يجسد لبنان الذي يحلم به اللبنانيون، متسام على أمراء الطوائف ومسكون بحب هذا الوطن الذي يقارع الموت بحب الحياة،. فلسطيني بالاختيار يسعى إلى دفع الظلم عنهم ويأسى لحالهم عندما يتصارعون على الكراسي، عروبي يدرك جيدا أسباب هذا الانهيار العربي، لا يبني مواقفه على الاصطفافات التي تفرضها ظرفية أو انحياز لفريق، هو ينحاز للمهمشين الذين يتعلم منهم أسرار تجديد اللغة في رواياته، لا يجامل سلطة مهما كانت سطوتها، ولا ينبهر بالغرب لأنه خبره جيدا.. هو أحد الأصوات القليلة التي يمكن الاستماع إليها إذا ما التبست عليك الأحداث، لأنه يصدر في التعاطي معها عن رؤية تاريخية وإنسانية حانية. ذاك هو إلياس خوري، الكاتب والروائي اللبناني، الذي زرناه في بيروت، فكان الحوار التالي: - تبدو بيروت هادئة ومقبلة على الحياة بعناد ومرحبة بمن يخطب ودها.. هل هذا الانطباع الذي تكون لدي خلال أول لقاء لي بهذه المدينة خادع أم حقيقي؟ < ينبغي تحديد معنى الخدعة. إذا كانت الخدعة بمعنى الحيلة، فانطباعك خادع. لأن هذا أحد أشكال التحايل على الحياة. والتحايل هو وسيلة المدينة من أجل رفض الخوف والاستمرار في الحياة. وعمليا مدينة بيروت غريبة، بمعنى أنها مدينة حديثة جدا على عكس ما يظن. طبعا هناك بيروت الفنيقية وبيروت الرومانية، لكن منذ حريق بيروت في أيام الرومان خمسمائة سنة قبل الميلاد، اندثرت هذه المدينة وأصبحت قرية صغيرة. وبيروت الحديثة اليوم نشأت مع حملة إبراهيم باشا، أي الحملة المصرية على سوريا ولبنان وفلسطين سنة 1830 ومنذ ذلك التاريخ نستطيع أن نبدأ بتأريخ قصص حول تحول قرية صغيرة على شاطئ البحر إلى مدينة كبرى. إذن بيروت مدينة جديدة بالمعنى الحقيقي. وبالمعنى الأسطوري هي إحدى المدن الكنعانية على الساحل الشامي الممتد من اللاذقية إلى غزة. لكن في الواقع هي مدينة جديدة جدا نشأت في ظروف خاصة. بدأت تتوسع مع الحملة المصرية وما رافقها من اضطرابات في بلاد الشام، وتوسعت كثيرا بعد الحرب الأهلية الأولى سنة1862 لأنها كانت ملجأ لسكان جبل لبنان الهاربين إليها، وتطورت كثيرا بعد الحرب العالمية الأولى والمجاعة التي ذهب ضحيتها حوالي ثلث سكان لبنان في تلك الحرب. ثم تطورت بعد نكبة فلسطين 1948لأنها تحولت إلى الميناء الأساسي بعد انهيار ميناءي يافا وحيفا، وتطورت في الخمسينات مع الانقلابات العسكرية وحملات التأميمات، حيث هربت إليها الأموال العربية وتطورت بعد الحرب الأهلية.. - إذن المدينة توسعت وتطورت في ظل المآسي < كما ترى،هي مدينة نكبات. طبعا هذه قراءة خاصة للمدينة، لكنها تاريخية وحقيقية، وبالتالي فمدينة نشأت في كوارث المنطقة وكوارث لبنان وفي كوارثها هي، من الطبيعي أن تكون مدينة تحسن الحيلة، وبالتالي تخدع. ولكن حيلة بيروت الكبرى والإغراء الكبير، في رأيي، أن بيروت لم تكن ولا مرة عاصمة لبلد واحد، ففي القرن التاسع