خلال حديث مع نائب في البرلمان الأوروبي في مقره ستراسبورغ قال لي في ما يشبه الاعتراف: هذا البرلمان الذي تراه مجرد سيرك لا قيمة له. برلمان بقرارات غير ملزمة هو مجرد أضحوكة! تعليقه كان على قرار أصدره البرلمان الأوروبي يعرف هو قبل غيره أنه لن يطبق لأن لا يخدم مصالح الاتحاد الأوروبي الاقتصادية. ( حظر تصدير أسلحة لدولة متهمة بانتهاك حقوق الإنسان). المرارة التي يتحدث بها نابعة من كون قرارات البرلمان الاوربي لا يؤبه لها داخل مؤسسات القرار الأوروبي إلا اذا وافقت فعلا السياسة الأوروبية المعتمدة من قبل المجلس الأوروبي (اجتماع الزعماء الأوروبيين) والمفوضية الأوروبية ( الجهاز التنفيذي للاتحاد). لكن غياب هذه الجانب الالزامي لقرارته البرلمان الأوروبي كان أثر "إيجابي" بشكل من الأشكال على عمل البرلمان إذ حرره من حسابات "السياسة الواقعية" (real politik) أي تلك ترفع شعار "المصلحة أولا" وسمح له بهامش أوسع من الحرية في اتخاذ القرارات حتى لو لم تتناسب مع مصالح الدول الأوربية نفسها، مادامت هذه القرارات لن تجد على الأرجح طريقها للتنفيذ ( قرارات حظر تصدير السلاح لدول على علاقة وثيقة مع الاتحاد الاوروبي متهمة بانتهاك حقوق الانسان/ تصنيف روسيا دولة راعية للارهاب....). في مقابل البرلمان الأوروبي الذي ينظر إليه على أنه مجرد منبر "للخطابة السياسية " أو "الشعارات الأخلاقية" وفقا لموازين القوى السياسية داخله، هناك المفوضية الأوربية وهي الهيئة التنفيذية التي تعد وتنفذ القرارات الفعلية التي يصدق عليها القادة في المجلس الأوروبي، وقراراتها نافذة لازمة. ولأنها نافذة فهي محسوبة، وتصدر عن سياسة ترفع شعار "المصلحة أولا"!!
هكذا تتعايش المؤسستان: البرلمان والمفوضية. يقول البرلمان ما شاء وتفعل المفوضية ما تشاء، والفعل قد يطابق القول وقد يخالفه حسب تطابق حسابات المصالح والشعارات! فيما يشبه تقاسم الأدوار. والكل سعيد وفرحان! الأمثلة كثيرة وليس هذا مجال سردها.
لكن هل كون قرارات البرلمان الأوروبي غير ملزمة، يعني أنها لاقيمة لها؟ لا أبدًا! هذه مؤسسة تشريعية تمثل أكثر من 500 مليون أوروبي. وتمثل نموذجا للديموقراطية التمثيلية في إطار اتحادي، وتحظى بإشعاع سياسي كبير داخل الاتحاد وخارجه، ونوابه لهم تأثير في السياسة الداخلية لبلدانهم والتأثير في الرأي العام.
والنتيجة أن قرارات البرلمان الاوروبي وإن كانت غير ملزمة للاتحاد، فهي من جهة ذات طبيعة توجيهية، قد يستعملها الاتحاد عند الحاجة ( إذا وافقت مصالحه)! ومن جهة ثانية ذات قوة معنوية ضاغطة داخل الاتحاد وخارجه.
عندما يدينك البرلمان الأوروبي يرسم لك صورة في أوروبا وأمام المجتمع الدولي. وقراراته أشبه ما تكون بتقييم أو تصنيف له قيمته أمام بقية دول العالم. وفي حال الإدانة فهو يجعل الثمن الذي يجب أن تدفعه مقابل "القبول" الدولي بك غاليا. إنه يضع دينا سياسيا في رقبتك عليك تسديده سياسيا واقتصاديا.
لنقل إن قراراته تشبه قرارات وكالات التصنيف الائتماني لكنها ذات طبيعة سياسية. وكما أن قرارات وكالات التصنيف الائتماني غير ملزمة للدائنين فإنهم يأخذونها بعين الاعتبار وعادة ما تؤدي إلى رفع تكلفة الدين وفوائده.
لذلك إذا أردت ألا تكون مضطرا للخضوع لإملاءات هذه الوكالات يجب أن تكون مستغنيا عن الدين ( الاقتراض)!! والأمر نفسه ينطبق على البرلمان الأوروبي! ———- هذه مقدمة طويلة من أجل خلاصة قصيرة بمناسبة القرارات الأخيرة من البرلمان الأوروبي التي دانت المغرب في موضوع حرية الصحافة بسبب اعتقال الصحافيين عمر الراضي وسليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين.
لا أحد يؤمن أن هذه المؤسسة تصدر قراراتها بدافع أخلاقي صرف! فهي تجمع سياسي غارق في الحسابات والمناورات السياسية منها الظاهر والباطن!
ولكن هل هذا يحجب حقيقة أن هناك صحافيين فعلا معتقلين وأن رائحة السياسة تفوح من هذا الاعتقال؟
وهل هذا يحجب أن هناك حاجة حقيقية لطي هذه الصفحة التي تسيء لصورة بلد يحاول أن ينهض رغم العثرات؟ الواقع أن هناك حاجة لتحصين البيت الداخلي ليس بغاية إرضاء جهات خارجية، ولكن لأن الشعب يستحق، والوطن أكبر من الأفراد والأحقاد! د. محمد البقالي. Mohamed El Bakkali