انتظارات الأمَّة من أحزاب تنتظر الإشارات ولا تقدم المبادرات تعددت القراءات وزوايا المعالجة المرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية بالمغرب، منذ أول محطة انتخابية عرفتها المملكة سنة 1963، إلى حدود هذه اللحظة الفارقة والحاسمة والتي تعرف الإعداد لانتخابات بطعم مختلف وطبيعة خاصة، أولاً فلأول مرة في تاريخ العمليات الانتخابية التي تعرفها البلاد سوف تتم عملية انتخاب ممثلي المجالس الجماعية والجهوية ومجلس النواب في يوم واحد، وثانيا، و في سابقة تنظيمية، سيدلي المغاربة بأصواتهم يوم الأربعاء بدل يوم الجمعة المعتاد تاريخيًا كيوم للتصويت الانتخابي أو الاستفتاء الدستوري. في هذا الملف الصحفي سوف نتناول هذه الاستحقاقات الانتخابية (الجماعية والجهوية والتشريعية) من زاوية علمية وأكاديمية جد خاصة، ترتبط في عمقها وجوهرها بالممارسة الانتخابية إجرائيا وميدانيا، وهي زاوية سوسيولوجيا الانتخابات. من المعلوم أنَّ "رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب، بل في وعي الناس"، هذا الوعي الذي يشكل سلوكًا انتخابيًا معينًا، يمكن معه أن يتم تحديد التيارات السياسية،ودون شك يؤثر على الاختيارات الاستراتيجية،ويدفع بالقائمين على السلطة إلى تبني أنماط انتخابية معينة، كما أنه يساعد الباحثين على التكهن ولو نسبيا بالخطوة السياسية المقبلة، ولهذا السبب ذهب Siegfried في تعبيره البسيط والسطحي حسب منتقديه، حد وصف السلوك الانتخابي بفرنسا بالمقولة التالية « le granite vote à droite, le calcaire vote à gauche »غير أن هذا التقسيم الجيولوجي في قراءته السياسية تتداخل فيه عوامل أخرى يمكن أن تربك هذا التصنيف البسيط. إن المقاربة السوسيولوجية الانتخابية عادة ما تنطلق من معطيين أساسيين، الأول يرتكز على المتغيرات في تحليل الاختيارات الانتخابية، وبالتالي يُنظر من خلاله إلى الناخب على أساس سلوكه الانتخابي والتصويتي، باعتبار هذا السلوك مرتبط بوضعية موضوعية، أما عن المرتكز الثاني، فينطلق من فكرة مفادها أن التصويت هو رد فعل الناخب (المواطن) على الوضعية القائمة، وهو بذلك طريقة للتعبير عن رضا أو عدم رضا الناخبين/ المواطنين على الأداء الحكومي والسياسي بشكل عام، وبالتالي يكون صوت الناخب بمثابة تعبير عن استنتاجاته وتقييماته للعمل الحكومي وللظروف السياسية. لكن هل يمكن تنزيل أحد هذين المتركزين أو هما معا على الوضعية المغربية التي دائما ما نتحجج بخصوصيتها؟ وهل يمكن لمقاربات السوسيولوجيا الانتخابية أن تشرح، توضح، وتفسر الوضع الانتخابي بالمغرب؟ علما بأن هذا الوضع هو مرتبط جدليًا بالوضع السياسي العام، لكونهما يمثلان وجهان لعملة واحدة.
