23) لقد زعموا للبربر الجدد أنهم ينحدرون من شخص يدعى مادغيس، عُرف بقلب غريب هو «الأبتر»؛ أي مقطوع الذنب، والمراد مقطوع الخلف، ومنه جاءت تسمية البربر أنفسهم «بتراً» (جمع «أبتر»). البتر والبرانس، صنهاجة وزناتة قضى هؤلاء الجمالون الرحل في السهول الجنوبية على حياة الاستقرار والزراعة التي كان التنظيم الذي جُعل عليه خط التحصينات هو العامل الوحيد الذي صيّرها شيئاً ممكناً. وإن ظهور الرحل الحقيقيين في عالم إفريقي كانت الإدارة الملكية ثم الرومانية قد دفعت منذ قرون بالبربري إلى حصر مجاله في صفوف في ما يغرس من صفوف البصل وما يقيم من خطوط أشجار الزيتون، قد كانت له نتائج عظيمة على البلاد وعلى السكان. فلما زال ذلك الخط [الفاصل] إذا [السكان] شبه الرحل الذين كانوا من قبلُ يخضعون لمراقبة وتصفية شديدتين أثناء ما كانوا يرتادون من مواطن الكلإ بين السفح الصحراوي والهضاب التي تنتشر فيها زراعة الحبوب، قد صاروا يزيدون توغلاً في الأراضي الغنية والمزروعة، مدفوعين بضغط الرحل الجمالين أو مختلطين بهؤلاء القادمين الجدد. وقد كان لهذا الأمر نتيجة أخرى تمثلت في إدخال مجموعات بربرية جديدة قادمة من الشرق في هذا الوسط من البربر الأوائل، وما كان هؤلاء يتميزون بنمط عيشهم ودوابهم المركوبة وحتى حيواناتهم فحسب، بل إن أكثر ما كان يميزهم لغتهم. فاللغويون قد تعرفوا على مجموعة خاصة، هم زناتة، وإليها ينتمي هؤلاء القادمون الجدد. وما كان هؤلاء الزناتيون ينحدرون من النوميديين والموريين، بل إنهم حلوا محل الجيتوليين واحتووهم في تجمعات قبيلة جديدة، وجعلوا لهم نسباً جديداً. وسيُزعم لهؤلاء البربر الجدد أنهم ينحدرون من شخص يدعى مادغيس، عُرف بقلب غريب هو الأبتر؛ أي مقطوع الذنب، والمراد مقطوع الخلف، ومنه جاءت تسمية البربر أنفسهم «بتراً» (جمع «أبتر»). وكانت صنهاجة أهم مجموعة [بين هؤلاء القادمين الجدد]. وأما البربر الآخرون، المنحدرون من النوميديين والموريين، وهم الذين أسميهم أوائل البربر، فهم ينتمون إلى شخص يدعى برانس. وأهم مجموعة بين هؤلاء القادمين الجدد كانت هي صنهاجة، وقد أقامت لها في مناطق مختلفة من المغرب الكبير والصحراء ممالك وإمبراطوريات عديدة. ولقد وقع الباحثون في تبسيط شديد بالمعارضة القاطعة التي أقاموها بين زناتة وصنهاجة. فلئن كانت النزاعات بينهما متواترة فسيكون من الخطإ الاعتقاد أن كل البربر الرحل زناتيون وسائر الصنهاجيين مستقرون. فنحن لا نكاد نجد في الوقت الحاضر من رحل ينتمون إلى المجموعة اللغوية الزناتية، فقد كانوا أول المستعربين من البربر. وفي المقابل فإن ما بقي اليوم من لهجات البربر الرحل (وهم الطوارق) إنما تنتمي إلى المجموعة الصنهاجية. الغزو العربي : الحملات الأولى كان الغزو العربي ثاني أكبر حدث تاريخي هز البنيان الاجتماعي للعالم الإفريقي. وبعكس الرأي الشائع في الكتب المدرسية في أوروبا، لم يكن هذا الغزو محاولة استعمارية، أي لم يكن مشروعاً استيطانياً. لقد تمثل الغزو العربي في سلسلة من العمليات العسكرية