حديثي مع صديقي الزّجّال فادي اللبنانيّ: تحدثت إلى صديقي الشاعر الجميل فادي قائلا له، هذه الأحداث التي وقعت ببيروت الجمال ألمتني بشدة وأود أن أكتب عن الصالون الثقافي، صالون النهضة وأن أعرج بسببها إلى الكتابة عن بيروت الجريحة بسبب الانفجار العارم الذي دمّرها ودمر قلوب كثير من الذين يكنّون لها أعظم الود والمحبة الصادقة. أجابني: حقيقة لبنان بلد غريب عجيب! كل التقارير وكل الأرقام والإحصائيات تشير إلى أن هذا الوطن ما كان له أن يكون موجودا على سطح الكرة الأرضيّة! لكن رغم كل ذلك فهو يظل صامدًا صنديدًا يجابه كل هذه الأعاصير الداويّة المدمرة. نجد بنيته – إن صحّ القول –معارضة لكل قوانين الطبيعة، ولكل نظريات وقوانين الاقتصاد، السياسة، الاجتماع، بلد غريب عجيب! أتذكر أن فرنسا أتت بعد الحكم العثمانيّ وكان هدفها الأوحد حماية مسيحييّ الشرق من ظلم الخلافة العثمانيّة وجعلت لهم مناطق مختلفة كمحميات، هي ما يسمى بجبل لبنان حاليا، وهي مناطق جبليّة عالية جدًا من أجل أن يأووا إليها ويحتموا بظلها. وكانت توجد بنفس المنطقة قبائل من طائفة الدروز. وقد تبين على الفور أن حجم هذه المناطق غير كافٍ أن يحتوي هذا العدد الكبير من المجموعات والطوائف، فضلًا على عدم صلاحية هذه الأراضي للعيش، إذ أنها تنحصر في مناطق جبلية شديدة الوعورة، لا تصلح كمراتع للكلأ فضلا عن الزراعة وهي حقيقة طاردة للإنسان الذي ينوي أن يستقر بها وحتى للحيوانات. مما دعا الفرنسيين إلى إضافة مناطق أخرى التي تتمثل في سهل عقّار شمال شرقيّ لبنان وهي المنطقة المتواجدة على بعد من مدينة الحضارة بعلبك إضافة إلى بعض مناطق الجنوب التي تسمى بمنطقة جبل عامل وسهل البقاع الغربيّ، الخ. وكان الهدف الأساسيّ هو الانتقال إلى مناطق يسهل بها تحريك الإنتاج الزراعيّ الذي انعدم تماما في المناطق العالية. ويطلق على هذه المنطقة "لبنان الكبير". ورغم ذلك فإن هذا الوطن يعارض كما ذكرت سلفا كل قوانين الطبيعة، لكثيرة الطوائف الإثنية والأعراق المتباينة فضلا عن التعدديّة السياسيّة، الثقافيّة، والانتماءات الخارجيّة في كل الاتجاهات. ولقد عاش هذا البلد حروبا ضروس، نعم، ليس حربا واحدة، كما نعلم. ومن جهة أخرى لن ننسى الانهيارات الاقتصادية التي دمرّت البنية الاقتصادية لهذا البلد ورغم كل ذلك ولا يزال لبنان واقفا، صامدًا أمام العالم. والمحير في الأمر أن تعداد اللبنانيين المتواجدين في المهجر قد يبلغ الخمسة عشر مليوناً، ومنهم من حباه الله المال والجاه والثروات وهم قادرون إن أرادوا أن يعمروا بلدا كلبنان ألف مرّة ومع ذلك يظل الحال كما هو ولبنان تصرعه المشاكل والاضطرابات بكل أشكالها. هنا في هذه البقعة تجتمع كل تناقضات العالم تحيطها جغرافية صغيرة جدا. لذلك اعتاد أهل لبنان على الهجرة وذلك يعزى لأسباب كثيرة، منها صغر البلد، قلّة الإمكانيات، ويبقى البحر هو السلوى والخلاص فمن هناك انطلقت وتنطلق كل يوم حملات الهجرة إلى الخارج تسافر لا تلوي على شيء إلا وتضهر – كما قالها باللهجة اللبنانيّة، أي تولي ظهرها له. لله درّك أيها البلد الجميل. لبنان أبداع وتسامح لنهضة مستمرة: عصر النهضة، يا ليته يعود، هي الحقبة التي بدأ فيها العرب ينهضون من سبات عميق دام القرون الطوال، وتلك الحقبة يحلوا للكثيرين أن يطلقوا عليها اسم "عصور الانحطاط". نعم، انحطاط قبع عليهم مسنودا