إلى ذلك تؤكد الباحثة في الشأن الانتخابي، الدكتورة بشرى المرابطين، « أن العوامل المتحكمة في السلوك الانتخابي، لا تشمل البيئة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية فقط، بل تتعداها إلى البنية القانونية التي تشكل أيضا إحدى المؤثرات على السلوك الانتخابي، بل إن المحدد القانوني يؤثر في هذا السلوك، فيكون إما عامل جذب أو دفع، ذلك أن النظام الانتخابي كمجموعة من القواعد التي تحكم مختلف أوجه العملية الانتخابية بدءً بتقسيم الدوائر الانتخابية، واعتماد نمط اقتراع معين، وتحديد من له حق التصويت والترشح، وفرز الأصوات واحتسابها وتوزيع المقاعد(...)، يؤدي إلى بروز بنية سياسية معينة ». كما يمكن الجزم وليس التكهن فقط أن من يختار ويقرر اعتماد نظام انتخابي ما، هو من يتحكم في دواليب السلطة ويضع قواعد ممارستها، فعلى سبيل المثال لا الحصر،تُضيف الدكتورة المرابطين « معلوم أن اعتماد نظام الاقتراع الفردي الإسمي الذي اعتمده المغرب سابقا منذ أول انتخابات إلى حدود 2007 وظل يعتمده في الانتخابات الجماعية بالدوائر القروية إلى اليوم، يكرس مفهوم الولاء للشخص ويقوي الأحزاب الصغيرة بينما يضعف الأحزاب الكبرى، وأن اعتماد الاقتراع باللائحة يقوي هذه الأخيرة، وأن اعتمادهما من طرف الدولة كان الهدف منه وضع التوزان ومحاولة الحفاظ على قوة بعض الأحزاب التي لها امتداد في المجال القروي علما أن نسبة التصويت في هذا المجال تفوق بكثير نظيرتها في المجال الحضري، كما أن اعتماد العتبة يؤدي غالبا إلى تهميش الأحزاب الصغيرة، ومنعها من دخول المجالس المنتخبة خاصة البرلمان. من جانب آخر يظل التقطيع الانتخابي وهو أحد مرتكزات النظام الانتخابي، كعصى سحرية، تمكن المتحكم بها من رسم الخريطة السياسية والتأثير في مخرجات العملية الانتخابية، ما يجعل استئثار الإدارة به ومنعه عن أي مؤسسة أخرى من قبيل البرلمان، هو بمثابة تحكم وضبط للخريطة الانتخابية ». يتأكد إذن أنَّ هذه المحددات المرتبطة بالنظام الانتخابي لها تأثير بنيوي على السوسيولوجيا الانتخابية بالمغرب وعلى السلوك الانتخابي للمواطن/ الفرد المغربي،ففي ظل نسق سوسيو سياسي عام فريد من نوعه، تمَّ الاعتماد على آليات انتخابية، وترسانة قانونية تدعم هذا التفرد، لكنها في المقابل تعمق من أزمة المشاركة في الحياة السياسية، وترفع من نسبة العزوف السياسي، ليس فقط العزوف عن المؤسسات الممارِسة للسياسة، وعلى رأسها الأحزاب كمؤسسات للوساطة المجتمعية بين مؤسسات الدولة والمواطن، بل وصل الأمر إلى الامتناع عن ممارسة حق وواجب التصويت. وفي هذا السياق، تؤكد الدكتوة بشرى المرابطين « فليس بخفي على الجميع أن الأزمة السياسية وسخط المواطن على الاختيارات العمومية، والتي تعود لزمن ليس بالقريب، هي نتيجة لاختيارات وممارسات الفاعلين السياسيين ولتراكمات ماضوية، منها ما يرتبط بالتنشئة السياسية (المعطوبة)، والتأطير السياسي (المتحكم فيه)، والعمل الحزبي (المشخصن)، والترسانة القانونية (الممنهجة) والممارسة البرلمانية (الهجينة) والتدبير الحكومي (المرتبك)، والفعل الرقابي البرلماني (المحتشم)، وغيرها كثير من المظاهر والتجليات التي شكلت فسيفساء الأزمة السياسية المغربية، التي معها فقد الفرد/المواطن المغربي بوصلته السياسية ». وبالعودة للقراءة التصنيفية للمصوتين المفترضين اليوم، نجد أنفسنا أمام فئتين (نتحدث هنا عن أولئك الذين أعطاهم القانون الانتخابي حق التصويت): الأولى وهي فئة المصوتين التي لها اتصال مباشر بالسياسة، بالانتخابات وبالتالي بالتصويت، معظمها ينتمي إلى شريحة معينة، تنقسم بدورها إلى من يصوت لحزب بذاته، وشريحة أخرى تتأرجح بين عدة أحزاب مختلفة، وفئة ثانية هي بعيدة عن المجال السياسي والانتخابي أو يمكن القول أنها عشيرة المشاهدين الممتنعين عن التصويت، لا تقوم بهذا الفعل، لكن لها تأثير كبير على العمل السياسي الرسمي، ما دام أن فعل الامتناع في السياسة هو فعل موجب وليس بفعل سالب. و مع استمرار حالة النفور من المشهد السياسي، وكل ما يمتُّ له بصلة، نصبح أمام تكريس عملي لظاهرة فقدان الثقة في العمل السياسي (وهي بالمناسبة ظاهرة عالمية لا تقتصر على المغرب فقط)، ستستمر الأزمة السياسية، وما يترتب