الخالصة، كان يختلط فيها بكل سهولة الطمع في الكسب مع الروح الدعَوية. ولخلاف صورة أخرى تُجعل لهذا الغزو، فإنه لم يكن كذلك مجرد جولة بطولية على ظهور الخيل تكتسح أمامها كل مقاومة ببساطة متناهية. توفي النبي محمد سنة 632م، وعشر سنين بعدُ احتلت جيوش الخلافة مصر وبرقة. وفي سنة 643م توغلت هذه الجيوش في طرابلس الغرب. وقد وجِّهت حملة من الخيالة تحت قيادة ابن سعد حاكم مصر وأخي الخليفة عثمان من الرضاعة على إفريقية (وهو تحريف عربي للاسم القديم «إفريقا»)، وكانت يومئذ مسرحاً للمواجهات والتطاحنات بين البيزنطيين والبربر المتمردين وفي ما بين البيزنطيين بعضهم ضد بعض. وقد كشفت هذه العملية عن ثراء البلاد وكشفت كذلك عن مواطن الضعف فيها. كما وأنها حركت إليها المطامع المتأججة. ويصور لنا المؤرخ النويري كيف أنه قد تم بكل سهولة إعداد جيش عربي صغير من سوقات ساهمت بها معظم القبائل العربية. وقد خرجت هذه القوات من المدينة في شهر أكتوبر من سنة 674م، وربما لم يكن عددها يتجاوز خمسة آلاف رجل، ولكن في مصر زاد إليها ابن سعد، الذي تولى قيادتها، جيشاً من عين المكان، بما رفع تعدادها إلى عشرين ألفاً من المقاتلين المسلمين. وقد قع الصدام الحاسم مع الروم (البيزنطيين) بقيادة البطريق غريغوار بقرب سبيطلة في تونس، وكان فيها مقتل غريغوار، ولكن العرب انسحبوا راضين، بعد نهبهم البلاد المنبسطة وتحصلهم على جزية عظيمة من مدن بيزاسين (سنة 648م). ولم يكن لهذه العملية من غرض آخر. عقبة، فارس في سبيل الله لم يبدأ الغزو [العربي] الحقيقي إلا في زمن الخليفة معاوية [بن أبي سفيان]، الذي أعد جيشاً جديداً بقيادة معاوية بن خديج في سنة 666م. وبعدها بسنين ثلاث أنشأ عقبة بن نافع مدينة القيروان، فكانت أول مدينة إسلامية في المغرب الكبير. وتفيدنا الروايات المتناقلة عن المؤلفين العرب، وما فيها من اختلافات كثيرة، أن عقبة قد زاد خلال ولايته الثانية من تكثيف الغارات وتوجيهها إلى الغرب، فتم له الاستيلاء على مدن مهمة مثل لمبيز التي كانت هي المقر للفليق الثالث والعاصمة لنوميديا الرومانية. ثم توجه بعدها نحو تاهرت، على مقربة من تياريت الحديثة، ووصل إلى طنجة؛ حيث صور له شخص يسمى يوليان أو يوليانوس بربر سوس (في جنوب المغرب) في صورة فيها الكثير من التحامل. فقد حدثه عنهم بقوله : «إنهم قوم لا دين لهم، يأكلون الجثث ويشربون من دماء مواشيهم ويعيشون عيشة الحيوانات، لأنهم لا يؤمنون بالله، بل لا يعرفونه». فأوقع فيهم عقبة مذبحة عظمية، وسبا نساءهم وقد كن فاتنات الجمال. ثم سار حتى غاصت حوافر حصانه في البحر المحيط، وهو يُشهد الله أنه لم يعد من أعداء للدين فيحاربهم ولا كفرة فيقتِّلهم. إنها رواية يغلب عليها الطابع الأسطوري، وتوجد بإزائها روايات أخرى تقول إن عقبة تقدم حتى أقاصي فزان، قبل أن يشن معاركه في المغرب الأقصى، ولم يُلق بالاً إلى المقاومات التي وقفت في وجه تلك الحملات. بل إن المقاومة التي واجهت عقبة نفسه قد انتهت إلى كارثة اهتز لها الحكم العربي