بالفاقة، الفقر، الجهل، التأخر الرجعيّ وقد امتدت إياديه الشيطانيّة إلى كل الحقول والفصول والعقول، شملت كل ميادين الحياة اليوميّة حتى جاءت حملة نابليون بونابرت بعد الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وبالتحديد في عام 1798 لتحمل بعض من بصيص النور وقليل من شمعات المعرفة لأولئك الذين كانوا في أشدّ الحاجة الماسّة لها. وكان لهذا الحدث السياسيّ أعظم الأثر في بلورة مفهوم النهضة إذ شكل – دون أدنى شك – منطلقًا جريئًا يرافق حركتها حتى تنشأ شرارتها لتنير شتى جوانب الحياة الاجتماعيّة، السياسيّة، الاقتصاديّة والفكريّة. لقد كانت السبل ممهدة لهذه النهضة اللبنانيّة وأن تكون واقعا ملموسا منذ إطلالة القرن التاسع عشر وبالأخص في منتصفه لما يتمتع به هذا البلد البكر من مقومات وأساسيات معرفيّة، اقتصادية ومعرفيّة انعدمت في الدول العربيّة الأخرى، من بنى تحتية ثقافية على شاكلة المؤسسات والمعاهد والمطابع والمكتبات ودور النشر من جهة، ولانفتاحه على العالم الغربيّ من جهة أخرى، وأيضاً لما تمتّع به سماواته وأجواءه، لا سيما في القرن العشرين من مسالك للحرية جعلته رائداً ومغناطيساً ثقافياً بين الدول العربيّة ولما وفّره للمفكرين العرب والأجانب كواحة ومرتع خصب لنشأة الأدب والثقافة. ورغم الحروب والأزمات السياسيّة والصراعات الطائفيّة، فهي لم تلغِ دوره في ظل غياب البديل العربي على شاكلة مسيح الخلاص، وبسبب هذه الخصائص المميزّة لهذا البلد البديع ننظر لمستقبله بنظرة تفاؤلية وأنّ لبنان لا يزال يعيش عصر النهضة في القرن الحادي العشرين". وحتى بعد الحادثة الأخير فسيظل هذا البلد موطنا للتفرد والصمود والإباء، وسيحمل في حناياه كما عدناه كل جميل ليعمر ما سلبته الأقدار المجحفة من ألقه من جهة وسوء الحكمة من جهة أخرى وسيعود لبنان فيروز كفيروز صوتا وصورة بين العالم مناديا بالسلام والأمان والمحبة، نعم كما عهدناه دائما وأبدًا. الاستقلال الإداري ودوره في الحراك النهضويّ بلبنان: تمكن لبنان من خلال الاستقلال الإداريّ عن الإدارة العثمانية المركزيّة في الإستانة، ذلك منذ حقبة حكم الأمير فخر الدين (1590 – 1635) أن يفتح الأبواب على مصراعيها أمام النشاط التربوي والعلميّ الذي دأبت في نشره وقبل ذلك إرساءه الجمعيات الإرساليّة الكاثوليكيّة التي هاجرت إليه من أوروبا منذ بداية القرن السابع عشر وبعد حوالي قرنين من الزمان حملت الجمعيات الأخت الإنجيلية (البروتستانتية) عصاها وألقت به في لبنان لتشارك هي ذاتها في توطيد مناخ النهضة والسير بها قدما إلى آفاق جديدة. ذلك كان العامل الرئيس في حراك البعث النهضويّ الذي أدى بدوره إلى إحياء الموروث والتراث العربي اللغوي والأدبي من جهة أولى فضلا عن دخول التيارات الفكريّة والعلميّة والتربويّة الوافدة من الغرب من جهة ثانية. نهضة لبنان الثقافية بنكهة الزيتون والصفصاف: أصدر المؤلف اللبناني كمال ديب كتابا بعنوان "تاريخ لبنان الثقافي: من عصر النهضة إلى القرن الحادي والعشري" عن دار المكتبة الشرقية ببيروت. ويتضمن هذا العمل العلميّ 15 فصلاً بالإضافة إلى ملاحق وفهرس أعلام ولائحة للمراجع الأوليّة والثانويّة باللغات العربية كما الأجنبية. يثير كمال ديب في هذا البحث الأكاديميّ أطروحة يقدم فيها إشكالية الكتاب والتي تتلخص بإيجاز في أنّ لبنان والعرب شهدوا ولادة النهضة