا بأن البتر كانوا أميل إلى العرب؛ لاشتراكهم في الحياة الاجتماعية نفسها، تلك الحياة القائمة على الرعي والترحال والتنقل والفروسية.أما البرانس، فكانوا أكثر تمدنا وتحضرا واستقرارا وانفتاحا على الحضارات والمدنيات الأخرى. المجتمع الأمازيغي واختلاط الأجناس: يمكن الحديث عن ثلاثة أنواع من القبائل: قبائل أمازيغية حافظت على أمازيغيتها وهويتها الأصلية، وقبائل عربية تمزغت، وقبائل أمازيغية تعربت. بمعنى أن القبائل الأمازيغية التي احتكت بالعرب قد تعربت (مثل قبائل البتر)؛ نظرا لاشتراكها في القيم والعادات والتقاليد والأعراف نفسها. وهناك قبائل عربية تمزغت بسبب قربها من القبائل الأمازيغية، واندماجها فيها. لذلك، يصعب -اليوم- معرفة الأمازيغي من العربي والإفريقي والعجمي والآسيوي؛ نظرا لاختلاط الأنساب، وكثرة الهجرات، والتزاوج بين الشعوب والقبائل والعائلات والأسر. وفي هذا ، يقول العربي اكنينح:» كانت القبائل المسماة بالبربرية تضم أفخاذا بأكملها تنحدر من أصل عربي.ففي بني مطير- مثلا- تسمى آيت علي وعلي، والتي أصبحت تحسب على هذه القبيلة ، وفي آيت عطا كانت تعيش فرق برمتها داخل هذه الاتحادية تعود أصولها إلى القبائل العربية، مثل بني محمد، وهي قبيلة عربية من تافيلالت ،وآيت علوان، وآيت شعيب، وآيت شاكر.وهذه الأنساب معترف بها من طرف آيت عطا نفسها.وفي قبيلة شراكة التي تحسب على القبائل العربية، نجد أنها تكونت في الأصل، من أخلاط من القبائل ، منها من ينحدر من أصل عربي، مثل الشجع، وبني عامر، ومنها من ينتمي إلى أصل بربري، مثل مديونة ، وهوارة، وبني سنوس، ويجهل عامة الناس فيها أصولهم؛ لأنهم اندمجوا في بوتقة واحدة، ولا يعرف عربهم من بربرهم.وإلى جانب هذه الشواهد، تؤكد الدراسات العلمية التي أجريت في شمال أفريقيا على أساس علم الوراثة، المعتمد على مقارنة جينات السكان، على أن البربر لايشكلون وحدة بشرية متجانسة، وأنه يصعب وضع حدود وراثية بين الناطقين والمتحدثين بالعربية في بلدان المغرب الكبير.»15 وفي مكان آخر، يضيف الباحث حقيقة أخرى بأن كثيرا من أهل فاس يعتقدون أنهم عرب، لكن كثيرا منهم له أصول أمازيغية محضة. وكثير من القبائل البربرية تعتقد أن لها أصولا أمازيغية، لكن أصولها الحقيقية عربية . وفي هذا، يقول الباحث اكنينح:» كثير من المغاربة من ذوي النزعة العروبية، ولاسيما العامة من أهل فاس، يعتقدون، عن جهل، أنهم ينحدرون من أصول عربية قحة. في حين، إن شواهد التاريخ تثبت أن جذورهم أمازيغية محضة. وكثير من المغاربة من ذوي النزعة البربرية ، يعتزون بكونهم ينتسبون إلى أصول أمازيغية خالصة. في حين، تؤكد مصادر التاريخ أن العديد من الفرق منهم ترجع في أنسابها إلى القبائل العربية.علاوة على هذا وذاك، يجهل معظم الناس عندنا أن الأمازيغ والعرب ينتمون إلى سلالة واحدة هي السلالة الحامية-السامية.