عشر، نشأت متصرفية جبل لبنان، وهي نواة الدولة اللبنانية، وكانت بيروت عاصمة لولاية عثمانية، لكن بيروت كانت في نفس الوقت عاصمة لولاية بيروت، وعاصمة لمتصرفية جبل لبنان. بعد الاستقلال كانت بيروت عاصمة للبنان الكبير وفي نفس الوقت عاصمة مالية وثقافية وميناء لبلاد الشام. فهي لها طبيعة دوما مزدوجة، تتمرد على التصنيف الواحد والواضح، كأنها عدة مدن في مدينة واحدة أو كأنها مدينة لها عدة وجوه، بالطبع الفلسطينيون لعبوا دورا هائلا، فالأعداد الهائلة من الفلسطينيين، التي طردت من بلادها، ساهمت في إحداث نهضة اقتصادية، إذ إن أكبر بنك في تاريخ لبنان، بنك إنترا، كان صاحبه مقدسيا فلسطينيا، وقد تجمع معظم النخب الثقافية الفلسطينية في بيروت بعد النكبة، غسان كنفاني كان في بيروت، وصحيح أن جبرا إبراهيم جبرا كان في العراق، لكنه كان ينشر ويعمل فكريا وثقافيا في بيروت، ثم مع بدايات المقاومة نزح جميع المثقفين الفلسطينيين إلى بيروت، فمحمود درويش بيروتي بمقدار ما هو فلسطيني وعربي. أهمية حيلة بيروت أنها نجحت في أن تتحول إلى مرآة للمشرق العربي، والمرآة شيء جميل، ولكنها شيء مأساوي، لأنها تضيع نفسها، فهي لا ترى نفسها ومحكومة بمن ينظرون فيها، وهذا الواقع جعل حيلة الحياة في بيروت أقوى من الموت. مدينة تهدمت كليا في الغزو الإسرائيلي سنة 1982، وأعيد تهديمها في الحرب الأهلية، وفي القصف الذي مارسه الإخوة السوريون بكثافة على المدينة، ثم في الحرب الإسرائيلية في يوليوز على لبنان. حيلة بيروت أن الحياة تتجدد فيها باستمرار ضدا على الموت، لكن السؤال الذي نطرحه بعد هذا العمر، الذي قضيناه في المدينة ومع المدينة وفي محاولة فهمها والتفاعل معها، هو أن جوهر هذه الحيلة هو جوهر مأساوي، فرغم مظاهر الفرح والحبور ومظاهر الحياة هناك مأساة عميقة. وأعتقد أنها ليست مأساة بيروتية، بل هي مأساة المشرق العربي، وربما العالم العربي، فاليوم في بيروت تستطيع أن تشاهد هذا الانحطاط العربي الشامل الذي يضرب في كل مكان والذي يحطم القيم والأخلاق والمعاني. فالإقامة في بيروت هي محاولة يومية من أجل إعادة استنباط المعنى، ومقاومة التفكك واللامعنى، بمحاولة بناء المعنى، بهذا المعنى أعتقد أن الأدب مهم. - أنت تتحدث كثيرا عن حيوية بيروت، من أين تستمد حيويتها رغم جوهرها المأساوي؟ < أنا أعتقد أن بيروت تستمد حيويتها، ربما، من كونها آخر المدن العربية المتنوعة ثقافيا ودينيا وإثنيا. للأسف المدن الأخرى، كالإسكندرية التي كانت أهم بكثير من بيروت، فقدت تنوعها بشكل كامل. هناك جانب التنوع، وهناك جانب آخر يتمثل في مأساوية الواقع، وأنت مضطر كي تعيش في قلب المأساة، أن تتغلب عليها أو تموت. أنا أعتقد أن خيار المدينة هو أن تستسلم لمأساتها وتموت أو تقاوم المأساة بالحيوية. وطبعا المدن مثل البشر تمتلك غريزة البقاء. - هل جوهر المدينة المأساوي، هو الذي يجعل مصير شخصيات رواياتك مأساويا. شخصيات تبحث عنها في الهامش، ولماذا هذا الانحياز للهامش؟ < كل إنسان سينتهي إلى مصير مأساوي، إذا اعتبرنا أن الموت مأساة، وهي مصير كل حي, والحياة كلها مأساة. هذا عن الجانب الأول. أما الهامش فمسألة أخرى، أنا أعتقد أن الكاتب هامشي بطبيعته. لا يمكن أن تمتهن الكتابة بالمعنى العميق، ليس كمهنة، بل كنمط حياة، إلا إذا كنت هامشيا بشكل من الأشكال، أي أنك لا تستطيع أن تكون في متن السلطة، وإلا تفقد ككاتب حيوية الكتابة. ولأنك في الهامش تكتب عنه، لأن الهامش مرآة المتن، أي أنك تستطيع أن تفهم المتن من خلال مراياه الهامشية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أعتقد أن اكتشاف الهامش، بالنسبة إلي ككاتب، هو وسيلة كي أتعلم اللغة. بطبيعة الحال نتعلم اللغة ونرثها، ونحن نحب هذه اللغة العربية التي تعتبر في رأيي أجمل لغات العالم، لكن تعلم لغة جديدة وتجديد اللغة يتم من خلال الكلام والناس. وعادة لدى المحرومين من الكلام والتعبير تجد اللغة الأولى التي لم تكتب بعد والتي تعلمنا الكتابة. - صرحت في مناسبة سابقة بأن حرب 1967 غيرتك جذريا. هل استوعبنا دروس تلك الحرب جيدا، وماذا كان وقع الأحداث التي شهدها لبنان في السنتين الأخيرتين عليك؟ < أولا حرب67 غيرت المنطقة، فقد أعلنت نهاية المشروع القومي والآن ندفع ثمن هذا الانهيار، فالأنظمة التي نشأت كي تعبر عن المشروع الوطني بعد وفاة جمال عبد الناصر تفككت أو تحولت إلى ديكتاتوريات. والمشروع الوطني لم يعد له حامل فاستبدل بالمشروع الأصولي، الذي هو مشروع مأزوم، لأنه ليس توحيديا بل تفكيكيا. والمنطقة في حاجة إلى توحيد، وليس إلى تفكيك. الآن نرى آثار هذا التفكيك في العراق، ونرى مؤشرات التفكيك في بلد مثل مصر.. إلخ. أما لبنان، فقد دخل منذ 2005 في منعطف خطير جدا. ولدي قناعة مفادها أن 2005 كان يمكن أن تكون بداية للبنان، لأنه في تلك السنة تم طرد الاحتلال الإسرائيلي من لبنان، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي التي يخرج فيها جيش الاحتلال بلا قيد أو شرط، وكان لبنان أول بلد عربي ليس مضطرا لتوقيع معاهدات مع إسرائيل، رغم أن السوريين الآن سيدفعوننا دفعا إلى توقيع سلام مع إسرائيل حين يوقعون. وأنا شخصيا لا أجد مبررا لتوقيع هذا السلام قبل حل نهائي للمسألة الفلسطينية وهذه مسألة معقدة. كانت قناعتي أن النجاح في دحر الجيش الإسرائيلي في سنة ألفين قد تم بفعل مقاومة طويلة، آخر مراحلها كانت المقاومة التي قادها حزب الله، فالمقاومة بدأت في سنة 1982 مع الحركة الوطنية واليسار اللبناني ووصلت إلى إحدى ذراها في سنة ألفين بدحر الاحتلال بقيادة التيار الأصولي الذي يقوده حزب الله. أنا كانت قناعتي أنه لو جمعنا الإنجازين المتمثلين في دحر الاحتلال الإسرائيلي وإجبار الإخوة السوريين – أنا لا أضع في نفس المستوى جيشا عربيا مع جيش الاحتلال الإسرائيلي- على الانسحاب من لبنان، لكنا وصلنا إلى وطن حقيقي. ولكن البنية السياسية اللبنانية لأسباب تتعلق بطبيعتها الطائفية تحسن الطرح ولا تحسن الجمع. - لِمَ لم ينجح اللبنانيون في استغلال الفرصة التي أتاحها هذا المنعطف ؟ < أعتقد أننا أضعنا فرصة تاريخية كبرى، لأن انتفاضة الاستقلال ودحر الاحتلال الإسرائيلي لم يؤديا إلى مبنى سياسي جديد. وهذا يعود في رأيي إلى أنه لا يمكن أن تبني وطنا بقوى طائفية مرتبطة بشكل ما بالخارج. نتكلم اليوم عن الصعود الأصولي الشيعي، الذي لم يكن ممكنا لولا إيران، ونتكلم اليوم عن بلورة الطائفة السنية الكريمة، وهذا لم يكن ممكنا لولا المملكة العربية السعودية. لذلك أعتقد أننا أضعنا فرصة تاريخية كبيرة. ولهذا أنا حزين. صحيح أنني أعتبر نفسي فلسطينيا، وفلسطينيتي هي بحكم الاختيار الحر، لأنني أنحاز إلى المظلومين والمضطهدين، ولكن هذا وطني لبنان، وأنا حزين، لأننا فشلنا في استعادة لبنان الذي عاد، للأسف، إلى الساحة الإقليمية والدولية وإلى التقاذف والتفكك. - ماذا عن المصالحات الناشطة في لبنان في الآونة الأخيرة، هل يمكن أن تشكل فسحة أمل تساعد على تدارك الزمن الضائع؟ < لا أمل في الطبقة السياسية اللبنانية، ولكن أن يتصالحوا أفضل من أن يذبحونا ويذبحوا بعضهم البعض. أنا أعتقد أن هذه المصالحات هي هدنة في انتظار التطورات الإقليمية القادمة: هل سيكون هناك سلام إسرائيلي أم لا ؟ هل ستكون ثمة حرب إسرائيلية على سوريا؟ هل ستكون هناك ضربة أمريكية لإيران أم لا؟ ما هو مصير الاحتلال الأمريكي للعراق؟ على الأقل، يظهر أمراء الطوائف، بضغوط شتي من العالم والعرب، القليل من الحكمة، بتأجيل خلافاتهم إلى أن تتضح الأمور في المنطقة. لأنهم يعرفون أنهم عاجزون عن حسم أي شيء. بهذا المعنى المصالحات شيء إيجابي، وهي تتيح للناس الخروج إلى الشارع، وهو ما لم يكن ممكنا في السابع من أيار. أفضل أن يخرج الناس إلى الشارع وأن يذهب الأبناء إلى مدارسهم. أما أن ننظر إلى المصالحات على أنها حل فأنا أعتقد أن هذه القوى لا تملك ربطا ولا حلا. - ناضلت من أجل العلمانية وضد الطائفية، ما الذي يمنع من تحقيق هذين الهدفين؟ < ناضلنا ونناضل وسنناضل من أجل العلمانية وضد الطائفية. أنا أعتقد أن الإنسان الذي يصنف بحسب طائفته أو انتمائه الديني يفقد مقومات المواطنة. فالمواطنون متساوون، هذا شرط إنساني، صار من العيب الحديث عنه. أنا أعتقد أن فشل المشروع العلماني ومناهضة العلمانية ناجم – وهذا ما يجب أن يدرس- عن الفشل العميق للمشروع القومي في المنطقة. وربما كانت آخر علامات المشروع الوطني في المنطقة هي منظمة التحرير الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية التابعة لها. والتي كانت آخر تعبيراتها الوطنية يوم مات أو قتل ياسر عرفات. ومنذ ذلك الحين