يحيل العنوان إلى فيلم مصري،" فوزية البورجوازية"، الذي يحكي قصة حي شعبي يعيش في أمان واستقرار يحكم التآزر علاقاته الاجتماعية، لكن هذه الأخيرة ستنقلب رأسا على عقب بسبب سوء فهم للمصطلحات والمفاهيم المتداولة، والتي تعتبر دخيلة على التداول العام وتنهل من القاموس السياسي. وبسوء فهمها، وتحكم البعض في طريقة تداولها، وسوء استعمالها، جعلت جماعة الحي تدخل في صراع بين تكتلين كبيرين اتخذا من اللونين الأبيض والأحمر رمزا يحيل إلى ما يفرق الداخل بين " فريقي الأهلي والزمالك" وما يرمزان إليه في السياسة الدولية "المعسكرين الشرقي والغربي". هذا الوضع دفع التكتلين إلى تبادل التهم بالخيانة والعمالة بلغت حد القطيعة الاجتماعية اتخدت من المواجهة بين بائع الحليب وبائع البطيخ( الدلاح) شكلا معبرا. ليهتدي القوم في الأخير إلى تحكيم العقل بدل الانسياق وراء الصدام والتشرذم وذلك بالتدخل لوضع حد للنزاعات وكل أشكال سوء الفهم. ولعل المشهد السياسي بالمغرب لا يحيد عن هذه الصورة، إذ تم إغراقه بمفاهيم ومصطلحات يصعب على المواطن البسيط فهم تداولها أو إدراك سياقات استعمالها مما يدخله في حالة من الشرود من طبيعة النقاشات المتداولة بخصوص قضايا الشأن العام. ونحن نعلم جميعاً أهمية ودور الخطاب السياسي في رسم الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي والتربوي.... وهذا بدوره يؤثر في نوعية سلوك الأفراد والسلوك المجتمعي، وأصبح من أحد المتغيرات الرئيسية في تحديد الرؤى العملية لمواجهة المشكلات وحلها، بل أصبح الخطاب السياسي الهادف محركاً رئيسياً في استثمار طاقات الشباب وتوجيههم لمواجهة التحديات المختلفة وينمي لديهم الشعور بالوطنية وحب الوطن، كما ينمي لديهم روح العمل والتنافس لتحقيق مكاسب ايجابية تساهم في حفظ الوطن والألفة الاجتماعية. إن الرجوع إلى سلم استعمال اللغة يجعلنا نقف عند ثلاث مستويات، مستوى التداول العام أو الحس المشترك والذي من خلاله يتم الاعتماد على ألفاظ تدخل في خانة المعرفة العامية، أما المستوى الثاني فيرتقي إلى التداول اللغوي والذي يسمح باستعمال كلمات لها دلالات في القواميس والمعاجم، أما المستوى الأخير فيرتبط بإنتاج خطاب يعتمد على مفاهيم مركزة وتحمل رسائل، لمتلقين محددين، ينبغي فك التشفير الذي تحمله من ذوي الاختصاص" محللين وباحثين وأكاديميين.
إن المتتبع والمحلل لأنواع الخطابات السياسية، وبالرجوع إلى التحديد السابق، ليستنتج تركيزها على البعد النظري والارتجال المؤدي إلى الفوضى والتنافر واختلاق الأزمات دون الخوض في حل المشكلات المجتمعية الراهنة. مما يوحي بتدنى مستوى هذا الخطاب، بسبب غلبة العاطفة على العقل واستبعاد التحليل والتمحيص والمنهجية العلمية والمنطق في اتخاذ القرار السياسي. الشئ الذي سينعكس أثره سلبيا على الأفراد وعلى المجتمع وعلى مصلحة البلاد كذلك. وضع جعلنا لا نستوعب ما يدور حولنا من مشكلات إقليمية وعربية. أما الشطحات السياسية المختلفة هنا وهناك قد تجر البلاد إلى "صراعات" داخلية لا يحمد عقباها. فنحن بأمس الحاجة اليوم إلى نهج سياسي مدروس و إلمام بالتربية السياسية ذات المنهج الديمقراطي المبني على احترام الرأي والرأي الآخر، وتقدير الذات والآخرين، والإيمان بالمشاركة السياسية المجتمعية. فما يدور اليوم من سجالات واختلافات واحتقانات بين مكونات المشهد السياسي يشعرنا بأزمة خطيرة قادمة لا تمت للديمقراطية بأية صلة، ويشعرنا بإمكانية فقدان طريق الإصلاح بسبب تدني ثقافة الحوار والابتعاد عن منظومة القيم التي من المفروض وأن تحكم الخطابات السياسية، إضافة الى ارتفاع نبرة التحدي والتهديد والوعيد وتبادل التهم.
وهكذا صارت تعابير وكلمات كثيرة جزءًا من لغة فئة واسعة من السياسيين ، وهي لغة تلعب بعض وسائل الإعلام دوراً في ترويجها سواء بقصد أو بدون قصد، من دون الأخذ في الاعتبار مصلحة الوطن والمواطنين، والقواعد الأخلاقية الصحيحة والصحية للتخاطب، ومدى انعكاس ظاهرة العنف اللفظي وتبادل المفردات والمصطلحات غير المقبولة على الشباب في تمثلهم للعمل السياسي ومدى قابليتهم للانخراط فيه واكتسابهم لثقافة سياسية. فيا ترى ما مستقبل هذه الأجيال عندما تتلوث أفكارهم بمفاهيم بعيدة عن القيم؟؟؟ وما يصاحب ذلك من وضع اجتماعي هش يئن تحت وطأة الأزمات المعيشية وحالة فقدان الأمل.
إن ما يجعل الخطاب السياسي ينحدر إلى هذا المستوى ارتباط ذلك بعدة أسباب: أولها: الشخصانية المفرطة وتعظيمها، أي تبعية الناس للأشخاص وليس للمبادئ وهذا ناتج عن قلة الوعي على الرغم من الشهادات العالية والكفاءات التي يتميز بها جزء غير يسير من المغاربة. ثانيها: ضعف الوعي، كيفما كان الموقع الذي يحتله الفرد والى أي فريق ينتمي أو المسؤولية التي يتقلدها، وعي بالحقوق وبكيفية اختيار الممثلين في الاستحقاقات...، كل ذلك أدى إلى انقسام مريع سقطت فيه كل المبادئ والقيم. ثالثا: العائلية، أي لا تزال الحياة القبلية العائلية تحكم نظرة الفاعلين للاقتصاد( مقاولات عائلية...) كما للسياسة( احتكار المناصب والمهام للأبناء والزوجات..)، وهذا ما يجعل المصلحة الذاتية تتقدم على المصلحة العامة، وكثيرا ما يردد "المسؤولين" "من يعطي يأمر". وهنا يحق لنا أن نتساءل هل هناك تمويلاً لتلك الخطابات؟ وهل هي نابعة من إرادة ذاتية أم تقع ضمن الولاءات الخارجية التي تدفع بهذا الفريق أو ذاك إلى اتخاذ مواقف محددة؟.
إن الخطاب السياسي في المغرب لا يحتاج إلى تقييم بل إلى صمت أعمق منه، وإذا ابتليتم ب"المعاصي" فاستتروا، لان الصمت أفضل من الكلام. فمن يريد البناء السياسي لا يلجأ إطلاقًا إلى لغة السباب والشتائم التي يلجأ إليها البعض، فتسيء بذلك إلى المواطن ووسيلة الإعلام والى صاحبها.