في إفريقية لخمس سنين. فقد أعطى القائد البربري كسيلة، وإن يكن تحول قبلها إلى الإسلام، انطلاقةَ الثورة عليه. وكان أن سُحقت قوات عقبة وهو في طريق العودة، جنوبي الأوراس، وقُتل هو نفسه في تهودة، على مقربة من المدينة التي تحمل اسمه وتضم قبره، سيدي عقبة. وزحف كسيلة على القيروان، وتم له الاستيلاء عليها. وتراجعت بقايا الجيش الإسلامي حتى برقة. ثم توالت الحملات والغارات، فكانت لا تكاد تخلو منها سنة من السنين. وكانت وفاة كسيلة في سنة 686م، وما أمكن الاستيلاء على قرطاج إلا في سنة 693م، وكان بناء مدينة تونس سنة 698م. وتزعمت المقاومة لبضع سنين امرأة من جراوة، إحدى قبائل البتر سادة الأوراس. وقد كانت هذه المرأة تسمى «الداهية»، لكنها تشتهر بالكنية التي جعلها لها العرب؛ «الكاهنة». ويمكن القول إن وفاتها، حوالي سنة 700م، قد كانت فيها نهاية للمقاومة المسلحة من البربر للعرب. وبالفعل، فعندما جاز طارق المضيق، الذي صار يُعرف باسمه (جبل طارق)، لغزو [فتح] إسبانيا، كان معظم جيشه يتكون من مقاتلين بربر، من الموريين. التحول إلى الإسلام وزوال الممالك البربرية المسيحية كانت النتيجة الرئيسية للغزو العربي أن تحول معظم البربر إلى الإسلام، وهو تحول تم بوتيرة أقل سرعة مما يُقال. وما تبقى من المسيحية غير جزر صغيرة في المدن، وبعض هذه المدن حديثة الإنشاء؛ مثل القيروان وتاهرت. وكانت بعض القبائل التي تهوَّدت في ظروف غير معروفة جيداً، هي التي كونت بداية التجمع السكاني لليهود المحليين في شمال إفريقيا. ولقد تحول البربر بأعداد كبيرة إلى الإسلام، على الرغم من «الردات» الكثيرة التي اتهمهم بها المؤلفون العرب. ويدلنا هذا التحول على حرص معظم الأسر الكبيرة على الانتماء إلى سلسلة نسب مشرقية. ومع أن النسابين يعرفون أن البربر مختلفون عن عرب الحجاز فلقد بحثوا لهم عن أصول حميرية (من الجزيرة العربية)، أو بحثوا لهم، كما سبق لنا أن رأينا، عن أصول كنعانية؛ وهو الأمر الذي يجزم به ابن خلدون. وقد كان في وجود تقليد مماثل ابتداء من العهدين الروماني والبيزنطي، قائم على ذكرى بعيدة لأصول بونيقية، مما شجع رجال الدين على ركوب هذه المحاولة الأولى لطمس هوية البربر. وكان للغزو العربي في القرن السابع نتيجة أخرى أبين وأوضح؛ فلقد حال دون تطور هذه الممالك المورية التي كانت تعتمد على قوة القبائل وعلى ما تبقى من الثقافة اللاتينية في المدن، وكانت تختلط بالمسيحية التي كانت مزدهرة في سائر نطاقات إفريقيا الرومانية القديمة. وقد كانت بَقيت من هذه الممالك البربرية المسيحية الآيلة إلى الزوال آثار بعضها هائل عظيم من قبيل الجدَّارات العظيمة (ومن جملتها فرندة، في غرب الجزائر)، والتي يعود أحدثها عهداً إلى ما بعد القرن الخامس بكثير، والكور بالقرب من مكناس (المغرب)، والتي أمكن تحديد تاريخ بنائها في منتصف القرن السابع (640 ? 