وحتى بالنسبة للشرفاء الأدارسة ، ينسى الكثير منا أيضا أن إدريس بن إدريس ينحدر من أب عربي وأم بربرية هي كنزة النفزوية.»16 وهكذا، يتبين لنا بأن المجتمع الأمازيغي ليس مجتمعا متجانسا في منظومته البشرية، فهو مجتمع مختلط على مستوى الأجناس، يتكون من العرب، والبربر، والزنوج، والروم، والفرس، وغيرهم... الخاتمة: وخلاصة القول، يعد موضوع القبائل الأمازيغية من المواضيع المعقدة والشائكة التي تحير الباحثين؛ لأنه يعتمد على البحث الوراثي والجينيالوجي، ثم معرفة الأنساب معرفة علمية دقيقة، ناهيك عما يثيره هذا الموضوع من حزازات سياسية ونفسية واجتماعية. علاوة على ذلك، فقد وجدت مجموعة من القبائل الأمازيغية في شمال أفريقيا، قبل الفتح الإسلامي ، وقد أشار إليها المؤرخ اليوناني هيرودوت. لكن النسابة والمؤرخين العرب، بما فيهم ابن خلدون، قد فرعوا القبائل الأمازيغية ، إبان العصر الوسيط، إلى جذعين سلاليين كبيرين هما : البتر والبرانس اللذين يعودان إلى أصل كنعاني أمازيغي مشرقي. وقد نشأت، عن هذين الجذعين الوراثيين الكبيرين، مجموعة من القبائل والبطون والعشائر التي يمكن تجميعها في فروع كبرى هي- حسب ليون الأفريقي-: زناتة، وصنهاجة، ومصمودة، وهوارة، وغمارة.وإذا كان البتر رعاة ورحلا وفرسانا ينتقلون من مكان إلى آخر، متأثرين في ذلك بحياة عرب الشرق، فإن حياة البرانس، على العكس من ذلك، قائمة على الاستقرار والمدنية والحضارة. ومن جهة أخرى، يلاحظ أن كثيرا من القبائل الأمازيغية الأصلية قد حافظت - نسبيا- على لغتها البربرية كما هي، دون أن تندمج في كتل لغوية أخرى. بيد أن هناك قبائل أمازيغية قد تعربت؛ بسب احتكاكها بالقبائل العربية المجاورة لها، فتشربت عاداتها وتقاليدها وأعرافها، بشكل من الأشكال. في حين، نجد قبائل عربية أخرى قد تمزغت ؛ نظرا لاحتكاكها المباشر بالقبائل الأمازيغية المحاذية لها، فتمثلت قيمها المعنوية الشعورية واللاشعورية، ثم تأثرت بمختلف مظاهر حياتها الاجتماعية. 1 - هيرودوت:أحاديث هيرودوت عن الليبيين (الأمازيغ)، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2009م، صص:59-62. 2 - هيرودوت:أحاديث هيرودوت عن الليبيين (الأمازيغ)،ص:67. 3 - بوزياني الدراجي: القبائل الأمازيغية، الجزء الأول،دار الكتاب العربي، الجزائر، الطبعة الأولى سنة 2003م، ص:59-60. 4 - د.حسين مؤنس: فجر الأندلس، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدة، طبعة 1985م، ص:382-383. 5 - ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، الجزء السادس، دار الفكر، د.ت، ص:90-91. 6 - يغلب على البتر نمط عيش الترحال والتنقل وراء القطعان، ويستقرون في المناطق المنخفضة. بينما يستقر البرانس في الجبال، ويعتمدون على حياة الاستقرار والزراعة. 7 - محمد حقي: البربر في الأندلس، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2011م، ص:23-24. 8 - د.إبراهيم حركات: المغرب عبر التاريخ، الجزء الأول، دار الرشاد الحديثة، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2009م، ص:22. 9 - محمد حقي: نفسه، ص:24. 10 - ليون الأفريقي: وصف أفريقيا، ترجمة: محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبع ة الثانية 1983م،ص:36. 11 - علي صدقي أزايكو: تاريخ المغرب أو التأويلات الممكنة، مركز طارق بن زياد، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى 2002م، ص:137-138. 12 - إبراهيم حركات: نفسه، ص:25-26. 13 - علي صدقي أزايكو: نفسه، ص:142-143. 14 - علي صدقي أزايكو: نفسه، ص:146. 15 - د.العربي اكنينح: في المسألة الأمازيغية: أصول المغاربة، مطبعة آنفو برانت ، فاس، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2003م، ص:36-37. 16 - د.العربي اكنينح: في المسألة الأمازيغية: أصول المغاربة،كلمات الغلاف الخارجي الخلفي.