ونقيضها معاً وأنّ هذين الوليدين في صراع إزليّ مرير ومستمر. نعم، لقد شهدت القرون الماضية وحتى اليوم، ليس بلبنان وحده، هذا الصراع بين التقدميّة والرجعيّة، بين السلفيّة والعصرنة، بين مريديّ التعسف والتصلب وناشدي التقدم والنهضة، صراع يجابد أطرافه من يريد أن يخرج الوطن العربي من هذا المأزق الداميّ المرير ومن رام البقاء على عهد مضى وأكل الدهر منه وشرب. من يستشعر روح النهضة وأنفاس روّادها سوف يدرك من على الفور أنها بطعم زيتون سهولها البديعة ممزوجَا بطعم صفصاف الشمال الغربيّ. أي إنّ نهضة لبنان الثقافية تمثّل مزيجا سحريّا بين ألوان القزح العربيّة والأوروبية على حد سواء. لقد قادها أرباب الفكر والأدب فيها وهم قادرون على مجابهة كل الصعاب وحتى ولو أن النكسات ظلت تطارد هذا البلد الفتيّ في كل لمحة ونفس، والسؤال الذي يطرحه اللبنانيون: لماذا يا إلاهي لبنان بالذات؟! إن مفكريّ لبنان هم أولئك الذين أطلقوا حركات "الفكرة اللبنانيّة" و "فكرة العروبة العمانيّة الديموقراطيّة" وقدموا من خلالها فنونًا بديعة وأنجبوا الشعر والفكر والأدب والمسرح والموسيقى وأثروا المكتبات بالمراجع الثرّة التي تقف شاهدًا على دأبهم إلى هذا اليوم. فلبنان بؤرة العلم والمعرفة وزخر الأمّة العربيّة، فلن ينتكس ولن ندعه يغرق فكلنا لبنان وكلنا بيروت. ولا ننسى دور الصحافة التي كان لها نصيب الليث في بثّ أقلام الأعلام ونشراتهم وتثقيف العوام. وفي هذا السياق وجدت مقولة للأستاذ فاضل سعيد عقل في سياق ندوة علميّة عن حركة النهضة بلبنان يقول فيها: "إن الصحافة هي حرية قبل أن تكون مهنة، وهي رسالة قبل أن تكون تجارة وهي مثل أعلى قبل أن تستحيل مادة". واعتبر أن "صحافة لبنان هي صحافة لبنانية خالصة وصحافة عربية مخلصة، دافعت وتدافع عن لبنان الكيان والوطن وقضاياه واستقلاله وحريته مثلما تدافع عن العرب في قوميتهم وحركاتهم الاستقلالية ونضالهم ضد المحتل والمستعمر". الختام قصيدة لبيروت من صوت الشادي محمود درويش: تُفَّاحةٌ للبحر، نرجسةٌ الرخام، فراشةٌ حجريّةٌ بيروتُ. شكلُ الروح في المرآة، وَصْفُ المرأة الأولى ' ورائحة الغمام بيروتُ من تَعَبٍ ومن ذَهَبٍ، وأندلس وشام فضَّةٌ، زَبَدٌ ' وصايا الأرض في ريش الحمام وفاةُ سنبلة. تشرُّدُ نجمةٍ بيني وبين حبيبتي بيروتُ لَم أسمع دمي من قبلُ ينطقُ باسم عاشقةٍ تنام على دمي .... وتنامُ ... مِنْ مَطَرٍ على البحر اكتشفنا الاسم، من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب، كأنَّنا أسلافُنا نأتي إلى بيروتَ كي نأتي إلى بيروتَ ... من مَطَرٍ بَنَيْنا كوخنا، والرِيحُ لا تجري فلا نجري ' كأنَّ الريح مسمارٌ على الصلصال' تحفر قبونا فننام مثل النمل في القبو الصغير كأننا كنا نُغَنِّي خلسةً: بيروتُ خيمتُنا بيروتُ نَجْمتُنا سبايا نحن في الزمان الرخو أَسْلَمَنا الغزاةُ إلى أهالينا فما كدنا نعضُّ الأرضَ حتى انقضَّ حامينا على الأعراس والذكرى فوزَّعنا أغانينا على الحُرّاس مِنْ ملكٍ على عرشٍ إلى ملك على نعشٍ سبايا نحن في هذا الزمان الرخو لَمْ نعثر شَبَهٍ نهائيِّ سوى دمنا ولم نعثر على ما يجعلُ السلطانَ شعبياً ولم نعثر على ما يجعل السَّجانَ وديّا ولم نعثر على شيء يَدُلُّ على هويتنا سوى دمنا الذي يتسلَّق الجدران خلسةً: نُنشدُ بيروتُ خيمتُنا بيروتُ نَجْمتُنا ونافذةٌ تطلٌّ على رصاص البحرِ يسرقنا جميعاً شارعٌ ومُوَشَّحٌ بيروتُ شكل الظلِّ أجملُ من قصيدتها وأسهلُ من كلام الناس تُغرينا بألف بدايةٍ مفتوحة وبأبجدياتٍ جديدة: بيروتُ خيمتُنا الوحيدة بيروتُ نجمتُنا الوحيدة هل تمدَّدنا على صفصافها لنقيس أجساداً محاها البحر عن أجسادنا جئنا إلى بيروت من أسمائنا الأولى نفتِّشُ عن نهايات الجنوب وعن وعاء القلبِ ... سال القلبُ سال ... وهل تمدَّدنا على الأَطلال كي نَزِنَ الشمال بقامة الأغلال؟ مال الظلِّ مال عليَّ , كسَّرني وبعثرني وطال الظلُّ طال ... ليَسْرُوَ الشجرُ الذي يسرو ليحملنا من الأعناق عنقوداً من القتلى بلا سببِ ... وجئنا من بلادٍ لا بلاد لها وجئنا من يد الفصحى ومن تَعبِ ... خرابٌ هذه الأرض التي تمتدُّ من قصر الأمير إلى زنازننا ومن أحلامنا الأولى إلى ... حطبِ فأعطينا جداراً واحداً لنصيح يا بيروتُ ! أعطينا جداراً كي نرى أْفقاً ونافذةً من اللهبِ وأعطينا جداراً كي نُعلِّق فوقه سدُومَ التي انقسمت إلى عشرين مملكةً لبيع النفط ... والعربي وأعطينا جداراً واحداً لتصيح في شبه الجزيرةْ بيروت خيمتُنا الأخيرةْ بيروت نجمتُنا الأخيرةْ أُفُقُ رصاصيُّ تناثر في الأُفق طُرُقٌ من الصدف المجوَّف ... لا طُرُقْ ومن المحيط إلى الجحيم من الجحيم إلى الخليج ومن اليمين إلى اليمين إلى الوسطْ شاهدتُ مشنقةً بحبلٍ واحدٍ من أجل مليونيْ عُنُقْ ! بيروتُ ! من أين الطريقُ إلى نوافذ قُرْطُبهْ أنا لا أُهاجرُ مَرتَّين ولا أُحبُّك مرتين لكنِّي أُحوِّمُ حول أحلامي وأدعو الأرض جمجمةً لروحي المتعبهْ وأُريد أن أمشي لأمشي ثم أسقط في الطريق إلى نوافذ قرطبه بيروتُ شاهدةٌ على قلبي وأرحلُ عن شوارعها وعنِّي عالقاً بقصيدةٍ لا تنتهي وأقولُ: ناري لا تموتُ ... على البنايات الحمامُ على بقاياها السلام ... أطوى المدينةَ مثلما أطوي الكتابْ وأحملُ الأرضَ الصغيرةَ مثل كيسٍ من سحابْ أصحو وأبحثُ في ملابس جُثّتي عنّي فنضحك : نحن ما زلنا على قيد الحياةِ وسائرِ الحُكَّام شكراً للجريدة لم تقل إني سقطتُ هناك سهواً أفتَحُ الطُرُقَ الصغيرة للهواء وخطوتي والأصدقاءِ العابرين وتاجر الخبز الخبيث , وصورةِ البحر الجديدة شكراً لبيروت الخراب .... شكراً لبيروت الخراب ... تكسَّرتْ روحي , سأرمي جُثّتي لتصيبني الغزواتُ ثانيةً ويُسْلِمَني الغزاةُ إلى القصيدة .... أحمل اللغة المطيعة كالسحابةِ فوق أرصفة القراءة والكتابةِ: ((إن هذا البحر يترك عندنا آذانه وعيونه)) ويعود نحو البحر بحرياّ وأحمل أرض كنعانَ التي اختلف الغزاةُ على مقابرها .... وما اختلف الرواةُ على الذي اختلف الغزاةُ عليهِ من حجرٍ ستنشأ دولةُ الغيتو ومن حجرٍ سننشئ دولةَ العُشَّاقِ أرتجلُ الوداع وتغرقُ المدنُ الصغيرةُ في عباراتٍ مشابهة وينمو الجرحُ فوق الرمح أو يتناوبان عليَّ حتى ينتهي هذا النشيد .... وأهبط الَدَجَ الذي لا ينتهي بالقبو والأعراس أصعدُ مرةً أُخرى على الدرج الذي لا ينتهي بقصيدةٍ .... أهذي قليلاً كي يكون الصحوُ والجلاّدُ... أصرخُ: أيها الميلادُ عَذَّبْني لأصرخ أيها الميلادُ... منْ أجل التداعي أمتطي درب الشآم لعلَّ لي رؤيا وأخجلُ من صدى الأجراس وهو يجيئني صدَأَ وأَصرخُ في أثينا : كيف تنهارين فينا ؟ ثُمَّ أهمسُ في خيام البدو: وجهي ليس حنطيَّا تماماً والعروقُ مليئةٌ بالقمح ... *رئيس تحرير الجريدة العربية الدولية المدائن بوست الصادرة بألمانيا