90 باستعمال كربون 14). وبين هاتين المقبرتين التين تقومان شاهدين على إمارات قوية [في ما سلف]، تم العثور في مدينة ألتافا (أو حجر الروم، لامورسيير سابقاً) ومدينة بوماريا (في تلمسان) على شواهد قبور مسيحية، كما عُثر فيها على الكتابة الشهيرة للملك ماسونا. وفي أقصى الغرب تم العثور في مدينة وليلي على مجموعة فريدة من النصوص المسيحية النقوشية، وكانت لا تزال تحمل تواريخ العهد الروماني الأسقفي؛ فتواريخها تقع ما بين 595م و655م. القرن الخوارجي لقد صاحب تحول البربر إلى الإسلام تفاحشٌ في الانقسامات، ومن قبيلها تلك الاضطرابات الكثيرة التي وقعت بسبب دخول المسيحية إلى إفريقيا. وكانت أهم تلك الحركات هي التي نجمت عن تعاقب الخلفاء، خاصة ما تعلق منها بعزل عليٍّ، صهر النبي، وتولية معاوية وبني أمية. وقد ضاق بعض المؤمنين المتشبثين بنقاء الإسلام بتلك النزاعات وما كان يرافقها من أعمال القتل والتنكيل، فخرجوا عن جمهور المسلمين ?فسُموا بالخوارج : الخارجين أو المنشقين)، ودعوا إلى مذهب ديمقراطي يقوم على اختيار الخليفة. والمذهب الخارجي، الذي نشأ في المشرق، قد لقي نجاحاًً كبيراً لدى البربر. وما رأى أغلب مؤرخي العهد الاستعماري في هذا النجاح إلا أنه مظهر من مظاهر مقاومة البربر للحكم العربي. وقد جيء بالتفسير نفسه كذلك للتطور الذي عرفته الدوناتية1 أثناء الحكم الروماني على إفريقيا. وأما تصوري الشخصي فهو أن الطابع التقشفي والديمقراطي نسبياً للمذهب الخوارجي كان يوافق العقلية البربرية إلى حد كبير (انظر الفصل الرابع). وقد بلغت هذه الحركة من النجاح شأواً بعيداً، بما جعل المغرب الكبير يظل مشتعلاً قسطاً كبيراً من القرن الثامن. وقد أمكن لإحدى الانتفاضات الخوارجية، أطلقها سقّاء من المغرب الأقصى، أن تمتد حتى إفريقية. وقامت انتفاضة بربرية أخرى للطائفة الصفرية في جنوب إفريقية، فشكلت تهديداً خطيراً للحكم العربي؛ فقد تمكنت بها الطائفة المذكورة من الاستيلاء على القيروان سنة 757م. ثم تحققت الغلبة سنتين بعدُ في تلك المناطق نفسها لمذهب خوارجي آخر؛ هو المذهب الإباضي، الذي لا تزال تجد له بقايا إلى اليوم في مزاب وجربة وجبل نفوسة. وفي الأخير جاءت حملة جديدة من مصر فاستطاعت أن تعيد المذهب السني إلى ما يعرف حالياً بتونس، وهي التي كانت قد بقيت حتى بداية القرن العاشر تحت حكم الأمراء الأغالبة، الممثِّلين للخلفاء العباسيين. وأما ما تبقى من المغرب الكبير فقد كان له سادة آخرون؛ فإمارة خوارجية، هي المملكة الرستمية في تاهرت، وسط الجزائر، وعلى رأسها إمام من أصل فارسي، وأخرى في تافيلالت تتحكم في تجارة القوافل في وادي الساورة والتجارة البعيدة مع السودان (مالي حالياً)، وعاصمتها سجلماسة. وقامت مملكة أخرى في شمال المغرب على أساس ديني بزعامة أحد الشرفاء (المنتسبين إلى آل النبي) واسمه إدريس، وهو من الأحفاد المتأخرين لعلي وفاطمة، كان استقر في مدينة وليلي. ثم أسس ابنه، إدريس الثاني، مدينة فاس سنة 809م. وقد استمرت هذه الأسرة قائمة حتى نهاية القرن العاشر [الميلادي]. 1 - حركة قام بها أسقف قرطاج في القرن الرابع الميلادي، والتسمية مشتقة من اسمه دوناتوس. المترجم.