والحركة الوطنية الفلسطينية جامدة وتستجدي سلاما لن يأتي، لأنك لا تستطيع أن تتحدث عن السلام مع محتل، إلا إذا كنت قادرا على الحديث عن الحرب. وهزيمة الحركة الوطنية قادت وتقود إلى التفريخ الجديد للنزعات الأصولية والطائفية. إضافة إلى دور المشروع الأمريكي، بالأساس، منذ حرب المجاهدين في أفغانستان- الناس تنسى، فقد بدأت الأصولية في حرب المجاهدين في أفغانستان، التي نظمتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بدعم من الاستخبارات الباكستانية والمال الخليجي والسعودي بشكل أساسي- فقدرتنا على مقاومة هذا المشروع، المرتبط بالدولة المهيمنة على العالم اليوم، بدأت تضعف عندما لم نستوعب دروس حرب1967 وحولنا حرب أكتوبر إلى وسيلة للاستسلام كما فعل أنور السادات في كامب ديفيد. وفي رأيي منذ ذلك الحين والانهيار يعم المنطقة العربية. - ما الدور الذي يضطلع به المثقف العربي من أجل فهم هذا الوضع وتقديم المقاربات الممكنة لتجاوزه؟ < كي نتحدث عن دور المثقف لا بد أن نحدد مفهوم المثقف. إذا كنا نقصد بالمثقف الشخص المتعلم، فإنني أعتقد أن دوره أن يلتحق بالطبقة أو الفئة التي ينتمي إليها. أما إذا كان المثقف صاحب رأي في القضايا العامة، وهو حر ومستقل ويتبع ضميره، ولا يخضع لسلطة ولا يتعامل مع سلطة، ولا يراعي سلطة سياسية أو سلطة مالية أو سلطة نفوذ، ولا ينبهر بالغرب ولا يستسلم أمام التراث. إذا كان هذا هو المثقف، الذي هو نادر، فأنا أعتقد أننا، نمر الآن، بمرحلة تشبه ما بعد الثورة العرابية في مصر، أي مرحلة تفترض إعادة التفكير بمشروع جذري، ثقافي وفكري لإعادة تنظيم المعني، أي ما معنى أن تكون عربيا؟ ما معنى العروبة اليوم؟ ما معنى مواجهة المشروع الإسرائيلي؟ هل نحن نواجه المشروع الإسرائيلي لأننا نكره اليهود ونريد طردهم ؟ لأنه إذا تبنيت المنطق الفاشي والرجعي والطائفي لعدوك وهزمته تصير عدو نفسك. تجب إعادة بلورة المفاهيم كي نستطيع التأسيس لنهضة عربية جديدة. نحن، في رأيي، في مرحلة إعادة التفكير من أجل التأسيس لنهضة عربية جديدة. لا يمكن أن نصبح شيعة وسنة لأننا مجتمعات متعددة ومتنوعة < أنت متابع للشأن الفلسطيني، وأنت فلسطيني بالاختيار كما قلت. في السنوات الأخيرة، تحدث الكثيرون عن فقدان الفلسطيني لذلك التفوق الأخلاقي في مواجهة المحتل الإسرائيلي، إلى أي حد يعتبر هذا الرأي مصيبا؟ - الضحية دائما متفوقة أخلاقيا على الجلاد. والتصرف كضحية لا يعني الاستسلام, بل حسن التصرف. و في تقديري، القول بعدم وجود مدنيين في إسرائيل كلام جنوني، فافتراض أن طفلا إسرائيليا سيصبح جنديا يستلزم انتظار حتى يكبر لنرى. ثم إنه إذا «جاوبتنا» إسرائيل بنفس المنطق واعتبرت أنه لا يوجد ثمة مدني فلسطيني، ستبيد المخيمات. فهذا الكلام ليس في مصلحتنا، إنه كلام أحمق. في رأيي، التفوق الأخلاقي يكون بتحديد