قبل نحو شهرين ونيف، انتشرت إشاعة عن وفاة فيروز.. فيروز التي أسكنت لبنان صوتها. كذبت العائلة الإشاعة، وقالتإن الفيروز لايزال يغني. الفيروز حجر كريم لا يموت، وفيروز غنت للحجر والشجر والبشر بصوت يستميل حتى قلوبالحجر. لم تمت فيروز وتبخرت الإشاعة، وظل خيط الأمل حيا، ففيروز وطن يغني ويرتل الحياة ترتيلا. لم تمت فيروزواحترقت بيروت. لم تمت بيروت وهي تتنفس بقلب مفجوع تحت الدمار. لم تمت بيروت لكن «نيرون» لايزال يتجول بها،نيرون البيروتي فساد يمشي على الأرض خيلاء في ظل فشل سلطة طغت فوق الأرض حتى فاض الطغيان وانفجر. انطفأ حريق روما منذ قرون خلت، ولم تنطفئ لعنة التاريخ على حاكم مستبد ومخبول مات وانبعثت هي من الرماد. قدتكون القصص التاريخية نسبت إليه أيضا ما لم يرتكبه، ويعوز بعضها التدقيق، لكن، لا يُذكر نيرون إلا كمراهق سياسةفاسد، وعراب موت دفنته روما تحت أقدامها حينما انبعثت من ألسنة اللهب، وستنهض بيروت الثكلى كما نهضت من قبل،لكن بأي يد ستلملم الجرح النازف؟ باليد التي طعنت وطغت أم بيد الغريب الذي عزا بيروت بلغتها العربية، باليد التيأُثكلتها، أم التي تفتش في جيبها عما تركه حاكمها؟ بيد من حملوا المكانس وراحوا ينظفون آثار الدمار والدم المسكوببغزارة، أم ليست هناك يد تستطيع أن تمسح الدم المنهمر من عيون الأرز دمعا؟ بيروت تبكي دما في ليل بهيم لا يظهر فيه «عود الثقاب» الذي أشعل النار، لكنها تعرف الحطاب الذي هيأ الموقد، وظلتتصرخ في وجهه شهورا أن يتنحى عن السلطة. شهور واللبنانيون يصرخون أن الكيل قد طفح في ظل أزمة اقتصادية لميروا لها مثيلا منذ الحرب الأهلية، شهور وهم يطرقون «جدار الخزان» ليقولوا إن الغضب المتراكم أطنانا بسبب الفشلفي تسيير البلد على شفا الانفجار، حتى كورونا لم تكتم أصوات الغضب، ولم تمنع الكمامات تصاعد الشعارات فيسماء بيروت كي يسقط الحكم الفاشل، وحدث أن كان الانفجار كيميائيا، أطنان من نترات الأمونيوم التي ظلت عالقةبالمرفأ سنوات دون أن يجري التخلص منها أو حفظها بطريقة آمنة، فمن يسمع صوت الكيميائيين ويعير اهتماما لمعادلاتالتفاعل في سلطة معادلتها مبنية على البقاء في الكرسي وتنمية رأس المال الخاص طبعا؟ ومن المضحكات المبكيات أنالمتهم يريد أن يفتح تحقيقا في جريمة هو المتهم فيها والشهود بالآلاف في الشوارع، صارت التحقيقات مهزلة الدولالفاشلة، فلا أحد يتنحى استحياء من فشله إذا لم يرغمه الشارع على ذلك، لا أحد يعترف بالخطأ أو الخطيئة ويتنحى منتلقاء نفسه، لا أحد يدخل السجن بعدما تسبب في كارثة، لا أحد يتوب. إنها بعض أعراض داء السلطوية المزمن الساكنفي وعي ولاوعي السياسيين المتسلطين. تذهب التحقيقات ولا تعود، يقولون إنها ستذهب بعيدا، ونعتقد أن «بعيدا» كلمةمثيرة تحيل على رؤوس كبيرة قد تسقطها التحقيقات، لكن مع توالي الخيبات صرنا نعلم أنها تذهب بعيدا حيث لا يراهاأحد، حيث تنام طويلا، حيث تصير سرابا يخدع العين ولا يروي العطش، وحين تذهب لا تعود، تختفي في ظروف غامضة،تأسرها الأشباح، فلا نرى التحقيق ولا ظله ولا خفي حنين. و«نيرون» البيروتي يقول إنه سيحقق، واللبنانيون يقولون له أنت الفاعل غادر، يضع الطين في أذنيه وينطق على هواه. نيرون الذي أحرق بيروت ينام بين ظهرانيها، يستيقظ حين ينام الناس ويتخلصون من شغب السؤال: ماذا فعلت؟ وما الذيلم تفعله؟ ومن أين لك كل ذاك؟ فنيرون لا يحب أسئلة الميم، يحقق ولا يحقق معه، وإن كثر عليه السؤال أشار بالسبابة إلىلصوص يحومون بالبيت، وقراصنة ينتظرون فرصة الانقضاض على سفينته الملأى بالهموم والتائهة في بحر التاريخ بعدمااستولى على البوصلة. نيرون الروماني كان محبا للعزف والغناء، وكان له وزير فيلسوف رواقي يدعى سينيكا، أفتاه بأنيقتل أمه بعدما أقنعه بأنها تتآمر عليه، أمه التي تزوجت من الإمبراطور كلاوديوس وحملته على تبني نيرون، ثم سممتهليخلفه نيرون على العرش. وجاء في كتاب «الغضب» أن سينيكا قال عن مجتمع زمانه إنه «محتشد من الوحوشالكاسرة، والفارق أن الوحوش تكون فيما بينها وديعة فلا ينهش بعضها بعضها، أما البشر فلا شأن لهم غير أن يمزقواحدهم الآخر»، ومن سخرية القدر أن من أفتى الحاكم بالقتل كان ضحية حاكمه بأن أمره بأن يضع حدا لحياته فانتحر،فانطبقت رؤيته للمجتمع على بيئته السلطوية، وكم من وزير سينيكا ومن نيرون بعثهم التاريخ في زمننا. بيروت احترقت ولم يحاسب نيرونها بعد، لم يسقط، لم يدخل السجن، لم يحاكم أصلا، بل سيحقق، لكن بيروت ستحيا،وسيذكره التاريخ كنيرون الذي مات وظلت روما حياة تنبض. بيروت احترقت وفيروز التي كثرت حولها إشاعات الموت حتىفي الانفجار الكبير غنت عن بيروت وخلدتها بصوتها مدينة أبية عصية على الموت. تقول بعض التفسيرات العلميةالكوسمولوجية إن «البيغ بونغ» (الانفجار العظيم) خرج منه الكون حيا، فهل تخرج بيروت جديدة من مرفئها المنفجر،ويفرز الفيروز من الحصى؟