عنها من امتناع عن التصويت كفعل أضحى عادة عند الشريحة العظمى، وإن كان يؤثر على تراكم المعرفة الضرورية للتأسيس لسوسيولوجيا انتخابية بالمغرب، فإنه ممكن أن يعتبر محفزا لهذه الأخيرة وللباحثين في ثناياها، للنبش في الامتناع عن التصويت كظاهرة اجتماعية لها ما لها من زخم اجتماعي وسياسي وثقافي أيضا. ونحن نعيش على إيقاع زمن استثنائي على جميع المستويات، بل و مثقل بتداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) التي دخلت عامها الثاني، بما حملته من أعطاب اجتماعية واختلالات اقتصادية وخسائر في الأرواح على المستوى العالمي، ومع دخول المغرب مرحلة التخفيف من الحجر الصحي؛ رغم المستجدات غير المطمئنة التي حملتها النسخة المتحورة من فيروس كورونا (المتحور دلتا)، بدأت الحياة تدب تدريجيا في أوصال مختلف القطاعات والمؤسسات الحيوية، وهبت معها رياح انتخابات 2021، بما تحمله من جدل ونقاش، وما تختزنه من رهانات وتحديات. وبعد حسم الجدل السابق إزاء توقيت الاستحقاقات الانتخابية الجماعية والجهوية والتشريعية التي ستعرفها البلاد في الثامن من شتنبر المقبل، اعتبرت وزارة الداخلية في بيان سابق أن عام 2021 سيكون سنة انتخابية بامتياز؛ "سيتم خلالها تجديد كافة المؤسسات المنتخبة الوطنية والمحلية والمهنية، من مجالس جماعية ومجالس إقليمية ومجالس جهوية وغرف مهنية، وانتخابات ممثلي المأجورين، ثم مجلسي البرلمان". وقد عرفت مرحلة تبادل الرؤى حول القضايا الأساسية المرتبطة بالتحضير للاستحقاقات الانتخابية المقبلة، والتشاور حول القوانين المنظمة للانتخابات، وتبارت الأحزاب السياسة في تقديم مذكرات تعرض فيها تحليلها للواقع السياسي ورهاناته، وتصوراتها للإصلاح ومقترحاتها بشأن تدبير الاستحقاق، مما أثار العديد من التساؤلات حول أبرز سمات المرحلة السياسية، ومستجداتها، وعن أهم النقاط المثارة في المذكرات الحزبية لسنة انتخابية هي استثنائية بالقطع.
استحقاقات انتخابية على مرجعية الرهانات والتحديات في ذات السياق، يرى مدير المعهد المغربي لتحليل السياسات محمد مصباح أن « الانتخابات المقبلة، انتخابات من دون رهانات سياسية كبرى، لا تأتي في سياق إصلاحات، أو تحول ديمقراطي، بقدر ما هي انتخابات تقنية لتدبير الأزمة ». من جانب آخر، عَلَّق أستاذ القانون الدستوري رشيد لزرق بالقول « إنَّ المشهد السياسي الحزبي تسوده الضبابية، وأنَّ الأحزاب لم تستطع مسايرة الإصلاح الدستوري »، وأضاف لزرق في حديث إعلامي سابق « الأحزاب المغربية ونُخبها ليست في مستوى الدستور »، مشيرًا إلى أن الأحزاب -خلال مواجهة جائحة كورونا- كانت تنتظر الإشارات، ولم تقدم مبادرات ». وتبقى أهم الرهانات الكبرى في كل استحقاق انتخابي وكذا التحديات هي نفسها: تعزيز الثقة في الأحزاب والعمل السياسي ورفع نسب المشاركة، وأيضا السير الجيد للعملية الانتخابية. إنَّ الظرفية العامة الناجمة عن جائحة كورونا والآثار المترتبة عنها على الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية لعموم المواطنين، قد تُعقّد فرص الاندماج من جديد في كسب رهانات الانتخابات المقبلة، ثم إن بعض الأحزاب المشاركة في قيادة العمل الحكومي خلال السنوات الأخيرة، إما انساقت مع تطبيق سياسات تمّ تقديرها بأنها غير اجتماعية، أو ابتعدت تدريجيا عن قواعدها الانتخابية واستسلمت لإغراءات السلطة وجاذبيتها، فوجدت نفسها ضعيفة، وغير قادرة على إعادة بناء ذاتها من جديد. لا تبدو الصورة مشجعة بما يكفي على القول بإمكانية حصول جديد في انتخابات الثامن من شتنبر القادم، سيما من زاوية تجديد جوهري للنخب البرلمانية والحكومية، وتجدد المسؤوليات على صعيد الهيئات المنتخبة الترابية، خاصة في ظل خطابات الأحزاب السياسية وممارساتها المتشابهة، في كثير من الأحيان حدَّ التطابق، بيد أن ما يمكن أن يحصل، مع وعينا الكامل بصعوبة قراءة مستقبل الخريطة السياسية في قراءتها الانتخابية،بجزم ووثوقية، هو تحقق مشهد الاستمرارية مع تغييرات لا تمس جوهر العملية السياسية، وإنما تطال تفريعاتها وأطرافها، وهو ما يعني استمرار النخب الحالية مع ترميمات محدودة في المواقع والوجوه والأوزان داخل البرلمان والجهاز الحكومي ومعها المجالس الجماعية والجهوية.