معنى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. نحن نقاوم الاحتلال الإسرائيلي، لأنه احتلال وتطهير عرقي وعنصري وطائفي، ومثير لأحقر الغرائز الإنسانية، ويذكرنا بأحقر مراحل التاريخ الإنساني. إذا قاومت هكذا مشروع لهذه الأسباب يجب أن تقدم بديلا له، أي رؤية إنسانية وأخلاقية نبيلة. نحن لا نقاتل من أجل أن نموت. طبعا احتمالات الموت في أية معركة كبيرة، لكن أنت تقاتل ليس من أجل أن تموت، بل من أجل أن تعيش، أنت تموت دفاعا عن الحياة، ولا تموت حبا في الموت. وأنا لست ضد العمليات الانتحارية. في بعض المرات العمليات الانتحارية ضرورية، لكن لا يمكن أن تنفذها في مقهى، لأنك تفقدها المعنى. أما إذا نفذت ضد الجيش يعرف الشخص أنه لا يرتمي في أحضان الموت، بل يموت في سياق نضالي. نحن نقاتل من أجل أن ننتصر وليس من أجل الموت. أعتقد أن إعادة بلورة هذه المفاهيم الأخلاقية من جديد ضرورية للفلسطينيين وللعرب. نحن لا نقاتل من أجل الانتقام، فلا شيء يروي غليل فلسطيني فقد أرضه وأهله وقبر أبيه وأجداده واجتت أشجار زيتونه. لا يوجد انتقام يروي غليل الضحية. لا تقاتل الضحية من أجل الانتقام، هي تقاتل كي لا يكون هناك ضحايا جدد، كي تنهي استغلال الإنسان للإنسان وقهر الإنسان للإنسان وتحطيم الإنسان للإنسان. وإلا سيصبح نضالك غرائزيا وبدون معنى. < بهذا المعنى إسرائيل تريدها حرب غرائز حتى يسود خطابها - طبعا إسرائيل تريد أن نذهب إلى الغريزة، لأن إسرائيل تريدنا أن نشبهها، ونحن لا نستطيع أن نشبه إسرائيل. طبعا المعلومات تقول إن حل الجيش العراقي من قبل الحاكم الأمريكي بريمر كان مطلبا إسرائيليا، لتفكيك العراق حتى ينقسم إلى شيعة وسنة. لكن نحن لا يمكننا أن نصبح شيعة وسنة، لأننا مجتمعات متعددة متنوعة، كما عندكم لا يمكنكم أن تصبحوا عربا وبربر، هناك فقط المغرب. نحن لا نستطيع أن نصبح مثل إسرائيل. هي تريدنا أن نصبح مثلها حتى تبرر لنفسها أخلاقيا الجريمة التي ارتكبتها بطرد شعب كامل من أرضه. نحن قتالنا ضد الغزو الصهيوني لفلسطين والمشرق العربي، هو قتال من أجل العدالة. وفي القتال من أجل العدالة هناك مكان للجميع، بما فيهم اليهود، نحن لسنا ضد اليهود، ولا يجب أن تكون لنا مشكلة مع اليهود، نحن مشكلتنا مع الفكر الصهيوني العنصري، فالصهيونية في الأصل لم تستطع أن تستولي على اليهود في العالم، إلا بعد مذابح الهولوكوست، وأنت تستطيع أن تسأل مواطنك المناضل الكبير أبراهام السرفاتي أو مواطنك الكاتب الكبير إدمون عمران المليح، اللذين علمنا الأخلاق والقيم. فالمليح يهودي وهو جزء مني. وبهذا المعنى نحن لا نقاتل اليهود، نحن نقاتل مشروعا كولونياليا، عنصريا ومدمرا،وهو مدمر لليهود أنفسهم، لأنك لا تستطيع أن تدمر الآخر دون أن تدمر نفسك. وإسرائيل مشروع انتحاري. فإسرائيل كمشروع لا تشبه إلا المشروع الإفرنجي الأحمق، الذي لم يؤد إلا إلى خراب ودمار.