من يتأمل منّا لوحة الفنان الألماني البرشت دُيرَر ويستلهم روح نهايات القرن الخامس عشر وسماوات السادس عشر منهما ستتبادر إلى ذهنه، بعد امعان ساعة التقاط اللحظة في لوحة تعكس "يدين منضمتين في تضرع وابتهال" أن التصور صادق وتنتقل عدواه إلى المتأمل في التوّ دون أدنى تردد أو تحفظ ثم يتبادر إلى ذهنه الآتي: ماذا ألمّ بهذا الشخص من مكروه حتى يجبر الرسّام أن يصوره ويلتقط تلك اللحظة ليوثقها؟ نحن نعلم أن لكل رسّام جهاز سيزموغراف، كذاك الذي يرصد موران الأرض واهتزازات الزلازل، يخبره أن هناك ثمّة اهتزاز، اضطراب واضطرام نفسيّ أو روحيّ حاد لابد عليه أن يستشفه. لذلك فإن اللوحة بيدين مبتهلتين تستحوذ لبّ متأمليها وتذكرهم بلحظات أغلب الظن كانوا هم فيها بحالة ابتهال أو ربما ترجع بهم الذِّكر إلى لحظات عصيبة في حيواتهم أو حيوات من عاشروهم وعرفوا يوما ما مرًّا ذاقوه وألماً دافق غيّر مسيرة حياتهم. تعتبر لوحة اليدين المبتهلتين من إحدى الأعمال الفنيّة الأكثر استنساخا في تاريخ الفن، ذلك على الرغم من مرور خمسة قرون على نشأتها، فالعمل يظل ملهما لكل متأمل ومبتهل. بزغ نجم الرسام البرشت دُيرَر في يوم 21 ماي من عام 1471 بقرية في نواحي مدينة نيورنبيرغ الألمانية وتوفي في السادس من شهر أبريل من عام 1528 بنفس القرية، حاضرة هذه المدينة الساحرة الماثلة كالحسناء بإقليم باڤاريا والمعروفة في تاريخ ما بعد النازية بمحكمتها الشهيرة (محكمة النازيّة). عاش بكنف أسرة متواضعة وكبيرة تتكون من ثمانية عشر فردا، من الإخوة والأخوات. كان يعيلهم والدهم الذي امتهن حرفة الحدادة وتعلم البرشت على يديّه هذه الحرفة بيد أن قلبه كان يضرب باتجاه الفن والألوان وارتياد آفاقها الواسعة وكان يشاركه أخيه الأكبر نفس الهدف والحلم. لم يعجب الأخوان العمل الشاق في مجال الحدادة فضلا عن رتابته وانحصاره الحرفيّ والمضني. فجلسا ذات ليلة يتحدثان عن قصة الخلاص الأخير من هذه المحنة وكيف يمكنهما دراسة الفن في أكاديمية نورنبيرغ الشهيرة. اتفقا أن يقوما برهان وأن يرميا العملة والفائز من بينهما ينبغي عليه أن يجد عملا لمدّة الدراسة والتي كانت محددة بأربع سنوات وأن يتحمل كل نفقات الفائز. ذهبا اليوم التالي كحال كل الأسر المحافظة إلى صلاة الأحد بالكنيسة وبعد وجبة الغداء شرعا في تطبيق الرهان. فوقعت القرعة على الأخ الأصغر وفاز بالرهان. تضمن هذا الرهان حلًّا عادلا وهو الإعالة المتبادلة – الواحد تلوا الآخر – لتكملة الدراسة من قبل الطرفين: أن يعمل الأول ويعين الثاني مدّة أربع سنوات وبعد قضاء المدّة يحدث العكس. لم يكن بالمدينة مجالات واسعة للعمل فأضطر الأخ الكبر (الخاسر) أن يعمل بإحدى مناجم الفحم الحجريّ وتعهد الأصغر بأن ينفق عليه بعد اكمال الدراسة عبر مبيعاته من اللوحات الفنيّة وإن لم يستطع فبالعمل في ذات المناجم. جاءت ساعة التطبيق فذهب الأخ الأكبر يعمل دؤوبا في المناجم والأصغر يبرع ويبدع في الفن والرسم والتمثيل. تفجرت في بدخيلة هذا الشاب اليافع طاقات جبّارة حتى انتشر خبر تفوّقه على أقرانه وحتى على أساتذته بالأكاديميّة فذاع حينئذ صيته كمايسترو في الرسم وبدأت العروض تنهال عليه من كل صوب وحدب. تخرج الشاب بجدارة من الأكاديميّة وأقامت الأسرة حفل بهذه المناسبة الميمونة. وليلتئذ ألقى البرشت کلمة صادقة مؤثرة يشكر فيها أخيه قائلا: "أخي المبارك آلبرت، جاء دورك الآن للذهاب إلى أكاديميّة نورنبيرغ وأن تحقق حلمك وسوف أقوم برعايتك إلى أن تكمل دراستك." بينما كان البرشت في حديثه يهيم تبدّت علامات الحزن والأسى على أخيه الأكبر آلبرت، فبدى شاحبا متأثرا بالكلام، فقد تكسّرت أصابع يديّه أكثر من مرّة وأصيبت من جراء العمل الشاق في طرق الأحجار وكسر الصخور بالالتهاب الحاد في المفاصل فهو لا يستطيع حتى أن يقرع كأس أخيه ليشرب على نخبه ناهيك عن أن يرسم؛ إذ لا يمكنه التحكم بالفرشاة أو القلم حتى يمتهن الرسم، فأخبره بعميق الأسف والحزن أن زمن الأوان قد راح والأمل قد تلاشي طي المناجم والأحجار. فتأثر الرّسَّم بما آثره إليه أخوه وما كان منه إلا أن شرع في رسم يديه بكل تفاصيلها ونتوءاتها وتضاريسها التي خلّفها عمل المناجم وكانت برهانا دامغا لحرفيته وعبقريته الخارقة للعادة. لم يقف طموح هذا الفنّان في حدود الرسم والألوان لكنه اتجه إلى تعلم الرياضيات فصار من علمائها ودرس نظرية الفنّ واتجه إلى النحت والتمثيل بالنحاس والخشب وهو يعكس – بدون أدنى شك – مثالا صريحا لأحد عمالقة عصر النهضة بامتياز. *رئيس تحرير الجريدة العربية الدولية المدائن بوست الصادرة بألمانيا