تميزت حصيلة 14 سنة من حكم صاحب الجلالة الملك محمد السادس بتوسيع مجال الحريات وتعزيز آليات مراقبة حقوق الإنسان والترسيخ الدستوري لمبدأي الشفافية وفصل السلط، وهي إنجازات ملموسة لا تقبل الجدل. فلا يمكن اختزال المرحلة التي تم قطعها في مجرد خطاب للنوايا الحسنة أو في إصلاح للمشهد الدستوري، بل على العكس من ذلك حيث بدأ المغاربة وبشكل طبيعي في قطف ثمار مسلسل واسع من الإصلاحات والعدالة الانتقالية في الوقت الذي ما تزال فيه شعوب المنطقة تتظاهر للمطالبة بإصلاحات سياسية واجتماعية.
وتتجسد تمظهرات هذه الدينامية، من بين أمور أخرى، في التجربة التاريخية للمصالحة مع الماضي وإصلاح مدونة الأسرة ومأسسة ثقافة حقوق الإنسان.
ولا شك أن المبادرات الملكية الاستباقية في مجال حقوق الإنسان تعتبر حقيقة لا جدال فيها منذ بداية العهد الجديد إلى درجة أن المغرب لا يزال يشكل ملاذا للسلام والاستقرار والتقدم في منطقة مضطربة .
فقد بادر جلالة الملك منذ توليه عرش المملكة إلى طرح وتطوير أفكار جديدة غالبا ما كان يعلن عنها في خطب جلالته.
فمن إصدار مدونة الأسرة التي حظيت باعتراف دولي باعتبارها نصا ثوريا إلى إحداث المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يعد مؤسسة مستقلة تتمتع بصلاحيات واسعة ، مرورا بالعمل المنجز من قبل هيئة الإنصاف والمصالحة، فإن الأمر يتعلق بمسلسل تقدمي شامل لا رجعة فيه.
فقد بادر جلالة الملك منذ البداية ضمن مقاربة تعددية ومؤسساتية إلى ترسيخ مفهوم المواطنة باعتبارها قاعدة للنموذج الديمقراطي والتنموي الذي نهجه جلالته من أجل بناء مجتمع حداثي ومتصالح محاط بكل الضمانات المؤسساتية ، من الحق في اللجوء إلى العدالة في القضايا المتصلة بخرق حقوق الإنسان إلى إصدار قانون لمناهضة التعذيب. فإذا كانت هيئة الإنصاف والمصالحة قد ساءلت الماضي بكل ما تضمنه من صفحات مؤلمة، فإنها لم تقف عند هذا الحد، بل وسعت عملها ليشمل المستقبل، وبالتالي فإن التوصيات التي تضمنها تقريرها تكتسي أهمية مركزية من أجل عدم تكرار الخروقات التي حدثت في الماضي،ومن أجل تعزيز مسلسل الإصلاحات التي باشرتها المملكة.
في هذا السياق، ألحت هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها على فصل السلطات باعتباره ضمانة لا مناص منها لاستقلالية القضاء، بما يمنع بمقتضى الدستور أي تدخل للسلطة التنفيذية في عمل القضاء.
وضمن هذا الإطار، أوصت الهيئة بتطوير التشريعات والسياسة الجنائية بما يتيح وضع ضمانات ضد خرق حقوق الإنسان وجعلها حجر الزاوية في مجال صيانة الحريات الفردية والجماعية.
وهنا يتجلى البرنامج الحقيقي للإصلاح الذي وضعته هيئة الإنصاف والمصالحة وأحالته على النظر السديد لجلالة الملك، الذي جعله إحدى أولويات العمل الحكومي ،بغاية توضيح اختصاصات مختلف الفاعلين ،تجنبا لأي تداخل في المسؤوليات قد يسهل الإفلات من العقاب أو يعرقل مبدأ المحاسبة.
وقد مكنت تجربة الإنصاف والمصالحة باعتبارها حدثا بارزا في التاريخ المعاصر للمملكة من القطع مع منطق الإفلات من العقاب ،وتعويض ضحايا الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان وجبر الضرر الجماعي .
ومن ضمن المنجزات الملموسة أيضا، إقرار التعامل مع منظمات المجتمع المدني باعتبارها شريكا نشطا ضمن مسار انخراط أكبر للمواطنين في السياسات العامة.
وفي المجمل، فإن المؤسسة الملكية باعتبارها فاعلا مسؤولا، تعد مصدر إلهام لعقد اجتماعي جديد من أجل المستقبل كما تدل على ذلك المقاربة التشاركية التي تم نهجها خلال مسلسل بلورة دستور 2011، وبوادر الأمل الواعدة التي حملها.
ولم تكن هذه الإنجازات المتراكمة لتصبح ذات أثر اجتماعي وسياسي لولا انصهارها ضمن الصرح الدستوري الذي هو نتاج لالتقاء إرادة جلالة الملك والقوى الحية للمغرب الجديد.